بما أنها قوة روحية في التاريخ والجغرافيا، طبعت الكنيسة الجامعة الشعوب والمجتمعات بحقائق حول وجود الله واهتمت بتطور الإنسان وعلاقته مع الخالق، لذا كان من الطبيعي على مرّ العصور أن تكون محور الأحداث الكبرى والصوت الصارخ في وجه الظلم والاستبداد، وأن تنتظم في بنية إدارية تحكمها البابوية التي تنصح وتوجه رسائل تتضمن رؤية مسيحية لحلّ القضايا والنزاعات في العالم… اليوم تعيش “أقدم ملكية مطلقة” مستمرة في العالم أبهى حللها بانتخاب البابا فرنسيس الأول خلفًا للبابا بنديكتوس السادس عشر.
البابا الجديد متحدّر من الأرجنتين، بلد تحتلّ الكنيسة فيه مكانة بارزة، فمنذ القرن السادس عشر، خلال فترة الحكم الاستعماري، وطدت الكنيسة قبضتها على المجتمع واستمرت لغاية القرن التاسع عشر. في ما بعد عارضت الكنيسة سياسة الديكتاتورية التي مارسها خوان بيرون وكانت لها مواقف جريئة من الفقر وحقوق الضعفاء…
شكلت الأرجنتين قبلة اللبنانيين منذ القرن التاسع عشر، وتعتبر الجالية اللبنانية فيها من أكبر الجاليات في بلدان الانتشار اللبناني في العالم، فقد انتظموا ضمن جمعيات وأبرشيات واندمجوا في النسيج المجتمعي واحتلوا أرفع المراكز.
كيف تتمظهر المسيحية في الأرجنتين؟ ما هي أبرز الرسالات اللبنانية في هذا البلد البعيد الذي واجهت فيه الكنيسة تحديات أبرزها الديكتاتورية والشيوعية، وما يعرف بـ “الحرب القذرة” في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين، وكان ناشطون يساريون يمارسون فيها أبشع صنوف القمع.
علاقة الكنيسة بالدولة
يعتنق 92 % من الشعب الأرجنتيني الكاثوليكية التي هي الدين الرسمي للدولة، يكفل الدستور الحرية الدينية، وكان يفرض أن يكون الرئيس كاثوليكيًا، لكن حُذف هذا الشرط من النص في الإصلاح الدستوري لعام 1994، ولم يعد الرئيس يعين الأساقفة الأرجنتينيين، إنما يجدر بالحكومة دعم الكنيسة اقتصاديًا، وهي تدفع رواتب الأساقفة الكاثوليك، إذ يتقاضى الأسقف راتبًا شهريًا حوالي 4,300 بيسو أو 1,430 دولار أمريكي، ويتقاضى الكهنة المتقاعدون رواتب بسيطة.
اليوم تملك الكنيسة الكاثوليكية سبع جامعات هي : الجامعة البابوية الكاثوليكية في بوينس آيرس، يونيفرسيداد كاتوليكا دي قرطبة، جامعة دي لا بلاتا، جامعة وسالتا دي ، جامعة دي سانتا في، جامعة دي كويو، جامعة دي سانتياغو ديل استيرو، بالاضافة إلى مئات المدارس الابتدائية والثانوية في أنحاء البلاد، مع تمويل حكومي.
بدأت الكنائس الإنجيلية تنتشر في الأرجنتين منذ 1980، وثمة حضور ملحوظ للكنائس المسيحية الشرقية وأغلب أتباعها من المسيحيين العرب من الشرق الأوسط والأرمن واليونانيين والروس.
كاتدرائية سيدة لوخان رمز الأرجنتين ومركز حج يؤمه المؤمنون في أنحاء العالم في عيدها (6 أيار). بنيت الكاتدرائية تكريماً لأيقونة العذراء التي استقدمت إليها في القرن السادس عشر وعرفت في ما بعد بأيقونة لوخان، وهي محفوظة إلى اليوم في الكاتدرائية، وقد أقيمت توأمة بين سيدة ميروبا في لبنان وعذراء لوخان ووضع تمثال لسيدة ميروبا داخل بازيليك سيدة لوخان.
رفعت الكنيسة الصوت عاليًا في وجه الحكومة الأرجنتينية في قضايا تشمل وسائل منع الحمل والسياسات الاقتصادية ودور الكنيسة في الحرب، وأطلقت نداء مدويًا لمكافحة الفقر ووضع حد للفساد. كذلك أعلنت الكنيسة التزامها بحماية قدسية الحياة البشرية (08 تشرين الثاني 2011) منددة بمشروع قانون بشأن تشريع الإجهاض في الأرجنتين، مؤكدة أن الإجهاض جريمة، لأن الحياة عطية مقدسة من لدن الله لا يمكن المساس بها، وذكّرت بضرورة العمل لصالح الخير المشترك، وحثت المشرعين على سن قوانين تصب في مصلحة المواطنين، ولا تكون ثمرة خيارات إيديولوجية مرتبطة بمصالح خاصة لا تأخذ في الاعتبار طبيعة الشخص البشري والعائلة والمجتمع.
