أمّ البنين 

 

   جوزف مهنا

 

(بيروت في 13/ 2/ 2021)

(مُهداةٌ إِلى الغالِيَة أَلكسا، أُمِّ البَنِين)

 

 

كعمودٍ من نورٍ، وكالجبل الأَشَمِّ الذي يَنهضُ نُهُوضَ عُنْفٍ، ويرتفِعُ ارتفاعَ مَهابةِ وجَلالِ سنديانةٍ دُهرِيَّةٍ تحاولُ القَبضَ على السماء، كنتُ أتقلَّبُ معكِ في حَنجَرَةِ الوقتِ بِنِعَمِ الله، يوقظُني وجهُكِ مِن صُخُورِ الوَعْرِ، فأُجاهدُ بشمسهِ مَرْضَتِي وسُحُبِي الدَّاكِنات.

أَمَّا أَنِّي كنت آوي إليكِ يا سُكْنَى خيالي، مثلما يأوي اليائسُ في المَتابِ كلَّما نَشَزَت بي الدُّنيا، وعُمِّيَت مَذاهبي، وضاقت مَقالدِي(1) فأَلقى كُفْيَةَ مَن قَضَى بِالنَّذْرِ(2)، فَحُلمٌ مُسَوَّدٌ فوق جبين أَوراقي تَتَذَهَّبُ بَيادِرُهُ بِالسَّنابلِ، وأَضْحُو زَيْدًا(3) على ربيعٍ ألقى زَوْرَه(4) في صدري، فاستقامَ جدولُ مِدادِي وأَفْعَمَ المِسْكُ الرِّقاع.

ولَئِن استوَيتُ على سرير العُمر، فاختلطَ زَبَدِي بِخاثِرِي، لا تزالُ ريشتي حَلْبَى في الرِّقَى(5) على ذِكركِ، ماثِلَةَ الأَغراضِ، مُشرِقَةَ المعاني، تجفو الزَّمنَ القَحِيطَ على عَبْقَةِ كرائِمَ وفرائِدَ، كلَّما أعياني شَمِيمُها فَضَضْتُ مِن عِنديَّاتِكِ قارورةَ عِطْرٍ باسِمَةَ الكَمائِم، فاتحةَ النَّسائمِ، فَتَمُدُّنِي بِالنَّماءِ والحركةِ والحياة.

***

مِن الأشياءِ، يا غالِية، ما يَتَلَبَّسُ بدمِنا، ويُوغِلُ فينا غير مُستَكرَهٍ ولا مُتَحَرَّجٍ مِنه، مستمسِكًا كَنَفًا(6)، إذا استَعَرَّ لهيبُهُ فَأَحجَى(7) بنا أن نحمِلَهُ على الوَجَلِ والتَّأَنِّي والتَّحَفُّظِ نَستَجِنُّ به ونُكِنُّهُ في المَحاجِر.

لقد أَوْكَيْتُ(8) قُربَتِي إلى مآلِفِ عَيشِكِ وطارِقاتِ مَرَضِكِ ومَقْساتِهِ، تتوفَّزين(9) على مِهادِهِ لِثَلاثٍ وعِشرينَ سنةً، كنتُ خلالها أَضفِرُ أَخاضِلَ قلبي أَكاليلَ غارٍ لِتَصَبُّرِكِ، حتَّى إذا أَغضَنَ اللَّيلُ كان لِسُبْحَتِي الوهجُ الحرورُ، لعلَّ وعسى الطَّريقَ الضَّيِّقَ يَخضَوضِبُ شَجَرُهُ، وأنتِ ما اجتَرَمتِ وِزْرًا، ولا مَرَدْتِ(10) على سَلاطة ومَناعات وَصَبِكِ وصرخةِ الألوان.. تنتزِعينَ العيشَ قَسْرًا، تَنشطِينَ لَهُ كَرْمَى عَينٍ لي، فَأَحسَبُكِ نَسرًا تَخِذَ مِن الرِّيح بِساطًا يشتاقُ رواسي الجبال.

وعندما ارتَجَّ بكِ المَطافُ رَجَّتَهُ الكُبرى، وانتَبَذَ العِنَبُ، ما تَثاقَلتِ عن البَيْعَةِ في مِيقاتِ الرَّحِيلِ، فَشَدَدتِ حُدُوجَكِ(11) إلى حيث وَسَّعَ ذو الرَّحمةِ والمَغفِرَةِ عليكِ أَرضًا لا يَطِيُر غُرابُها(12). إِنَّها بِالبَرْيِ المُتَأَنِّي الأَنيقِ مِيراثٌ على فرائضِ الله.

يا أُمَّ البنين، يا كريمةَ النِّجار!

أَنا مُصابٌ بداءٍ لا بُرْءَ منه، وعلى أغصانِ الاحباطِ والانتظارِ عَلَّقتُ صَفْوَ سُلافِ محبَّتي بعدما ازدَحَمَت أَمواجُ الشَّجَنِ في خافقي، وحَمَلتُ نفسي على مَكرُوهِها.

وهكذا،

لَمَّا قَرَعَ سَهْمُ المَنِيَّةِ مِنكِ غايَتَهُ، وضَرَبَ الدَّهرُ بيننا(13) ازدَدْتُ قناعَةً أَنَّ هناكَ أُمورًا قَطعِيَّةَ، وَكِيدَةً في مَصائِرِنا لا يُمكِنُ الخُرُوجُ عليها، وأَنَّهُ لا مَعْدى ولا مُوقِرَ لي عن طُهرانِيَّتِكِ!

***

(1): ضاقتِ الأُمُور عَلَيّ

(2): أَوفَى نَذْرَه

(3): زيادة

(4): ثقله

(5): صوت الحجر إذ يُرمَى به

(6): السّاتر؛ السّترة

(7): أَجدَر

(8): ربطتُ

(9): تتقَلَّبِين

(10): تَمَرَّدْتِ

(11): مَراكِبُ النِّساءِ عند العَرَب (مُفرَدُها حِدْج) = هَوْدَج

(12): مُخصِبَة

(13): فَرَّقَنا

 

اترك رد