أ. د. جان جبور
يسرّني جداً أن أشارك في هذه الندوة في اليوم العالمي للغة العربية الذي حدّدته الأمم المتحدة في 18 كانون الأول/ديسمبر، وأشكر بالمناسبة جامعة الجنان، وبشكل خاص العميد هاشم الأيوبي على تنظيم هذا اللقاء الذي يضم اختصاصيين مشهود لهم بعملهم الدؤوب لرفع شأن اللغة العربية والفكر العربي.
بالطبع، حين يلتقي أكاديميون للاحتفال باللغة العربية، فالهدف لا يكون للتمجيد والتفاخر، ولا هو أيضاً للتباكي والتشارك مع أولئك الذين يمضون الوقت في النُواح وترداد المقولة السقيمة بأن اللغة العربية تندثر، وتُشوَّه عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتضعف على ألسنة الشباب، وبالتالي هي لغة لا مستقبل لها. إننا في الواقع نلتقي لنتباحث في السبل التي تجعل لغتنا، بما تزخر به من إمكانيات وفيرة، تواكب العصر والانفجار المعرفي المخوّل لأن تزداد وتيرته في العقود القادمة. وأنا سأتناول الموضوع من زاوية أثر الترجمة في نهضة اللغة العربية.
أبدأ بالقول إن اللغة العربية ليست في خطر، ولا هي لغة الى أفول. وهنا، لا بد من التذكير سريعاً بأن اللغة العربية تحتل المركز الرابع عالمياً من حيث عدد الناطقين بها، الذين هم بحدود أربعمائة مليون شخص؛
وهي اللغة الرسمية في 22 دولة عربية؛ وهي إحدى اللغات الست المعتمدة كلغة رسمية ولغة عمل في الأمم المتحدة؛ وفيها تُنشر سنوياً آلاف الكتب والمجلات والصحف في مختلف البلدان العربية؛ كما تحتل في الوقت الحاضر المركز السادس كلغة اختيارية في الجامعات والمعاهد على صعيد العالم.
هذا عدا عن أنها تغتني بتراث عريق، وهي تاريخياً أثّرت تأثيراً مباشراً وغير مباشر في كثير من اللغات الأخرى، وساعدت على نقل المعارف العلمية والفلسفية إلى أوروبا في عصر النهضة، كما أتاحت إقامة الحوار بين الثقافات على طول المسالك البرية والبحرية لطريق الحرير من سواحل الهند إلى القرن الأفريقي.
إلا أن كل ذلك لا يعني بأن اللغة العربية لا تواجه تحديات خطيرة. فقد أدت التطورات التكنولوجية والاستخدام المكثف للغات العالمية مثل الانكليزية والفرنسية إلى تغييرات عديدة في استخدام اللغة العربية. فعلى نحو متزايد، تحل هذه اللغات الأجنبية محل اللغة العربية في التواصل اليومي وفي المجال الأكاديمي.كما أن الانفجار المعرفي يحتّم سد الفجوة الهائلة بين اللغة العربية والمعارف والعلوم والتقنيات في جميع المجالات، وربط اللغة العربية بجميع معطيات العصر وتطوراته في الميادين كافة. هذه الحركة السريعة تدعونا للاقتباس والنقل والاستفادة الواسعة من نتائج هذه العلوم جميعاً في إغناء اللغة العربية وربطها بحركة الفكر الإنساني. فهل يمكن لحركة الترجمة أن تكون عنصراً يُسهم في نهضة اللغة العربية والفكر العربي ؟ سأحاول أن أُجيب على هذا السؤال بعد تجربة طويلة في مجال الترجمة قادتني الى التعامل مع مؤسسات كبرى ودور نشر عديدة في لبنان والعالم العربي، وأستطيع القول إنها في معظم محطاتها كانت ايجابية، إلا أن الواقعية تقتضي منا أن نعترف بأن ما تحقّق حتى الآن لا يرقى الى المستوى النهضوي الذي نصبو اليه والذي يجعل من اللغة العربية لغة منافِسة فعلية على الصعيد العالمي.
1- واقع الترجمة المجمّل
من ينظر من بعيد الى عالم الترجمة في العالم العربي، لا بد وأن تلفته جوانب مضيئة :
-وجود مؤسسات جادة تُعنى بالترجمة : المركز القومي للترجمة (مصر)، المنظمة العربية للترجمة (لبنان)، المعهد العربي العالي للترجمة (الجزائر)، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة “كلمة” (أبو ظبي)، مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم “ترجم” (دبي)، المركز الوطني للترجمة وبيت الحكمة (تونس)؛ هذا بالإضافة الى الجهود الترجمية التي تمت بإشراف وزارات الثقافة في الكويت (عالم المعرفة/ من المسرح العالمي) وسوريا والعراق وغيرها من البلدان، والإصدارات التي تولّتها دور النشر، ولاسيما في مصر ولبنان.
