تحقيق كاتيا شمعون
في بلد نتنافس فيه على المراتب الاولى عالميا في الفقر والفساد والتضخم والدين العام والغضب، من الطبيعي أن تخرج الشتائم من أفواهنا على عدد الشهيق والزفير. نحن نتنفس اذا نحن نشتم . إذا كنت ممن يطلقون السباب فارفع يدك..اما اذا كنت من النسبة الضئيلة او المنقرضة التي لا تتفوه بالكلمات النابية في العلن او السر، فهنيئا لك.
يقول الكاتب الاميركي مارك توين:” عندما تكون غاضبا، عد للأربعة؛ وعندما تكون غاضبا جدا، اشتم”. فاليد التي “ما فيك عليها” اشتمها فتنفس غضبك وتتفادى على الأرجح، تعاركا وتضاربا بالايدي او السلاح.
تتعدد المواضيع التي تدور حولها الشتائم من الكفر الى المثلية، فالتشبيه بالحيوانات والتعصب العنصري، بالاضافة الى الدين والأكثر شيوعا هو ذكر الام والأخت. وتشير الأبحاث الاميركية الى أن “الفرد العادي يستخدم 10 ألفاظ نابية على الأقل في اليوم الواحد”. كما يلجأ الناس الى الألفاظ البذيئة ليس فقط في حالات الحزن او الغضب او العنف او الكره او الظلم او الالم او عند حصول سوء تفاهم، انما ايضا في حالات التحبب والتسلية والترفيه عن النفس.
لنبدأ، كيف نعرف الشتيمة؟ لماذا كثرت الشتائم في لبنان، وعندما تكثر الشتيمة في مجتمع ما، انما هذا مؤشر على ماذا؟ هل لكل مجتمع شتائمه، هل الشتم “عيب”، هل فعلا نرتاح عندما نشتم، هل هناك من شتائم مقبولة وأخرى غير مقبولة، اذا الرجل شتم ( ما فيه مشكلة) انما هل للمرأة نفس هذا الحق، هل فعلا تعبر الشتيمة عن صاحبها او عن الذي توجه له؟ هل تصبح الشتيمة من العادات السيئة للإنسان وبالتالي عليه ان يتعالج منها؟ متى تصبح الشتائم حالة مرضية؟ هل تتطور الشتائم مع تطور الحياة؟ لماذ التركيز في الشتائم على الاعضاء التناسلية للرجل والمرأة، هل هي تعبير عن الغضب او للدلالة على ذكوريّة الرجل؟ ما مدى ارتباط الشتيمة بالاخلاق”.
الرياشي
تقول المعالجة النفسية ساندرا الرياشي: “ان الشتيمة هي رد فعل فطري على الأمور المزعجة وهذا الامر يساعد على تخفيف الضغط على الاشخاص، كما يساعدهم على التعبير عن غضبهم والكبت الاجتماعي . كما ان البعض يلجأ الى استخدام الشتيمة للهروب من الضعف النفسي الداخلي ولإثبات ذاتهم للمحيطين بهم”. وتضيف:” كلما كانت درجات القمع والكبت مرتفعة في المجتمعات ، كلما ارتفعت درجات الغضب والضغوطات النفسية تتعدد مهارات السباب والشتائم بين العالم لا سيما في الدول التي تعاني من أنظمة طائفية، من هنا تأتي الشتائم كفعل مقاومة وكسر لقيود تلك الأنظمة “.
وأشارت إلى أن “الشتائم نابعة من المحرمات الجنسية في المجتمعات العربية، وهي مرتبط بالأعضاء التناسلية وهي بذلك تهدف الى الاساءة او التقليل من المكانة الاجتماعية للشخص الذي توجه اليه الشتيمة”. ولفتت الى ان “التركيز في اغلب المجتمعات لا سيما الشرقية والعربية منها على الشتائم المرتبطة بالأعضاء التناسلية بخاصة عند النساء، مرتبطة بالعار وبالشرف، وتأتي الشتيمة كتعبير عن انتهاك شرف الشخص من خلال شتم احد أفراد أسرته. من هنا يأتي التنافس بين الرجال على استعراض قدراتهم الجنسية في فتك الأعراض”.
