جميل الدويهي: رغيف في الرمال

 

 

من كتابي الفكريّ السادس “أفكار خارج العزلة” – يصدر 2022.

 

 

أخذني من يدِي، وقال لي: أريدك أن تعيش سعيداً في هذه المدينة، ولا تعاني من ظلامة القانون الجديد عليك… أنظرْ إليهم، كيف يتعاونون على البرّ والتقوى. فوالله ما رأيت فيهم أحداً يظنّ أنّه أفضل من غيره، أو يطمح إلى الغِنى.

صمتَ قليلاً، ونظرَ إليّ بعينين حادّتين وقال: كم رغيفاً لديك؟

قلت: رغيف واحد.

قال: لا تجعل أحداً يعرف أنّ معك رغيفاً، فقد يكون جائعاً، ويأكلك.

تعجّبت وسألته: ماذا أفعل برغيفي؟

قطّب وجهه وأجاب: أطمرْه في الرمال.

طمرتُ الخبز في الرمال، وبكيت عليه نهاراً… وخفت أن تعضّني الحاجة.

وبعد ساعة قال: أخبرني هل لديك دراهم في جيبك؟

قلت: معي قليل.

فقال: أخشى أن يعرف أحد أنّ معك مالاً، فيشتهيه، وتكون حجر عثرة أمامه… ضعْ نقودك في ذلك الجُحر العميق، لكي تأكلها الجرذان.

فعلتُ مثلما قال لي… لكنّه لاحظ دهشة كبيرة تغمرني، فوشوشني: أما سمعتَ ما قالته كتب الفلاسفة؟ كنْ مثل الآخرين، ولا تظهرْ أمامهم أنّ في روحك اختلافاً… هل فهمت ما أعني؟

تذكّرت أنّني قرأت كلاماً مثل هذا في سفر قديم.

ولم تنقض بضع دقائق، حتّى أمسكت بالرجل من كتفه، وقرّبته منّي، هامساً: نسيتُ أن أخبرك أنّ عندي بعضاً من الأفكار التي تشغلني وتحيّرني، وما زلت أبحث عن أجوبة لأسئلة كثيرة تدور في رأسي.

غضب الرجل منّي غضباً شديداً ، وقال:  يا لك من أحمق مجنون! هل تريد أن يقتلوني معك ويرفعوني على تلك الجلجلة؟ أما سمعت بقصّة الناصريّ؟! تظاهرْ ْيا فتى بأنّك غبيّ وأبله وفاقد للعقل… ولتكنْ أفكارك سطحيّة، وكلامك هذراً لا معنى له، لكي يكرّموك ويعظّموك.

رضختُ لما قاله، فأخذتُ أفكاري ودفعت بها إلى حفرة عميقة عند أسفل الجبل.

مكثتُ في تلك المدينة ثلاثين سنة، أجوع ولا أتناول طعاماً… أعطش ولا أطلب ماء. وكم اشتهيت أن أفكّر! فذهبت إلى تلك الحفرة، علّني أستعيد بعضاً من أفكاري وأسئلتي، فوجدتُها غارقة في وحول الشتاء، والمطر المنهمر من سماء رماديّة.

كانت تلك المرّة الأولى التي شعرت فيها بأنّني لا أحد، ولكنّهم جعلوني سيّداً عليهم، وأميراً من أمراء عصرهم، وصار لي قصر على تلّة، أسوارُه خيبتي، وأعمدتُه معاناتي، وأبوابه من جوعي وعطشي.

***

(*) د. جميل الدويهي – مشروع أفكار اغترابيّة للأدب الراقي – سيدني 2021

اترك رد