-تنامي مدارس الترجمة في الوطن العربي، وتكاد لا تخلو أية جامعة من كلية أو معهد أو قسم للترجمة، هذا بالإضافة الى برامج للتدريب على الترجمة في أجزاء مختلفة من العالم العربي، مما أنتج زيادة ملحوظة في عدد المؤهّلين العاملين في مهنة الترجمة.
-انعقاد مؤتمرات عديدة حول واقع الترجمة وسبل النهوض بها ضمّت عدداً كبيراً من الاختصاصيين، وقد أصدرت الكثير من التوصيات ووضعت الكثير من الخطط. في بعض هذه المؤتمرات كانت هناك محاولات ودعوات لرسم استراتيجية قومية للترجمة. إلا أن عوامل مختلفة عطلت هذه المشاريع أو جعلتها تبقى أسيرة المؤتمرات والندوات المغلقة ولم تؤسس فعلاً ثقافياً قومياً تراكمياً يمكن البناء عليه وتطويره.
-صدور عدد كبير من المعاجم الثنائية العامة أو المتخصصة والتي سعت لإدخال أكبر عدد ممكن من المصطلحات العلمية، مع بعض الشروح والتفسير، علماً بأن ترجمة المصطلح أمر بغاية الصعوبة، ولا تكمن المشكلة فقط في ابتكار المصطلح أو توليده أو ترجمته أو نسخه وإنما كذلك في تعدده واختلافه من معجم لآخر. وينتظرنا في هذا المجال عمل كثير يتوجّب أن يكون حصراً عملاً مؤسساتياً.
-قيام مؤسسات بمنح جوائز تشجيعية، وهذا الأمر يُسهم بالنهوض بمستوى الترجمة ويسلّط الضوء على أشخاص قاموا بجهود بارزة من خلال إنجازهم لأعمال مميّزة في مجال الترجمة.
2- المعوقات والتحديات
أ- على صعيد اللغة
-قضية المصطلحات : إنها مشكلة حقيقية يعاني منها واضعو المعاجم والمترجمون. فهناك كمّ متراكم ومتزايد يومياً في مختلف ميادين المعرفة من المصطلحات الأجنبية التي تنتظر التأصيل. ومن ناحية ثانية هناك تعدّد الجهات العربية المعنية بالوضع المصطلحي، والتي تفتقر الى منهجية موحّدة للتعامل مع المصطلح الوافد، فيجد الباحث نفسه أحياناً أمام تعدّد المرجعية اللغوية للمصطلح ما بين معرّب أو موروث أو مشتق أو منحوت الخ. بالإضافة الى انعدام صفة الإلزام لدى الهيئات المتخصّصة بالوضع المصطلحي. في هذا المجال أيضاً، لا نجد أية دراسة جدية تقارن بين قواعد التوليد المعتمدة. نجم عن هذا الواقع أحياناً وضع إشكالي، إذ نجد في بعض الحالات عدم فهم دقيق للمفهوم الذي يرمز اليه المصطلح الأجنبي، مما يُنتج مقابلات ليست بذات قيمة، أو اشتقاقات تستغلق على الفهم، أو ترجمة مصطلح يحتمل دلالات عديدة بمصطلح عربي واحد، أو اللجوء الى أسهل الطرق عن طريق استنساخ الكلمة الأجنبية، مما يُفضي الى تراكم الدخيل.
قضية المصطلحات تطرح بشكل مباشر مسألة المجامع اللغوية :
-المجامع اللغوية
المجامع اللغوية هي المؤسسات المنوط بها العمل على تطوير اللغة ومحاولة تجديدها بما يناسب العصر الحديث. لكن المجامع اللغوية العربية في الواقع تمر بأزمة حقيقية. فعلى كثرة انتشار مجامع اللغة في الوطن العربي، بدءاً من مجمع دمشق الذي أُنشىء عام 1916، ومجمع القاهرة (1932)، مروراً بالمجمع العلمي العراقي (1947)، والمجمع الأردني (1961)، والمجمع التونسي (1983)، والمجمع السوداني (1993)، وأخيراً مجمع اللغة بالشارقة (2016)، فضلاً عن كثير من المؤسسات والمراكز المعنية باللغة، إلا أن أحداً لا يشعر بحضور أي من هذه المجامع والمؤسسات في الحياة الاجتماعية والثقافية. فعلى الرغم من الأدوار الأساسية التي أنشئت من أجلها، وعلى الرغم من أهمية المعاجم والقواميس التي عكف كبار اختصاصيي اللغة على إنجازها… ظلت هذه المجامع غير مؤثّرة فعلياً في إثراء اللغة وتنمية طاقاتها التعبيرية، ولا في توحيد المصطلحات العلمية. فى عام 1971 تم تأسيس اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية، والغاية منه تنظيم وسائل الاتصال بين المجامع المختلفة وتنسيق جهودها. لكن هذا الاتحاد بدوره لم يحقّق قفزة نوعية (في مايو/أيار 2017 دشّن الاتحاد مشروع المعجم التاريخي للغة العربية).
