(وتَرَكتُ القَريَةَ، ولكِنَّ القَلبَ بَقِيَ هُناك!)
(إِلى دارشمِزِّين، مَلعَبِ طُفُولَتِي، ومَغْنَى صِبايَ وشَبابِي، ومَلاذِيَ في خَرِيفِ العُمْرِ، ومِهادِيَ الأَوَّلِ والأَخِير!)
قَريَتِي… نَبْعُ الضِّياءِ الأَصْهَبِ(1)، نَجمَةٌ تَبرُقُ بَينَ السُّحُبِ
مَلعَبِي كُنتِ، وَكَمْ كانَت لَنا هَفَواتٌ فَوقَ ذاكَ المَلعَبِ
أَنتِ يا مَنْ عِشْتُ في أَحضانِها نَهَمَ الطِّفلِ، وأَشواقَ الصَّبِي
ونَشَقتُ السِّحْرَ مِن أَرجائِها، زادَ أَحلامٍ لِشِعرِي الأَعذَبِ،
أَنتِ يا مَن رَضِعَت مِن نَهدِها أَضلُعِي الحَرَّى سُمُوَّ المَأْرَبِ،
مِن أَبِي نِلتُ، ومِنكِ، الكِبْرَ في تَوْقِيَ الدَّائِمِ لِلطَّبْعِ الأَبِي
وَجَلَوتُ الحُسْنَ شِعْرًا نابِضًا، فَتَلالا كَوَمِيضِ الشُّهُبِ
واندَرا(2) شَوقًا، وبَدْعًا(3) مُلهِمًا، ساحِرَ الرِّقَّةِ مِن رُؤْيا نَبِي!
***
قَريَتِي… مُذْ غِبْتُ عَن حِضنِكِ في نَزعَةِ النَّفسِ لِرُكنٍ أَنسَبِ
لاهِثًا خَلفَ سَرابٍ هارِبٍ ناشِدًا ما غابَ خَلفَ الكَوكَبِ،
أَركَبُ الصَّعبَ، وإِمَّا بَعُدَتْ مُنيَتِي أَقفِزُ نَحوَ الأَصعَبِ،
تَأكُلُ الأَيَّامُ مِن عُمرِي الصِّبا، فَإِذا جِسمِي أَلِيفُ الوَصَبِ(4)
وأَنا المُضنَى خَيالٌ ناحِلٌ، مُنهَكُ العَزْمِ، رَخِيُّ الهُدُبِ
مُبصِرٌ ما ضامَنِي، آوِي إِلى قَلَمِي السَّمْحِ، ورِفْدِ(5) الكُتُبِ!
***
قَريَتِي… كَم كانَ في تِلكَ الرُّبَى شَجَرٌ غَضٌّ بِمَرجٍ مُخْصِبِ
فِيهِ لِلتِّيْنِ مَواعِيدُ الجَنَى في نَدَى الصُّبحِ، وأَشْهَى العِنَبِ
قَريَتِي… هل لا يَزَالُ المُنحَنَى مائِجًا في بُرْدِهِ المُعشَوشِبِ
وشُجَيراتٌ مِنَ الشَّربِينِ هل بَقِيَتْ تَزْهُو على المُنقَلَبِ،
وحُقُولُ القَمحِ هل لا زالَ في مَدِّها المائِجِ لَونُ الذَّهَبِ
ثُمَّ زَيتُونُكِ عِشنا مِنهُ في عِزَّةِ النَّفسِ، ونُبْلِ النَّسَبِ
هو واحاتٌ لَنا في يَفْعِنا(6)، وهو زادٌ لِلمَسِيرِ المُتعِبِ
مِن جَنَى حُبَّانِهِ نِلنا المُنَى، خالِصَ العِلْمِ، وأَنقَى الحَسَبِ
هو يَبقَى في اخضِلالٍ دائِمٍ، شِعْرَ رَبٍّ في ثَراكِ الأَخصَبِ
وبِذاكَ السَّفْحِ هل لا زِلتَ يا جَدوَلِي الحانِي رَفِيقَ العُشُبِ
تَحمِلُ الماءَ لُجَينًا صافِيًا هو لِلظَّامِئِ طِيْبُ المَشرَبِ
مُنشِدًا لِلسَّفْحِ أَنغامَ العُلَى في هَزِيزِ(7) الرِّيحِ بَينَ القَصَبِ
قَريَتِي… هل يا تُرَى إِنشادُنا، وخَرِيرُ الجَدوَلِ المُنسَكِبِ
بَقِيَت عِندَكِ حِرْزًا(8) نابِضًا، أَم تَناءَت في مَطاوِي الغَيْهَبِ(9)
قَريَتِي… قَلبِيَ تَوَّاقٌ لِأَنْ أَكحَلَ العَينَ بِلَونِ المَغرِبِ،
عِندَ ذاكَ المَرجِ، أَو تِلكَ الرُّبَى بَينَ أَطيابِ الرَّبِيعِ الأَخضَبِ(10)
أُذكُرِي يا شَمْسُ أَيَّامًا لَنا صِبيَةً تَعشَقُ طَعْمَ الصَّخَبِ
نَملَأُ الدُّنيا مُنًى حِينَ الضِّيا يَغمُرُ الأَخضَرَ فَوقَ الهِضَبِ
ويُبادِينا الأَسَى غِبَّ المَسا، ونَوَدُّ، العُمْرَ، أَلَّا تَغْرُبِي!
