جبرائيل حجولا ودانيال الحدشيتي… بطريركا الحرية والمقاومة والصمود حتى الشهادة

البطريرك جبرائيل حجولا بإزميل النحات الياس خليفة

  كلود أبو شقرا

 

منذ نشأتها  رفعت الكنيسة المارونية لواء الشهادة والشهداء، وواجه بطاركتها، منذ البطريرك الأول يوحنا مارون،  أشد أنواع العذابات والاضطهادات في سبيل الحفاظ على حريتهم وحرية شعبهم، والشهادة لإيمانهم بالمسيح وتعلقهم بأرضهم المقدسة، وخير دليل على ذلك ما حصل للبطريركين دانيال الحدشيتي وجبرائيل حجولا إبان حكم المماليك الذي ذاق فيه  الموارنة الأمرّين، إذ نُكل بهما وواجها الحرق والقتل لا لشيء إلا لأن كلمتهما قاطعة كحد السيف ومواقفهما ثابتة في وجه الطغاة لا يرهبهما تعذيب أو ترهيب، وأكثر من ذلك أسسا مقاومة شعبية في وجه عساكر المماليك ودافعا عن الأرض المقدسة حتى الرمق الأخير، ولم يقوَ عليهما الطغاة إلا من خلال الحيلة وشراء ضمائر بعض المحيطين بهما تمامًا كما حصل مع يهوذا الذي سلم السيد المسيح.

حجولا  بطريرك الكرامة

يشكل استشهاد البطريرك حجولا حرقًا وهو حي في الأوّل من نيسان سنة 1367، امتدادًا لجرائم المماليك التي عاثت خرابًا وفتنًا طائفية ومذهبية وجرائم إبادة ضد الإنسانية، بحجة  ضمان مصلحتها العليا، فتحوّل رمزًا للمقاومة الإيمانية حتى الفداء من أجل بقاء كنيسة الموارنة حرّة على أرض لبنان، وفي سبيل الحق والاستمرارية والوجود.

لم يكن الراهب جبرائيل من قرية حجولا يسعى ويخطط لأن يتولى سدة البطريركية، فهو كان يعشق التنسك ويعيش حياة العبادة والصلاة،  مع ذلك عندما اختاره الرهبان في وادي قنوبين ليخلف البطريرك يوحنا العاقوري بعد عزله، حمل عصا الرعاية وانتقل إلى دير سيدة إيليج، المقر البطريركي،  في ظروف عصيبة واجهت فيها الكنيسة المارونية انشقاقًا داخليًا كاد يهدد بفتنة بين الموارنة، فعمل على إعادة اللحمة وتوحيد البيت الماروني، الأمر الذي لم يعجب المماليك، فشنوا حملات  لاخضاع الشيعة والدروز والمسيحيين في لبنان، وإثارة الفتن والشقاق بينهم والقضاء على حريتهم واستقلالهم، إلا أن البطريرك حجولا وقف لهم بالمرصاد ومنعهم من تحقيق مآربهم، ما أثار  جنونهم وراحوا يكيلون له التهم بالتعامل مع الصليبيين الذين شنوا حملة على الإسكندرية ونكلوا بأهلها، وسرعان ما صدر الحكم المملوكي بإلقاء القبض عليه وتنفيذ حكم الإعدام به.

في طريقهم إلى حجولا للقبض على البطريرك الذي لجأ إلى إحدى المغاور بناءً على إلحاح الاكليروس والأعيان والشعب، اجتاح المماليك قرى في جبيل والبترون وأمعنوا فيها قتلا ودمروا الكنائس واعتقلوا الرهبان والكهنة، في محاولة للضغط على البطريرك حجولا ليسلم نفسه.

إراقة الدماء أدمت قلب البطريرك ورفض أن يساق شعبه إلى الذبح، فقرر أن يفديه بروحه،  لا سيما بعدما تناهي إليه ما يحصل في القرى من قتل وتنكيل. وسط دموع شعبه وحسرتهم على قائدهم الذي كلل هاماتهم بالكرامة والقوة،  سلم نفسه للمماليك، فكبل بالجنازير واقتيد في موكب محاطًا بالعسكر المملوكي بين القرى إلى أن وصل إلى قلعة طرابلس، وهناك أحرق حيًا، ودفن في المقبرة الاسلامية عند السفح الشمالي من تل الرمل العالي سراً. كي لا يكتشف أحد الموقع الذي يرقد فيه سيّد إيليج الشهيد، أوصى النائب المملوكي بأن يكتب على القبر للتمويه اسم “الشيخ مسعود”.