خلاصة القول، إن اللغة العربية لا تزال تواجه تحديات جمة تحول دون تمكنها من مسايرة الحداثة والطفرات العلمية والتقنية الهائلة التي يشهدها العالم اليوم في ظل العولمة. بالطبع إن هذا العجز ليس بنيوياً، واللغة العربية لغة حية وغنية، وتمتاز بقدرتها على التكيّف والإبداع، وإنما يرتبط بشكل أساسي بحالة التشرذم السياسي والعلمي والتكنولوجي المهيمنة في الدول العربية. لا بد إذاً من وجود هيئة فاعلة ذات تطلّعات ثورية وتمتلك سلطة القرار، لديها امكانيات بشرية ومادية هائلة، تعمل بالتعاون مع الجامعات العربية ومراكز البحث ذات الاختصاص، على أمل التمكن من سدّ الفجوة التي تزداد عمقاً يوماً بعد يوم.
ب- على صعيد الفكر
الترجمة عنصر من العناصر الهامة في تجديد الفكر العربي وإثرائه. فهي تساهم في صناعة وإنتاج المعرفة بكل أشكالها. فمع إقرارنا بالجهود الكبرى التي تبذلها مؤسسات كبرى تعنى بالترجمة، وما تتمتع به من جِدّية في اختيارات موضوعاتها وأسماء مترجميها، إلّا أنّ نقصاً ما يزال يعتري الواقع العام للترجمة. فلا أعداد الكتب المترجمة مخوّل لأن يُحدث الفرق، سيما وأن ما تترجمه الدول العربية مجتمعة يكاد لا يوازي ما تترجمه دولة أجنبية واحدة كاليابان أو ألمانيا مثلاً، ولا تراكم الترجمات يشكّل مشروعاً نهضوياً مدروساً وموجّهاً يذكّرنا بعصر المأمون. هذه المجهودات إذاً لم ترقَ بعد الى مستوى المشروع الحضاري المتكامل الذي يستوجب استراتيجية كاملة وتخطيطاً بعيد المدى يتيح المجال للبناء عليه. فما نحتاج اليه فعلياً هو خطة قومية ذات منهجية علمية مدروسة :
- خطة قومية : الترجمة ليست مسألة أو قضية قائمة بذاتها، ولا يمكن فصلها عن أزمة الثقافة العربية ككل. كما أنها لا تقتصر على جهود فردية يقوم بها أفراد أو مؤسسات، بالرغم من التقدير الكبير لما تمّ إنجازه. الترجمة هي خطة مجتمع ودولة وخطة قومية وثقافية، كما أنها حاجة ثقافية وحضارية. من هنا تحتاج البلدان العربية لعملية ترجمة مؤسسية وممنهجة ترتبط باستراتيجية ثقافية قومية. فهناك فجوة كبيرة بين ما تنتجه ثقافتنا العربية وثقافة الغرب، وهذا يتطلّب ترجمة آلاف الكتب في مجالات المعرفة المختلفة (توازن بين الآداب والعلوم) حتى يتسنّى لنا مواكبة العصر وإشكالياته. قد تكمن البداية في إيجاد نمط من التنسيق بين مراكز الترجمة في الوطن العربي لوقف فوضى الترجمة يلي ذلك وضع استراتيجية عقلانية للترجمة يجري من خلالها تحديد الأهداف القومية والمعرفية الضرورية لعملية الترجمة وما يجب أن يشكل غاية نهضوية للترجمة. أعرف تماماً أن هكذا طموح قد يبدو طوباوياً في ظل الوضع العربي الراهن. لكنها فكرة يجب أن ترسخ في الأذهان، ولا سبيل لقيام نهضة فعلية بدون هذا المسلك.
خلاصة
بالرغم من ضبابية الصورة، أعتقد أن الأمور ليست على درجة من السوء الذي يتصوره البعض، ذاك أن الخبرات التي تكتسبها المؤسسات التي تُعنى بالترجمة حالياً والتجارب التي تقوم بها والصعوبات التي تواجهها وتسعى لتذليلها لا بد وأن تقودها في النهاية الى تنسيق الجهود فيما بينها وبلورة مشروع متكامل بالرغم من المعوقات السياسية والاقتصادية والفكرية التي لا مجال للخوض فيها الآن. في الماضي لعبت الترجمة دوراً بارزاً في تألّق الثقافة العربية. واليوم في ظل العولمة تواجه هذه الثقافة بالذات تحدّيات متعدّدة خارجية وداخلية، والانكفاء أو الانعزال يعني الموت الأكيد. لا بد إذاً من أن تُسهم الترجمة -التي هي نافذة مهمة على العلم ووسيلة أساسية لنقل المعارف وأداة للتواصل-، في إثراء اللغة العربية وفي تشكيل الفكر العربي الحديث، إذا ما حصلت في إطار عملية نهضة علمية-معرفية كبرى، نصبو اليها بكل جوارحنا.
***
(*) القيت في الندوة التي أقامتها جامعة الجنان بعنوان “لغتنا هُويتنا”، بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية.