عفيف قاووق
رغم تنصل الروائي صبحي فحماوي من مضمون روايته ونسبها إلى أحد اولاد سعد الدين، إلا أن بصمته تبدو جلية واضحة وغير محايدة في أكثر من موضع، وخصوصا في تعريته للعولمة وفضح مقاصدها، وأيضا في تعرية الواقع العربي المنغمس أفراده في عالم الاستهلاك، وفي لهاثه لتقليد الغرب في سلوكيات وأنماط عيش ترهقه وتجعله في مرتبة متأخرة للحاق بركب التقدم والتطور الحقيقي. لذا نجد ان هذه الرواية تتطرق الى نقاط وموضوعات عدة، تحت مظلة العولمة وتأثيراتها، والتغيرات التي طرأت على بنية المجتمع وسلوكياته، وسنحاول في هذا البحث الإضاءة على تلك الموضوعات أو بعضها قدر الإمكان، ومنها :
نظرة رجال الأعمال إلى العُمال وكيفية التعاطي معهم : أشارت الرواية إلى بعض النتائج السلبية للعولمة وتأثيرها على اليد العاملة وتفشي البطالة، وفضحت السياسة المعتمدة من قبل رجال الأعمال في مدينة العولمة ونظرتهم إلى العمال، هذه السياسة أفصح عنها سائد الشواوي ابو سفيان في هذيانه:
“صاح أبو سفيان من سريره, وهو يهذي”سنستغني عن كل العُمال وموظفي المكاتب نأخذهم ونعلِّمهم ونشغِّلهم, وندفع لهم، فنجدهم مشغولين بالإرهاب ضدنا..نُطعمهم بأيدينا, فيعضُّون اليد التي تمتد لاطعامهم..ولكننا نحن رجال الأعمال نعرف كيف نتصرف، سنرميهم في الشارع بلا وظائف.. سندير كل أعمالنا بالكمبيوتر, سنشغّل الرجل الالي في كل الأعمال, سنشغل البنوك بالصرّاف الالي. ليخلص الى المعادلة الآتية؛ “لن يكون هناك حزب للعمال بعد اليوم يُرهب رجالَ الأعمال،لأنه لن يكون هناك عمالُ أصلاً، فلقد انتهت العلاقة بينهما بالطلاق.. سنقتل العمال بالكمبيوتر”(ص150).
وعندما تم الاستغناء عن أربعة أخماس العمال نتيجة لاستخدام الكبيوتر، وعملية دمج بين شركتين، قامت مظاهرات صاخبة داخل الشركة، رافقتها الإضرابات وتعطل الإنتاج ، وكما جرت العادة في أوطاننا، لجأت السلطة للالتفاف على هذا التحرك العُمالي الرافض لعملية الدمج، طلب الوالي لدولة العولمة، الاجتماع بمن يمثل المعترضين وأرسل طائرة عسكرية خاصة، استضافت قادة المظاهرات، والذين كانوا مرفوعين على الأكتاف، للتباحث معهم في الأمر، فصعد القادة إلى طائرة، وفي صحراء التيه، فتحت الطائرة بطنها، وأسقطت كل ركابها فوق كثبان رمل الصحراء المتحركة، ثـم هبطت في مدينة العولمة ، وليس فيها معارض واحد.. وبعدها تمت عملية الاندماج المباركة بسلام ويُسر 156
النقد السياسي بقالب ساخر للمجتمع العربي: نلاحظ ان المؤلف اعتمد نوعاً من السخرية التي تخفي في طياتها الكثير من الوجع على ما آلت إليه أوضاعنا، وفي نوع أقرب إلى النقد السياسي للأوضاع العربية، نجد أن السارد في إشارته لسايكس وبيكو وما اقترفاه بتركهما مساحة غير مثبتة بين حدود الدول العربية (ص15). ربما يحاول المؤلف الإشارة الى النزاعات التي أُريدَ لها الحصول من حين لآخر في مسألة ترسيم الحدود بين كل دولتين عربيتين او أكثر..
كذلك ينتقد السارد العقم الذي تعانيه جامعة الدول العربية وعدم فاعليتها فيقول “صار العمل في القصر، مثل جامعة الدول العربية، ولكن الجامعة لا تهش ولا تنشّ، ويا خوفي أن يكون عملنا في المشروع، مثل أعمال الجامعة، مؤتمرات وجعجعة بلا طحن”(ص37).
