كان يحمل دمه على كفِّه، وهواء ملوَّث يدخل إلى أنفه الكبير. هواء فيه رائحة كبريت. ويسمع بين الحين والآخر صوت أنين يخرج من أعماقه، كأنَّه صوت عالم يتداعى.
إنَّه يشعر بتمزُّق في رئتيه، وهو يعدو إلى مكان ما بين الأبنية الداكنة؛ لكنَّه يحبُّ أن يشاغب في الخريف، ويتباهى بأنَّ غيمة سوداء تجمَّعت في الأفق البعيد كثياب امرأة ثكلى، لا تستطيع أن تحدَّ من جموحه، وبأنَّ الريح عاجزة عن تحطيم وجهه.
وعندما كان رفاقه يلجأون إلى مخابئهم تحت الشرفات والجسور، وفي عربات القطار الصدئة، هاربين من المطر والهواء، كان هو يتخيَّل أنَّ الطبيعة عجوز شمطاء، تحاول أن ترعبه، وتقتلع من نفسه شهوته الدائمة إلى التحدِّي.
ومع ذلك كان يخاف من الموت، ولا يفهم كيف أنَّ قوَّة ليس لها جسد قادرة على تهديم جسده… ولعلَّه كان يعتقد أنَّ وجوده في الحياة شيء رائع، فإذا غادرها سيفقد حرِّيَّته إلى الأبد. وكانت تتراءى له في بعض الأيَّام صُور قد لا تخطر على بال غيره من الناس: ذلك الحجر الذي يضعونه فوق صدره بعد أن يموت… الظلام الذي يطبق على روحه… التراب الذي يهيلونه عليه… كيف سيتنفَّس من خلاله؟! كيف سيرى نور الشمس؟! كيف سيخرج إلى العاصفة كطائر جبليٍّ؟! كيف سيعود إلى بهجته؟! وكيف سينتفض من تحت الأرض ليرقص في العراء؟!
في الضجيج المتمادي لأسئلته تلك، أحسَّ بأنَّ الخطر يحْدق به، وأنَّ مصيره يتأرجح بين رغبته في الحياة، ورغبة الأشرار في قتله والتمثيل بحسده الضعيف.
ففي مساء رماديٍّ خرجوا إليه، وجوهاً صفراء، وعيوناً كأوكار الوطاويط… قاماتهم عالية، وفي أيديهم الهزيلة بنادق مخضَّبة بالعَرق والدم.
رآهم يغادرون موقف الحافلات، ويهرولون في الشارع، ورؤوسهم لا تظهر من معاطفهم السوداء.
كانوا يحثُّون الخطى تحت سماء مكفهرَّة، توقَّفت للتوِّ عن المطر، ويلاحقونه إلى كلِّ مكان يتَّجه إليه.
توارى عن أنظارهم، وقدماه لا تلامسان الأرض، فهم رجال كثيرون، وهو رجل واحد، وليس معه شيء ليدافع به عن نفسه غير أظافره.
وصل إلى زقاق ضيِّق، فتنشَّق رائحة مرض…
سمع ثرثرتهم وراءه، فأسرع إلى حديقة عارية، وهو ينظر حوله بفزع.
ظهروا له بين الأشجار، فخفَّ إلى بيت مهجور ليختبئ فيه، غير أنَّهم لحقوا به إلى هناك، فطار من نافذة…
إلى أين ستحمله رجلاه، بعد أن ضيَّقوا عليه الدنيا؟
تصوَّر أنَّه ملاك في قفص ، وأنَّهم شياطين… ومرَّت في خياله مشاهد الرعب التي تحيط بعالمه؛ فهؤلاء الرجال ما برحوا منذ عصور يقدِّمون الذبائح لإله كافر…
سمع دقَّات قلبه المتسارعة، وهو يعدو في حفرة ماء، وهم لا يفقدون له أثراً.
صرخ في قرارة نفسه:
يا أبناء الأفاعي!
ثمَّ تنفَّس بصعوبة، وأردف:
لن تقتلوا حيواناً برِّيّاً!
ظنَّ أنَّه ابتعد كثيراً، فأخذ بعضاً من الراحة، وهدَأت روحه لحظة، ثمَّ تناهى إلى أذنيه صوت، فأطلق ساقيه للريح…
كان يسابق اللحظات دون أن يتعب، فوصل إلى طريق مزدحم بالسيَّارات. لم ينتبه إلى شيء، فاصطدم بسيَّارة مسرعة، وتهاوى.
صاح به سائق السيَّارة، وهو يستعجل إليه بقلق:
هل جننت؟!
وقال آخر:
لعلَّه سكران!
مسح بكفِّه المرتجفة دماً عن وجهه، وسأل باضطراب:
هل أنا بخير؟
أجابه السائق:
تبّاً لك! جرح بسيط…
- كانوا يطاردونني… رجال يحملون بنادق في هواء الخريف…
-
أنت مخمور يا رجل… ألديك زوجة لنتَّصل بها؟
-
أبداً!
-
أب… أخ… صديق؟!
-
لا أحد… وُلِدتُ من شجرة… هل ذهب الرجال المسلَّحون؟
-
أيُّ رجال؟!
-
هؤلاء الرجال هناك… يريدون أن يضعوا حجراً فوق صدري…
-
يبدو أنَّهم ذاهبون إلى حفلة، ولا يضمرون لك شرّاً…
-
والبنادق التي معهم؟
-
ليست معهم بنادق… إنَّهم يحملون مظلاَّت… وها إنَّ أحدهم قادم ليرى ما حدث!
عندما سمع ذلك، سرت في شرايينه رعشة أمل. نظر بعينين برَّاقتين إلى الناس الذين يحيطون به. كان أحدهم يحمل مظلَّة. تفرَّس فيه طويلاً، واشتعل فرح غامر في محيَّاه.
إجتاحته رغبة في الغناء، ولم يكترث لقطرات الدم المتساقطة من جبينه.
كان الهواء يُصارع أغصان شجرة باسقة، امتدَّت كشبح في السماء. دخلت نسمة نقيَّة إلى حياته، فاستقبلها بذراعين مفتوحتين.
نهض عن التراب وهرول إلى جنونه، والرجال ينظرون إليه باستغراب، وعلى شفاههم أسئلة صعبة.
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي – سيدني