بوينس آيرس
بوينس آيرس التي عاش فيها الكاردينال جورجيو ماريو برغوليو قبل أن ينتخب في سدة البابوية، عبارة بالإسبانية تعني الهواء العليل أو الرياح الطيبة، هي عاصمة الأرجنتين وأكبر مدينة فيها تقع على الساحل الجنوبي الشرقي للقارة الأميركية الجنوبية. يبلغ عدد سكانها 13 مليون نسمة.
عندما أسس بدرو دي مندوزا هذه المدينة على الشاطئ الجنوبي لنهر لا بلاتا في القرن السادس عشر، نذرها لسيدة الرياح الطيبة تذكاراً للرياح المعتدلة التي صادفها في رحلته الطويلة من أوروبا إلى الأرجنتين.
غالبية سكان المدينة لهم أصول أوروبية، الأكثر شيوعاً هم من أصول إيطالية وإسبانية، كذلك ألمانية، إيرلندية، برتغالية، فرنسية، كرواتية، إنكليزية… في التسعينيات شهدت بوينس آيرس هجرة صغيرة من رومانيا واوكرانيا. وقد زاد السكان الأصليون والإسبانيون نتيجة للهجرة من دول مثل بوليفيا وبيرو وباراغواي، منذ النصف الثاني من القرن العشرين. وكان لمهاجرين من أصول سورية ولبنانيه وأرمينيه حضور فاعل في التجارة والحياة المدنية منذ بداية القرن العشرين.
يبلغ عدد سكان المدينة نحو 12.4 مليون نسمة، وتصل الكثافة السكانية إلى نحو 13 ألف نسمة لكل ميل مربع. معظم المواطنين من الكاثوليك، بالإضافة إلى الأرثوذكس الشرقيين والإنجليين واليهود والمسلمين. يتوزع السكان بين أعراق على النحو التالي: 88.9 % من البيض ، 2 % من الزنوج وذوي أصول أفريقية، 7 % من الأميركيين، 2.1 % من الآسيويين.
من أبرز معالم المدينة كاتدرائية متروبوليتاناCatedral Metropolitana وفيها مركز الأبرشية الرئيس. بدأ بناؤها عام 1622 وأنجز العمل فيها عام 1791. بين 1860 و1863 أنجز مهندس فرنسي 12 عمودًا فيها في إشارة إلى الرسل الإثني عشر، وجدارية تمثل لقاء يعقوب وابنه يوسف في مصر. أعلنت الكاتدرائية معلمًا أثريًا في 21 أيار 1942، وأجريت أعمال ترميم فيها بين 1994 و1999.
اللبنانيون في الارجنتين
بدأت الهجرات العربية إلى الأرجنتين بعد حوالى نصف قرن من استقلالها عن إسبانيا عام 1816. شجع عليها، بعد ستينيات القرن التاسع عشر، الخوف الذي ساد المناطق السورية واللبنانية الواقعة تحت الاحتلال العثماني بفعل تزايد حملات التجنيد الإجباري في الحرب العالمية الأولى، وسياسة التعسف التي مارسها الأتراك ضد اللبنانيين. يقدر عدد للبنانيين في الأرحنتين حوالى المليونين، من بينهم 700 ألف من الموارنة، يستقر 40% منهم في العاصمة الفيديرالية بيونس آيرس وضواحيها.
انخرط اللبنانيون في المجتمع الأرجنتيني وبرزوا في نواحي الحياة كافة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، واحتلوا مناصب رفيعة في الدولة وأسسوا الجمعيات التي كان لها دور فاعل في لم شمل المهاجرين اللبنانيين وإبراز طاقاتهم إلى العالم من بينها: الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم، الرابطة الثقافية الأرجنتين – لبنان، النادي اللبناني، حلقة الدراسات الإسبانية- العربية في روساريو، مركز سالطة (Salta) لأبحاث الثقافة العربية، المركز الإسلامي، الجمعية العربية الإسلامية – فلوريس…
راعي الأبرشية المارونية في الأرجنتين هو المطران شربل مرعي (مرسل لبنان) رئس الرسالة المارونية في بوينس آيريس والمدرسة فيها لغاية 1989. تأسست رسالة الكريميين في بوينس آيرس سنة 1901، وكانوا أوّل من أسّس مجلّة رعويّة مارونيّة في المهاجر (1911) تحت إسم El Misionero أي المرسل، بعدما استقدموا مطبعة بالحرف العربيّ إلى الأرجنتين (1910).