وتعليقا على نكتة رُويت عن أحد الفلسطينين تحكي ( أن مستوطناً إسرائيليا غرس بمطرقته مسمارا فولاذيا طويلاً في جدار الجيتو التي حاصرت فيه إسرائيل رقاب الفلسطينين ، ورغم شدة الضرب دخل المسمار إلى منصفه ثم توقف عن الدخول، فتوجه المستوطن إلى الجهة الفلسطينية من الجدار، ليعرف سبب التوقُّف فوجد فلسطينياً يُتَنِّح رأسه على الحائط من الجهة الاخرى، فيمنع دخول المسمار).يقول السارد “أعرف أننا نحن ننكت ونضحك وهم يموتون بلا أخٍ، وبلا جار رحيم، يموتون فلا يضير موتهم إخوانهم العرب الذين سيأتي عليهم الدور تبعاً للقول المأثور؛(أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض).
وكذلك يسلط السارد الضؤ على حالة الخنوع وفقدان الديناميكية في المجتمع العربي، وعدم سعيّه لتغيير واقعه، فمعظم شعوبنا العربية ارتضوا لأنفسهم أن يجرفهم التيار من دون بذل أي جهد لمجابهته، وذلك وضعهم في حالة سبات عميق أو ما يشبه الموت السريري.. وقد عبر السارد بلسان مهران عن هذا الوضع بالسمكة التي كانت دوما تتجه مع التيار”راقبت ذات مرة أسماك وادي الدفلة يا ثريا، فكانت تسبح في كل اتجاه، ذات اليمين وذات اليسار إلا سمكة واحدة كانت تتجه مع التيار استغربت حركة تلك السمكة.. لحقتها ومددت يدي داخل الماء، فأمسكت بها، فإذا هي مّْيتة (50).
هذا الركود الذي أصاب المجتمع العربي أوقف عجلة التقدم وجعله ينام على أمجاد الماضي وحضارته التي استطاع الغرب سرقتها، والاستفادة منها في تطوير بلاده.. ولإثبات صحة هذه المقولة يقول مهران لثُريّا “إن الحدائق الفرنسية، والعمارة الفرنسية، مأخوذتان من الحدائق والعمارة العربية الاندلسية! لقد أخذوا فنوننا وعلوم حدائقنا وحضارة عمارتنا الاندلسية، ثـم قتلوا الاندلس وأبادوا من أقام الحضارة، أنا لا أريد أن أقلل من الحضارة الفرنسية، ولكنني أريد أن أقول إن الحضارة العربية في الاندلس، كانت منارة للحضارة الاوروبية..ولكنهم كما يقول المثل: أكلوا خيرنا، وانتخبوا غيرنا .(ص67).
وفي مشهد ساخر آخر يُعبر عن مدى سطحية وخِفة معظم رجال الأعمال والأثرياء العرب، يقول السارد:
“شاهدت هناك تجاراً نفطيين عرب يجلسون على الأرض في معارض المفروشات الايطالية، يشربون الشاي طال عمرك، ويشترون أطقم المفروشات… كل هذا يحصل تحت تأثير وسائل الإغراء واللعب على الغريزة من قبل الغرب، بحيث تجعل الشاري العربي في حالة انبهار وتسليم مطلق، فيقول أخو العرب: (أريد حبتين من هذه وعشر حبات من هذه، وثلاث حبات من هذا..) وكلمة حبة معناها طقم،أي ستة مقاعد مع مناضدها وستائرها..ثم يتابع قائلاً: ( شرطي للشراء هو أن تأتي هذه الحسناء مع الطلبَّية..) بينما تكون الجميلة مضطجعة على يساره، وهو يضطٌجع على فخدها الأيمن، ويقول: هذه الجارية الشقراء تفتح النفس للشراء سآخذها معي إلى بلادنا، كخبيرة بتركيب أطقـم المقاعد..(ص29).