دامت حبرية البطريرك حجولا عشر سنوات وكانت مفصلية في التاريخ الماروني. يؤكد المؤرخون الموارنة أن “قبره كانت تخرج منه الأشفية إلى كل من طلب شفاعته”. وبحسب الدكتور عمر عبد السلام تدمري، في كتابه “تاريخ طرابلس السياسي والحضاري عبر العصور، أزيل مدفنه في مطلع الستينيات من القرن الماضي حيث أقيم مبنى مكانه.

البطريرك دانيال الحدشيتي

 

دانيال الحدشيتي بطريرك مقاوم

بطريرك عملاق مقاوم ومدافع بشراسة عن الإيمان المسيحي، هكذا لقب دانيال الحدشيتي (البطريرك الخامس والثلاثون)، الذي وقف في وجه المعتدين على الإيمان، فصلى بالمسبحة وقاوم بالسيف، وقدّم نفسه محرقة من اجل لبنان وأرضه متشيثًا بالإيمان المسيحي، وبالصمود في مواجهة الطغاة، فأرهب المماليك وعمل له أمير طرابلس ألف حساب، وجمع حوله الشعب.

لم تتمكن منه الحملات المتكررة على الجبل، بل زادته شموخًا وقوة وتعلق شعبه به والتفافه حوله.  ففي سنة 1264 وصلت حملة المماليك بقيادة الملك الظاهر إلى طرابلس، فتصدى لها الموارنة الهابطون من جبالهم وأوقفوا تقدم المماليك إلى جبل لبنان، لكن المماليك أعادوا الكرة سنة 1266 من دون أن يحرزوا أي نجاح، وبقي البطريرك سدًا منيعًا في وجه الطغاة يذود بكل ما أوتي من قوة إيمان عن أرضه وشعبه، فشبهه المماليك بالقلعة وراحوا يخططون لاقتحامها.

في مطلع سنة 1282 شنّ المماليك حملة ضخمة على جبل لبنان بقيادة السلطان قلاوون ولاقاه حسام الدين من دمشق، فحاصروا جبة بشري واجتاحوا حصرون والحدث وحاصروا الموارنة المتحصنين في إهدن بقيادة البطريرك دانيال الحدشيتي الذي قاد المقاتلين الموارنة 40 يوماً، ولم يتمكنوا من اقتحام إهدن إلا بالحيلة، ذلك أنهم أرسلوا إليه من يقترح عليه التفاوض، وحقنًا للدماء قبل، وما أن اجتمع بهم حتى قبضوا عليه وقتلوه، ودفن في إيليج.

كتب البطريرك الدويهي: “سنة 1282 قاد البطريرك الحدشيتي رجاله وقاوم جيوش المماليك عندما زحفت على جبّة بشري، واستطاع أن يوقف الجيوش أمام إهدن أربعين يوماً، ولم يتمكّنوا منها إلا بعدما أمسكوا البطريرك بالحيلة”.

في خلال الاحتفال بازاحة الستارة عن تمثال البطريرك دانيال الحدشيتي، الذي أقيم في أيلول 2019 اعتبر البطريرك مار بشارة بطرس الراعي أن دانيال الحدشيتي قدم شهادته في زمن المماليك من اجل حماية الايمان الكاثوليكي وحماية الارض اللبنانية بعد الهجوم على هذه المنطقة وراحوا يخربون ويهدمون وكان مدافعا امام شعبه حتى النهاية. يذكر أن سالومي ابنة الخوري باسيل البشرّاوي، بنت كنيسة مار دانيال في حدث الجبّة على اسم البطريرك دانيال.

في وادي قنوبين

تحتضن حديقة البطاركة في وادي قنوبين تمثال البطريرك الشهيد دانيال الحدشيتي الذي  أنجزه النحات نايف علوان وهو تقدمة المهندس جان ساسين، وقد رفع على إحدى صخور الحديقة والى جانبه لوحة متعددة اللغات تعرّف بالبطريرك الحدشيتي وبأبرز الأحداث التي شهدتها ولايته البطريركية. كذلك تحتضن الحديقة تمثال البطريرك حجولا الذي أنجزه  النحات الياس خليفة.

اترك رد