كذلك للرهبانية المارونية المريمية رسالة مهمة في الأرجنتين تعود إلى بدايات القرن العشرين. ففي 8 تموز سنة 1920 وصل الأبوان سمعان فهد وعمانوئيل الأشقر إلى الأرجنتين من لجمع مساعدات من المغتربين اللبنانيين لإعانة اللبنانين الذي ذاقوا الفقر والجوع في الحرب العالمية الأولى، وتسديد الديون التي تراكمت على الرهبانية في تلك المرحلة، بالإضافة إلى تقديم خدمة رعائية للبنانيين الموارنة الذين هاجروا إلى الأرجنتين طلباً للعمل والعيش الكريم.
سنة 1922 عاد الأب المدبر سمعان فهد إلى لبنان حاملا معه المساعدات وبقي الأب عمانوئيل الأشقر يخدم أبناء الجالية المارونية. في 18 كانون الثاني 1927 حصل الأب عمانوئيل على إذن من المطران فرنسيس ألبيرتي، راعي أبرشية لا بلاتا اللاتينية، بالإقامة في أبرشيته والاحتفال بالقداس الماروني والوعظ وسماع اعترافات أبناء وطنه وسائر المسيحيين الكاثوليك المنتشرين، وجمع المساعدات التي يتكرّمون بها عليه.
في 17 تشرين الاول 1931،استحصل الأب عمانوئيل الأشقر على ثلاث قطع أرض قريبة من بوينس آيرس، وفي 8 ايلول 1932 وضع حجر الأساس لكنيسة الجلجلة المقدسة وسيدة لبنان. في 5 حزيران 1935 كرّس المعبد السفلي (Cripte) في فيلا لانش لإقامة الشعائر الدينية، وفي 14 كانون الاول 1936 دشن كنيسة الجلجلة وسيدة لبنان التي أقامها فوق المعبد السفلي. لكن راعي الأبرشية الجديد المطران خوان شيمنتو منع الأب عمانوئيل الأشقر من إقامة الاحتفالات الدينية في الكنيسة الجديدة، فاضطر إلى أن يحتفل بالذبيحة الإلهية في المعبد السفلي القديم.
في الاربعينات، بنى الأب عمانوئيل صالونات للاجتماعات فوق الكنيسة وطابقاً أعلى لسكن الرهبان. سنة 1959، استلم الأب لويس قبيطر رئاسة الرسالة بعد وفاة الاب عمانوئيل الاشقر، واصبحت الكنيسة رعية لخدمة المؤمنين بحسب الطقسين الماروني واللاتيني. سنة 1964 بنى الاب لويس مدرسة سيدة لبنان في أرض اشتراها إلى جانب الكنيسة.
سنة 1998، وبفضل جهوده وجهود الاباء المعاونين في الرهبانية، شيجت ثانوية الاب عمانوئيل الاشقر. سنة 2002، تم سقف ملعب المدرسة الشتوي وتجهيزه، وفي سنة 2004 صُنفت الكنيسة كمَعلَم ذي قيمة تراثية تاريخية في مقاطعة بونس آيرس، ما دفع آباء الرسالة إلى البدء بأعمال الترميم بعد حصولهم على مساعدة من الدولة.
تأسست أبرشية مار شربل في بوينس آيرس في 5 تشرين الأول1990، وتوزعت الرعايا القائمة حالياً على المحو التالي:
1- رعية مار مارون في بوينس آيرس. عدد أبنائها 55 ألفاً تقريباً. تضم مدرسة مار مارون انشئت عام 1902 وتخرج فيها كثيرون من ابناء الجالية المارونية، تحتضن اليوم 500 تلميذ.
2- رعية مار يوحنا مارون في مندوسا. تضم نحو 25 ألفاً، بعضهم يحتل مــراكز مرمـوقة في الحـكم وفي المـيادين الأخـرى.
3- رعية مار مارون في التوكومان. تأسست عام 1925 ويبلغ عدد أبنائها 20 الفاً، يخدمها كاهن ماروني من اصل لبناني.
4- رعية سيدة لبنان التابعة للرهبنة المريمية. تهتم بالاحياء المجاورة للعاصمة بوينس آيرس، وفيها مدرسة تحتوي 450 تلميذًاً.
كلام الصور
1- كاتدرائية مار مارون في الأرجنتين
2- كاتدرائية ميتروبوليتانا
3- سيدة لوخان
4- العذراء مريم في كنيسة سيدة لبنان
5- كاتدرائية بوينس آبرس