ويكمل السارد في عملية جلد الذات العربية ليقول ” يبدو أن أثرياء العرب لا يزالون نائمين، مضطجعين على أفخاذ الغواني، بينما العالـم يركض بسرعة الضوء ليلحق بركب الأعمال والتقدم، وإلا كيف يُسخِّرون الجواري، من مختلف جنسيات العولمة لتمريغ أنف عروبتنا ٌ في سوق النخاسة الدولي؟” (ص30).
مثل هذه السلوكيات العربية المُخزية، جعلت ثُريا تستذكر في سِرها أبيات لنزار قباني الذي تقول: يا وارثا عبد الحميد.. والشركسيات السبايا، تحت مضجعهِ الرغيد…
تسليع المرأة:
لا وجود للمباديء او للقيّم في قاموس العولمة، كل الوسائل مُباحة ومشروعة في سبيل تحقيق الهدف، إنه مبدأ ميكافيلي ” الغاية تبرر الوسيلة” . لذا نجد أن فكرة تسليع المرأة والتعامل معها كسلعة جاذبة استغلها حيتان المال أبشع انواع الاستغلال لتحقيق مصالحهم، واستُخدمت المرأة لانتزاع الأسرار الاقتصادية بما تملك من وسائل إغراء، وتقديم الخدمات الجنسية لصُناع القرار، فأصبح جسد المرأة من المقبلات إن لم يكن الطبق الرئيس على مائدة التفاوض التجاري العولمي.. (كان الشواوي يطلب من مها (عرابة النساء) أن ترسل الجميلات إلى رفاقه من المسؤولين فهذه الجميلة غادة لوزير الاشغال، وتلك الحسناء سلوى لوزير التعليم، وهذه الحوراء ريتا لوزير الضرائب، وهذه الشقراء شيرين لرئيس تحرير الجريدة العولمية) (ص 95 ).
وتقدم لنا الرواية شخصية رهام السكرتيرة التنفيذية لمشاريع الشواوي تحت إدارة ريشارد نيكلسون ومن بعده ديفيد فريدمان، حيث انها كانت محظية لكل من هذين المديرين طمعا في جني المزيد من المال، وهذا ما حصل معها اثناء زيارتها شواطىء الكاريبي للاجتماع مع ديفيد فريدمان ..”في الحقيقة إن ديفيد لـم يكن واقعا في غرام رهام، بقدر ما كان مستمتعا مع امرأة عربية يعاشرها لأول مرة، والأهم من هذا هو توقعه إقامة عمل تجاري سريع ومربح معها، كان ديفيد يحلم بالدولارات أكثر مما يحلم بلحمها،(ص217).. وكذلك فإن ريشارد نيكلسون قضى ليلته الاخيرة في جناحه الخاص بفندق الكونتيننتنال مع رهام، التي قامت عن السرير، حافية، وهي ترتدي غلالة قصيرة شفافة وبلا ملابس داخلية،قال لها ريشارد”يا حبيبتي أنت ما تزالين طفلة صغيرة في عالم التجارة، ولكنك لذيذة جدا على السرير، لم ألتقِ في حياتي بامرأة شبقة وشهية مثلك (ص186)..
وعندما شكا سائد لِ مها بأن وزير الاشغال رفض شق الطريق الصحراوي الدولي الذي كان يفترض أن يمر بأرضه الثلاثمائة هكتار، والتي اشتراها على أساس ذلك ، لأن منطقة الجمارك الجديدة ستجاورها ، فسوف يستخدمها كمخازن الترانزيت، للبضاعة المشحونة عبر الحدود إلى دول أخرى، ولكن الوزير نقل الشارع إلى منطقة أخرى، فقالت له مها: “ما فشر هالكلب بالأمس كان راكعا بين رجلى، ويقّْبل النعمة! أنت يا سائد ضاعف له العيار المالي، وأنا سأضربه بالتي ضاعت أختها! 96 .
انها حقيقة لا يمكن تجاهلها في زمن العولمة وهي أن المرأة أصبحت وسيلة من وسائل التسويق والدعاية مستخدمة جسدها ووسائل الإغراء لتنفيذ عمليات البيع وهذا ما أقدمن عليه صبايا البيع في تواصلهن مع المشترين لإقناعهم بشراء أسهم عقارات في مدينة “دزني العولمية”.
***
(*) المجلة الثقافية الجزائرية