قصة قصيرة / قلب الوحش

في يوم عطلة بارد جدا، ارتدى “عليوة”معطفه الأسود المرقع، يمشي متعثر الخطى، شارد الذهن، يتفقد أبواب وآلات المصنع الكبير الذي يبعد عن المدينة بضعة كيلومترات. يعلم مديره “مسيو مراد” أن فيه ما يكفي من كاميرات المراقبة، وأن مهمته هي حراسة الباب الرئيس فقط، ولكن هكذا أوامره؛ لا أحد يستطيع رفضها.

ساد صمت مخيف؛ تمنى” عليوة” لو تستيقظ المحركات النائمة ولو للحظات وتصدر ضجيجها من جديد لتنسيه ضجيجه الذي بداخله. لم يشهد هذا الخوف من قبل رغم أنه يحرسه منذ أكثر من عشرين سنة؛ لم يفقه لماذا يأمره بتنظيف مكتبه هذه المرة؛ أليس هذا من مهمات عاملة النظافة؟

-هل وجدت الفرصة المناسبة، هذه المرة، لتهينني أكثر من قبل يا سيادة المدير؟

ابتسم ساخرا من واقعه؛ فليس للمطحونين كرامة في هذا العالم، هكذا يقول للبؤساء من أمثاله؛ فقد اعتاد على سخريته المرة؛ فكلما يجده واقفا عند باب المصنع، يذكره بأيام الدراسة، وأن تفوقه فيها لم يكن له أي معنى؛ فهو الحارس المغبون لا السيد صاحب الكلمة الأولى والأخيرة التي تخيف كل العمال، وأن نصائحه المكررة بأن يهتم بدروسه التي كان يعينه على كتابتها، ويحمل عنه محفظته الثقيلة التي كان يرميها على الأرض وينصرف إلى لهوه ولعبه، ما هي إلا سذاجة وإذلال لنفسه.

-ماذا قدمت لك الكتب التي كنت تقرأها باستمرار غير التعاسة، يا “عليوة” التعيس؟
وينصرف إلى مكتبه في كبرياء، مسرورا والقهقهة تملأ فاه، ولكن دون أن يترك أثرا في قلبه الذي اعتاد على هذه الطعنات في عالم مليء بالوحوش الضارية.

لم يدخل مكتبه أحد عدا رئيس العمال أو المنظفة التي تصبر على لسانه الحاد حتى تطعم صغارها الأربعة. كان مكتبا كبيرا فخما؛ لم ير مثله من قبل؛ كل شيء فيه جديد ونظيف ومرتب؛ كم احتاجت المسكينة من وقت، وكم قدمت من جهد حتى منحته تلك الأناقة والجمال؟

تراجع إلى الخلف ونزع معطفه وحذاءه مخافة أن يقع بعض غباره على الأرض، انتابته حالة مفاجئة من الضحك ممزوجة بالحزن؛ تذكر مشهد هؤلاء الحمالين الذين يرتدون معاطف مثل معطفه وهم يصطفون عند محلات البيع بالجملة، كل منهم يريد أن يفوز بأكبر حمولة، يدسون آلامهم وآدميتهم كلها من أجل دنانير لا تسكن ألما، يشفق عليهم وهو يعلم بأنهم يحسدونه على فوزه بمنصب في المصنع. أعادته دقات قلبه المتسارعة إلى صمته من جديد، كأنه أحس باقتراب أجله.

حاول أن يتجاوز خوفه؛ فراح يقلب ملابس وحاجات مديره الخاصة؛ بدلاته الفخمة وعطوره الباريسية غالية الثمن. وقف أمام المرآة وتلمس وجهه الذي يشبه حبة باذنجان يابسة ليرى الوجه الآخر للحياة. غسل وجهه بأغلى صابون، ولبس أحسن بدلاته، دون أن ينسى ربطة العنق الحمراء. أصيب بضيق شديد، كأن هذه الأشياء الثمينة لا تليق به؛ فاشتاق إلى معطفه المريح. ذكرته ربطة العنق بحالات الانتحار التي انتشرت بصورة غير طبيعية في المجتمع.

جلس على الكرسي الكبير، وضع رجلا على رجل، أخذ سيجارا بين أصبعيه دون أن يشعله. نصبت نفسه مديرا لبضع الوقت. جرب لعبة الكرسي الدوار، كم كانت مسلية وممتعة. علم حجم الصراع المرير من أجل أن يفوز المرء بمكانة عالية. سبحت نفسه في سرابها وخيالاتها، لم تقطعها غير رسالة  وقعت عيناه عليها:

” سيدي الحارس الأمين…

أرجو أن تسامحني على معاملتي القاسية وإذلالي لك. أعلم بأنك كنت مشفقا على نفسي أكثر مني؛ فقد أصبت بتيه منذ أيام الدراسة وبغروري بالمنصب الذي لست أهلا له. ولتسامحني، صديقي، لأنك أول من سيعلم بخبر انتحاري، لعلك ستسر بنهايتي التعيسة. في درج المكتب مبلغ من المال، خذه، هو لك، أنفقه على عيالك.

صديق الطفولة.”

أسرع باحثا عنه، لعله يقبض قبضة من أثر الحياة. وجده يهيئ نفسه للموت. حاول أن يقذف في قلبه قبسا من أمل؛ رقص له رقصة فيما بقي من فضاء، مرتديا بدلته الأنيقة، محلقا بذراعيه كالنسر السعيد، يعانق الجبال الشامخة في كبرياء، تزين صدره ربطة العنق الحمراء، تلمسها برفق ليريه جمال الحياة وبهاءها.

تحسر كثيرا لأنه لم يتفقد ذلك الركن البعيد التي تعلوه نافذة  لم تغلق منذ أن شيد المصنع أول مرة، كان كل ما رآها يصاب بالرعب، كأنها وجدت للنهايات غير السعيدة. ما أصعب الوصول إلى صديقه؛ حالت بينه الأخشاب المستّفة  حتى السقف الذي يتدلى منه حبل المشنقة الذي لف رقبته، وهو على كرسي خشبي. وناداه بصوت مبحوح وعيناه تذرف دمعا:

-يا صديق الطفولة، سيادة المدير العام:”مسيو مراد”، أما آن لك أن تنزل من عليائك وتعانقني، كم أنا مشتاق إليك.

كأنه سمع كلامه فأعجبه وانسجمت روحه مع رقصته التي أتقنها ببراعة رغم أنه لم يرقص في حياته؛ ابتسم ابتسامة لم يجدها على وجهه من قبل وبكى بكاء المحب المشفق، ولكنّ ريحا قوية تسللت من تلك النافذة الملعونة، دفعته بقوة إلى الهلاك.

 

 

اترك رد