***
قَريَتِي… أَينَ صَباياكِ وقد أَحرَقَتنا بِدَلالٍ عَجَبِ
نَظرَةٌ تَملَأُ دُنيانا فَلا غَيرُها يَروِي غَلِيلَ التَّعِبِ
طَرَبٌ أَيَّامُنا مِن غَيرِ ما سَعَةٍ، يا طِيْبَهُ مِن طَرَبِ
أَينَ تِلكَ الدُّميَةُ الكانَت مَدَى بالِيَ المَهمُومِ أَقصَى الأَرَبِ(11)
حَمَّلَت قَلبِيَ أَشواقَ الجَوَى(12)، ومَضَت، والرِّيحُ ذَرَّت مَطلَبِي
يا لَيالِيها أَما عَوْدٌ إِلى صَبَواتٍ ـــــــــــ في الزَّمانِ الأَطيَبِ؟!
حَبَّذا تَلكَ ولَو في عَوْدِها خَسِرَ العُمْرُ غِلالَ المَكْسَبِ!
***
ها أَنا، اليَومَ، وقَد ماجَ دَمِي تَحتَ أَرياحِ الحَنِينِ المُلهِبِ،
لِدِيارِ الحُلْمِ في قَريَتِنا وأُوَيقاتِ الشَّبابِ الطَّيِّبِ
آهِ لَو يَرجِعُ عُمْرٌ فائِتٌ ساعَةً مِن خَلفِ هذِي الحِقَبِ
آه لَكِنْ… ها أَرانِي أَبتَغِي وِقفَةَ الجَبَّارِ بَعدَ العَطَبِ؟!
قَريَتِي عُدْنَا… ولَكِنْ لَم يَعُدْ رَكبُنا رَكْبَ الصِّبا المُستَعذَبِ،
لَم تَعُدْ أَحلامُنا تَزهُو غِوًى بَينَ أَبرادٍ، لها، في الأَقشَبِ!
***
قَريَتِي إِن جِئْتُ يَومًا هاجِعًا بَينَ أَخشابٍ بِحَفْلٍ مُتْعَبِ
في حَنِينٍ مِن رِفاقٍ فُجِعُوا، ودُمُوعٍ في ثَنايا المَوكِبِ
وَزِّعِي البَسمَةَ في الحَفْلِ ولا تَأسَفِي، أَو تَحزَنِي، أَو تَندُبِي
مَزِّقِي عَن جَسَدِي أَكفانَهُ، وانثُرِي أَلواحَ نَعشِي المُجدِبِ،
وخُذِينِي بَينَ جَنحَيكِ وفي لَهفَةِ الشَّوقِ وغَمْرِ اللَّهَبِ
وادفُنِينِي في ثَراكِ عارِيًا أَحضُنُ التُّربَةَ إِذ تَقتاتُ بِي،
أَنا مِن أَرضِكِ ذَرَّاتٌ أَتَت بِاشتِياقِ العائِدِ المُغتَرِبِ،
تَنشُدُ الدِّفْءَ بِأَحضانِكِ يا ذَرَّةً أُخرَى بِكَوْنٍ أَرحَبِ!
***
(1): أَصْهَبِ: فاعِلٌ مِنْ صَهُبَ / صَهُبَ اللَّونُ: كانَ أصْفَرَ ضارِبًا إِلى حُمْرَةٍ وبَياض
(2): اندَرَأَ: انتَشَرَ / طَلَعَ فَجأَةً / اندَفَعَ
(3): البَدْعُ: مَصْدَرُ بَدَعَ / بَدَعَ: خَلَقَ، ابتَكَرَ عَى غَيرِ مِثَال
(4): وَصَبِ: وَجَعٌ ومَرَض
(5): الرِّفْدُ: العَطاءُ والصِّلَةُ
(6): يَفْع: مَصْدَرُ يفَعَ / يَفَعَ الغُلامُ: تَرَعرَعَ، شَبَّ وناهَزَ البُلُوغَ
(7): هَزِيز: صَوْتُ الرِّياح
(8): الحِرْزُ: الوِعاءُ الحَصِينُ يُحفَظُ فِيهِ الشَّيء / المَكانُ المَنِيعُ يُلَجَأُ إِلَيه / تَمِيمَةٌ أَو تَعْوِيذَةٌ يُكتَبُ عَلَيها
وتُحمَلُ لِتَحمِيَ حامِلَها مِنَ المَرَضِ والخَطَر
(9): غَيْهَبِ: ظُلمَة
(10): الأَخْضَب: الأَكثَرُ خَضْبًا / الخَضْبُ: خُضْرَةُ الشَّجَرِ عِندَ ابتِداءِ الإِيراق
(11): الأَرَب: البُغْيَةُ والأُمنِيَّة / الحاجَة، أَو الحاجَةُ الشَّدِيدَة
(12): الجَوَى: شِدَّةُ العِشْقِ وما يُورِثُهُ مِنْ حُزْنٍ