وأكدت الرياشي انه “بعيدا عن الأخلاق والدين والمثل العليا، للشتائم فوائد صحية نفسية وجسدية. اذ انها تعزز قدرات الفرد النفسية وقوته وتعطيه قدرة كبيرة على تحمل الالم وتحفز الجهاز العصبي، كما تساعد على إفراز كمية كبيرة من الأدرينالين في الدم. اضافة الى هذه الأمور، ان الشتائم تساعد الفرد على الشعور بالسلطة والسيطرة لا سيما في حال تعرضه لموقف محرج، حينها يلجأ الى الشتائم كي يعدل من وضعيته، فيتحول من شخص مستضعف الى شخص قوي قادر على إثبات نفسه والخروج من ذلك الموقف المحرج”.
وعن الوضع النفسي للشعب اللبناني في هذه المرحلة، توضح الرياشي أن “الضغوط النفسية التي نعيشها في لبنان، أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية ومرد ذلك الى الأزمات السريعة التي أصابت مجتمعنا وخلال فترة زمنية قصيرة، من الأوضاع الاجتماعية الى جائحة كورونا والاوضاع الامنية والاقتصادية . هذه الضغوط النفسية بدأت تظهر بطرق متعددة، وعندما لا يستطيع الفرد التعبير عن حاله والتخفيف من قلقه وبالتالي التنفيس عن غضبه، حينها يلجأ للألفاظ السيئة او الشتائم . وهذا الامر نجده منتشرا بين الناس على مختلف مستوياتهم الاجتماعية والتعليمية وليس فقط محصورا عند فئة معينة منهم. لان الشتائم هي السبيل الى التفريغ الانفعالي في الأوقات الصعبة لانه من خلال التلفظ بها تطلق الطاقات السلبية من الداخل الى الخارج”.
واعتبرت الرياشي أن الشتيمة “هي تفريغ للضغوط النفسية والغضب الداخلي، الا انها ليست العلاج لحل اي مشكلة، لانها لا تزال قائمة ولن تتغير عبر السباب، لا سيما اذا كان الشخص لديه مشاعر كبت داخلية او لديه شعور بالنقص او العجز او لديه مشاكل في عمله او محيطه. يمكن ان تكون الشتيمة تفريغ موقت لهذا الموقف او الوضعية، انما من المؤكد ان المشكلة لا تزال قائمة، لذلك على الفرد استبدال الشتائم بأمور أخرى مثل تمارين الاسترخاء النفسي او التأمل او عبر تعلم مهارات لتطوير التواصل الاجتماعي او ممارسة التمارين الرياضية مثل المشي، وطبعا بامكانه استبدال الطاقات السلبية باخرى إيجابية”.
ومن باب الحشرية نسأل عن موضوع المرأة والشتائم واستعمالها الألفاظ المتعلقة بالأعضاء الجنسية الذكورية، تقول الرياشي: “إن الشتائم ترتبط بالسلطة والقوة على الإخضاع، وعندما تستعين المرأة بمفردات مرتبطة بأعضاء الرجل الجنسية، يدخل هذا الامر ضمن إطار الغاء الهيمنة الذكورية عليها والغاء دوره كرجل لتأخذ هي هذا الدور”، وتضيف:” هناك جانب نفسي دفاعي ايضا، فجراء شتمها او التحرش بها، تلجأ النساء الى الرد على هذه الشتائم بشتائم مماثلة دفاعا عن النفس”.
ورأت الرياشي ان “وسائل التواصل الاجتماعية تحولت من مواقع تواصل الى مواقع لتبادل الشتائم والسخرية، وهذا لا يقتصر على المواضيع السياسية او الإخبارية انما ايضا تلك المتعلقة بالزراعة والأمور الجمالية. حيث نرى تعليقات تتضمن الشتائم والتقليل من قيمة الآخرين. البعض يضع هذا الامر في خانة حرية التعبير، وبرأي يحب ان تكون هذه الحرية ضمن الأُطر الاخلاقية بعيدة عن الشتائم”.
واعتبرت أن “ما يحصل على هذه المواقع ما هو الا دليل على الكبت الداخلي الذي يعيشه الفرد في المجتمع، بالاضافة الى شعوره بالنقص والاحباط والغضب والقمع وعدم قدرته على التعبير بطريقة صحيحة الامر الذي يدفعه الى الانتقاد ليعوض عن هذا النقص واثبات ذاته. فالتعليقات المتضمنة كلاما بذيئا، دليل على ان من يطلقها شخص لديه ضعف في النضج الفكري واضطراب في السيطرة على نفسه وعجز في كبح النزعة العدوانية تجاه الآخرين”.
قسطنطين
بدوره، أوضح مدير مؤسسة “وزنات” للاستشارات سمير قسطنطين أن “المشكلة الاساسية تكمن في الغضب وإعطاء مساحة لهذا الغضب لكي يسيطر على كل المشاعر الاخر لتأتي بعدها الشتيمة كتعبير عن هذه الحالة تجاه شخص او وضع، وتتضمن الشتائم عبارات تشير الى الاعضاء التناسلية للإنسان، مما يدل على اننا ننظر الى هذه الاعضاء – وهذه ثقافة مجتمعية لا تقتصر على لبنان وحسب بل على كل دول العالم – وكأنها تؤدي وظائف معينة وليس كأنها جزء من جسم الانسان. ففي الشتيمة نحن لا نشير الى العين او اليد او الفم الا اننا نتحدث عن هذه الاعضاء بالتحديد”.
أضاف: “إن حالة الغضب هذه التي يعيشها الانسان تدفعه احيانا الى استعمال عبارات او إشارات. وغالبا ما تكون الإشارات بالإصبع، وهي تعتبر شتيمة ايضا”. واعتبر أن “البعض يربط الشتيمة بالأخلاق وتحديدا بقلة الأخلاق، الا إنني اعتقد ان الشتيمة هي تكملة او اكسسوار لها، بمعنى ان هذا الامر لا يقتصر على الشتيمة. كما يظن البعض أن الشتيمة تقلل من شأن الانسان وتعطيه صورة سيئة عن حاله، لكنني اقول ان الشتيمة هي تعبير عن غضب. والحالة المدمرة للإنسان ليست من خلال تفوهه بالشتيمة انما بسبب عيشه للغضب. ان الغضب بحد ذاته هو كالأسيد الذي يحرق اولا الوعاء الموضوع فيه”.
وشدد قسطنطين على ان “التفوه بالكلام البذيء في الأماكن العامة قديما لم يكن أمرا مستحبا، اذ كانت الشتيمة تخدش الحياء، وكان الرجال يطلقونها خلال اجتماعاتهم وفي ما بينهم. الا اننا نسمعها اليوم في كل المجتمعات ومن دون عناء، وفي بعض الاحيان اصبحت محطة كلام وتقال كتوصيف او تعبير عن التحبب والمزاح. وفي مرات كثيرة لا يعير “الشتام” اي اعتبار او اهتمام لوجود أطفال في المكان. نرى ان الشتيمة تفشت على شكل واسع في المجتمع اللبناني، اذ نسمع الشباب يستعملون الكلمات ذات الحروف الأربعة بشكل متكرر في المرحلة ما قبل الجامعية. وهنا أود تأكيد انه لو لكن كان رب البيت شتاما، من السهل ان يكون أولاده شتامين ايضا. اما اذا كان يستعمل العبارات الايجابية والروحية مثل نشكر الله ونريد رحمة الله، حينها تتعود آذان أولاده على عبارات مثل هذه وبالتالي تختفي الشتائم”.
وتطرق الى الشتائم من وجهة النظر الدينية، معتبرا ان “الشتيمة من العبارات البطالة وتشبه العبارات التي تحدث عنها المسيح ناهيا الناس عن استعمالها”. ولفت الى انه “في العمل وخلال الاجتماعات الرسمية وعالم الاحتراف يبقى التفوه بالكلام النابي امر غير مقبول”.
وعن لجوء المرأة الى الشتيمة، اعتبر قسطنطين “كل ما يحق للرجل يحق للمرأة. واذا كان لا يحق للرجل استعمال الشتائم بالتالي لا يحق للمرأة ايضا. وبرأيي، لا يحق للرجل استعمال هذا النوع من العبارات وبالتالي لا يحق للمرأة أيضا. المؤسف ان اولادنا يسمعون الكلام البذيء في الأغاني، ففي حين لا تتضمن الأغاني اللبنانية والعربية الشتائم، لانه امر غير مقبول اجتماعيا، تبقى مساحة استعمالها في الأغاني الغربية كبيرة”.
كما رأى قسطنطين انه من “المعيب ان نشتم اذ ان هذا الامر لا يليق بالانسان، لأنه يمكننا التعبير عن غضبنا بطرق أخرى. ومن الممكن ان تصبح عادة الشتم حالة مرضية، فالبعض يشتم بشكل متواصل خلال حديثه. نحن لا نرتاح عندما نشتم، والدليل اننا نعود ونستعملها تماما كتدخين السيجارة. لقد تطورت الشتائم مع تطور الحياة، في الماضي اقتصر الامر على نوعين او ثلاثة من العبارات، اما اليوم فباتت تستعمل قاموسا كبيرا خاصا بها”.
آراء مواطنين
كان لا بد من سؤال بعض الاشخاص الذين يتلفظون بالشتائم، وعن هذا الموضوع تقول بهية .س:” في لبنان لا مفر من الشتيمة، اصبح هذا الامر تماما مثل المياه والاكل لا سيما في السنة الاخيرة. كل شي في وطننا خطأ، ما من شيء جيد، وأدنى حقوقنا مفقودة، لذلك اتفوه بالكثير من الشتائم مما يساعدني على “فش خلقي”. وتعتبر ان “الشتيمة هي نوع من انواع المحاسبة للطرف الذي اخطأ بحقي ان كان في الشارع او العمل او العائلة. انها نوع من القتل الحضاري لمن يغضبني ويتسبب بأذيتي، وكأنني اقول له ” أبدو لك انني شخص “رايق” الا انني بعقلي قتلتك او ضربتك الف ضربة”.
وأكدت أنها “لا تشتم الا امام المقربين منها”، وتستبدل بعض مفردات الشتم البذيئة بأخرى ” ألطف” انما تحمل المعنى نفسه بالنسبة اليها.
بدوره، تحدث وسام.ع، عن “الغضب والانفعال الداخلي والحاجة الملحة لترجمة هذه المشاعر بشكل ينفس عن الاحتقان”، وقال:” ان الشتيمة التي تخرج من الانسان الغاضب تكون تماما مثل المياه التي تطفئ النار المشتعلة”، ويلفت الى انه “لا يشتم في حال الغضب فقط، أنما ايضا اصبح الامر “عادة” بالنسبة اليه، فيخرج الكلام البذيء من فمه في كل الأوقات ولديه قاموسه الخاص للشتائم”، لكنه يشدد على انه لا يتفوه بالعبارات غير اللائقة في وجه احد انطلاقا من مبدأ الاحترام والمعاملة بالمثل”.
منذ صغره كان وسام يسمع الشتائم في الشارع الذي كان يقيم فيه مع أهله، عندما وصل الى الصفوف الثانوية اصبحت المفردات اوسع الا انه كان يخجل من التفوه بها لا سيما ان والديه كانا مدرسين، و”انطلق لسانه” بالكلام البذيء خلال فترة الجامعة وما بعدها. صحيح ان الشتم اصبح عادة عند وسام، الا انه “أمر محصور امام العائلة والاصدقاء المقربين فقط”.
يبقى السؤال: إلى أي مدى تهدىء الشتيمة من روع الغاضب؟ فالحري بمطلقيها “العد للمئة” قبل التفوه بها، وخصوصا في هذه الأيام المأزومة لأنها قد تحدث إشكالات في بعض الأحيان تؤدي إلى إطلاق نار، وبالتالي قتلى وجرحى. لكن المدمن عليها كالمدمن على السجائر، هل نستطيع ردعه؟ صعب جدا.
***
(*) الوكالة الوطنية للإعلام