من كتاب “أفكار خارج العزلة” يصدر عام 2022
أخبروني عن رجل ترك الحضارة وذهب إلى مغارة ليقيم فيها، ويعيش على الكفاف، لاعناً البشر، وجنونهم، وشهواتهم، وقيَمهم المزيّفة.
تملّكني فضول، وأحببت أن أعرف عن الرجل وما آلت إليه حاله، بعد أن أصابته خيبة مريرة أكلت روحه، وقذفت به قذفاً إلى المجهول والبراري البعيدة. ولمّا وصلتُ إليه بعد عناء، بسبب المسالك الوعرة والمرتفعات الشاهقة التي تحتضن المغارة، وجدته قاعداً على الأرض، مرتدياً أسمالاً ممزّقة، وشعره أشعث نفخت فيه العاصفة، فكأنّه شعر جِنّيّ خارج من القبور. وكانت عيناه تلمعان بنور عجيب، لعلّه نور الحكمة والتأمّل.
فوجئ بحضوري، وعندما حيّيتُه، ردّ التحيّة بإشارة من يديه، فقلت له: ليس عليك أن تمتنع عن الكلام، فلا أحد يسمعنا في هذا المكان المنعزل.
لكنّه لم يحرّك ساكناً، فهمَمت بالعودة إلى حيث أتيت. عند ذلك نزع قناع الصمت وقال: لا تذهب…
عدتُ خطوة أو خطوتين إلى الوراء، وابتسمت، فأجابني بابتسامة فاترة. قلت له وأنا أتصنّع البساطة في كلامي: كنت مارّاً من هنا، فصادفت هذه المغارة، وأردت أن ألقي نظرة عليها، فأنا أهوى الرسم، وتسحرني الطبيعة، وكلّما وجدت موضوعاً جديداً أحاول أن أرسمه، فأفرح بأنّني أبتكرتُ شيئاً من الجماد… الإبداع يشبه السحر…
كان صامتاً لا ينبس ببنت شفة، فتابعت كلامي: يبدو أنّك تميل إلى الوحدة والابتعاد.
عند ذلك حرّك لسانه، وبدا لي كأنّه طفل صغير يتعلّم النطق، فتخرج الكلمات مبعثرة من فمه… قال: نعم… جئت إلى هنا من زمن… بعد أن شهدت بالحقّ، وأدركتُ أنّ البشر لا يحبّون الحقّ.
ضحكت عالياً فارتجّت المغارة واهتزّت أضلاعها، ثمّ أجبته: سامحني يا سيّدي، فأنت لم تخترع جديداً. هل كان الأنبياء والفلاسفة والمبشّرون أفضل حالاً منك؟… وهل كان ابن الإنسان يرفض أن يمكث بين قومه في المدن، ويفضّل الحياة في الغابات والقفار النائية؟
قال لي، بعد أن تنفّس بعمق: ليس صادقاً المثل الذي يقول إنّ الساكت عن الحقّ شيطان أخرس. ففي عصرنا هذا أصبح الذي يقول الحقّ هو الشيطان الناطق بالفجور، ويستحقّ أن يُرجم في الساحات…
-ألذلك جئت إلى هنا؟
-جئت لأنّ بني قومي كلّهم أبرياء… يحدّثونك عن القيَم، فتظنّ أنّ البشريّة خلت من الشرور والفظائع، وليس من آدميّ فيه خطيئة. مزعجون هؤلاء المتصنّعون، والممثّلون، والمدّعون، والملثّمون، والمتلوّنون… فعندما تعاشرهم وتسمع أكاذيبهم، يتراءى لك أنّ الدنيا بخير، ولا حاجة لإنسان مثلي أن يتخلّى عن فردوسها ويبحث عن ملجأ في فردوسه المفقود.
أصابتني تلك المحاضرة في الصميم، وتذكّرت جحافل البشّر الذين يقولون شيئاً ويفعلون نقيضه، والمتلبّسين بلباس الفضائل، الذين ينشرون الويل والثبور، ويصوّرون الله بأنّه قاتل، وجبّار وعنيد. ثمّ ينشرون الدمار في المدن، ويرتكبون الفظائع، وكلّ واحد يدّعي أنّ الله له وحده دون سواه… كما يوكّلون أنفسهم محامين عن السماء، وكأنّ الله نشر إعلاناً في الصحف، يطلب فيه النجدة من أهل القانون…
قلت في نفسي: ما لي ولهذه الأفكار التي قد تزيد الرجل تعقيداً؟ وكم أرجو أن أقنعه بالعودة إلى قومه!…
واجهتُه بنبرة العارف المتيقّن: إنّ ما تذهب إليه صحيح، لكنّ من الخطأ أن تتخلّى عن قول الحقّ لتعيش في صمت. إنّ الماء الذي يحزّ في الصخر يقطعه يوماً بعد يوم، وإذا كان البصر لا يقاوم المخرز، فالبصيرة تقاوم السيف والبندقيّة.
هزّ برأسه رافضاً أن يتزحزح من مكانه، فيئست من محاولة إقناعه برؤيتي، وودّعته قائلاً: نحن مختلفان أيّها الرجل الذي لا أعرفه، فأنت شيطان أخرس، وأنا شيطان يصرخ بالصواب. وسأظلّ أكتب وأقرأ وأعظ في المدن، مؤمناً بفكرتي، وإذا كان هناك من يكرهون الكلمة، فعندي أبراجٌ لها، لا يطالها رمح قائد ولا ملك عظيم. وإذا كان في المجتمع مَن يعتقدون أنّ أظافرهم يجب أن تكون في كلّ جهة، ولا تسير مركبة أو قافلة إلاّ طوع أمرهم، فلديّ مبرد جائعٌ يلتهم الأظافر الطويلة، ومنطقي هو الأمر على الذين يأمرون بالباطل ويعجبون بأنفسهم في مرايا تظهرهم أكبر من أحجامهم أو أعظم مقاماً… صدّقني أيّها الرجل التعيس: إنّ الشجاعة تغلب الكثرة، ولا ينتصر تحت الشمس إلاّ الجريء الذي يعتبر أنّ كلامه للخلود، وأنّ سكوته أبشع من جنازته.
***
جميل الدويهي: مشروع “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – سيدني 2022