مُواكَبَةً لقضية حياد لبنان، التي غدت موضع سجالٍ بين الأفرقاء اللبنانيين: قوى سياسيةً ومرجعيات دينية، وآخر فصولها “مذكرة لبنان والحياد الناشط”،التي أطلقها غبطة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، عقد “مركز تموز للدراسات والتكوين على المواطنية” ورشة تفكير ونقاش، يومي 25 و26 أيلول 2020، بعنوان:” حياد لبنان/ التحديات والفُرص”، وذلك بالتعاون مع مؤسسة (Hanns Seidel Stiftung) الألمانية.
إلى الجلسة الافتتاحية، التي تكلم فيها رئيس “مركز تموز” د. أدونيس العكره، والمسؤول الإقليمي لمؤسسة “هانز زايدل” السيد كريستوف دوفارتس، تضمّنت الورشة ست جلسات وقُدِّمت أوراق عمل لمجموعة من الأكاديميين والأساتذة الجامعيين، متخصصين في علم القانون والسياسة والاقتصاد والتاريخ، إلى ممثلي قوى سياسية وخبراء عسكريين. وقد كان نقاشٌ، شارك فيه عددٌ من طلبة الدراسات العليا، من مختلف جامعات لبنان، إلى ممثلين لهيئات فاعلة في المجتمع المدني ومهتمين.
وإذْ تمَّت مقاربة أطروحة حياد لبنان، سياسياً واقتصادياً ومالياً وعسكرياً، فمن منظور القانون الدولي، مع حرصٍ على تحديد المفاهيم وعدم الخلط بين الحياد والتحييد وما إلى ذلك من مصطلحات غير علمية، وقد كان استعراضٌ لتجارب بعض الدول التي اعتمدت نظام الحياد.
في ختام أعمال الورشة، تم الخلوص إلى المنطلقات والرؤى، كما التوصيات الآتية:
أولاً- في المنطلقات والرؤى:
1- إن الدعوة إلى حياد لبنان الدائم ارتبطت بمختلف محطات الصراع بين مكوِّناته الطوائفية والسياسية، وقد تبدّى أبرز هذه المحطات، عَبْرَ “الميثاق الوطني” للعام 1943، و”اتفاق الهدنة” مع العدو الصهيوني (1949)، و”إعلان بعبدا” (11 حزيران 2012) مشفوعاً بما سُمّي “سياسة النأي بالنفس”، وصولاً إلى “مذكرة لبنان والحياد الناشط” التي أطلقها غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، في مؤتمر صحفي بتاريخ 17 آب 2020.
2- إن اعتماد لبنان نظام الحياد تعترضه معوّقاتٌ شتّى، فالمجتمع اللبناني يُعاني إنشطاراً عمودياً، إذْ تحكمُهُ خلافاتٌ عميقة، في عِدادها اختلاف النظرة إلى الصراع مع العدو الصهيوني، الطامع في أرض لبنان ومنابع مياهه العذبة وبحره وثروته النفطية والغازية. وعلى رُغم “اتفاق الهدنة”، فقد قام بعدة غزوات وحروب، أوسعها “عملية الليطاني”(1978)، و”عملية السلام للجليل”(1982)، وهي أكبر الحروب، إذْ وصل إلى بيروت، فكانت أول عاصمة عربية يدخلها العدو الإسرائيلي. ناهيك، عن استباحته الأجواء اللبنانية، بشكل شبه يومي. وإلى ذلك فإن ثمة معاهدة تربط لبنان بجامعة الدول العربية “معاهدة الدفاع العربي المشترك”، وأخرى مع سوريا “معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق”(1991) والاتفاقيات المنبثقة عنها.
3- تأسيساً على ما تقدّم، فإن الإصرار على الجنوح نحو حياد لبنان راهناً، قد يصبُّ الزيت على نار الخلافات المستحكمة بين الأفرقاء اللبنانيين وبعض المرجعيات الدينية، وقد تناهى إلينا “عيّنات” في هذا المجال. أضف أن طرح حياد لبنان يستثير طروحات مقابلة، من مثل إعادة النظر في النظام (المؤتمر التأسيسي سبيلاً إلى المثالثة) والفدرلة والتقسيم الخ..
4- إن نظام الحياد الدائم يعني خروج لبنان من النظام المالي العالمي (نظام الدولرة)، كما الخروج من مختلف المؤسسات الدولية ذات الصلة. علماً أن الحياد، على إيجابيتِهِ في نواحٍ كثيرة، لم يعُدْ امتيازاً سياديّاً للدول التي تعتمده، في ظل نظام العولمة الذي يفرض سطوته على العالم، في مختلف المجالات.
5- في جملة المعوّقات، التي تقف حجر عثرة في وجه حياد لبنان، ما خلَّفته الأزمة المالية الطاحنة، لا سيما لجهة الوقوع تحت وطأة الديون السيادية، التي عجز عن سدادها في مواعيدها المحدّدة، إذْ هي ترهن لبنان لأصحاب هذه الديون، وجُلّهم من جنسيات أجنبية.
6- إن نظام الحياد الدائم، من حيث وجهه الإيجابي، لا يعني الانعزال ولا الاستقالة من التعاطي مع الخارج، بمختلف مؤسساته. كما لا يعني التخلي عن السيادة وعدم بناء جيش قوي وقدرات عسكرية والدفاع عن البلاد.
ومن هذا المنطلق، فإن نظام الحياد يمكن تقبُّلُه إذا كان يؤول إلى حل الأزمة اللبنانية الحالّية ومُتعدّدة الأوجه، ولا يُفضي إلى خيارات تتهدّده: دولةً وكياناً.
7- إن الجمهورية اللبنانية، منذ الاستقلال ، لم تعرف الاستقرار إلاّ في فتراتٍ متقطّعة، جرّاء التدخّلات الخارجية، إقليمياً ودولياً، من دون إغفال التناحر الطائفي الذي شرّع الأبواب، بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر، أمام هذه التدخلات، مما يعرّض لبنان، لا سيما في هذه الظروف العصيبة، إلى خطر الزوال.
8- بعد مضي 77 سنة على استقلال لبنان، لم تقُمْ دولة حقيقية، بل مجرّد نظام سياسي، مكَّن لمنظومة حاكمة فاسدة و مُفسدة تقاسم السلطة والنفوذ والمغانم. هو، في جوهره، نظام تحاصص طوائفي كونفدرالي مُفلس ، وضع لبنان في خضمّ انهيار مالي واقتصادي.
9- إن وجود دولة قوية وعادلة شرطٌ لازمٌ لإقرار نظام الحياد. ناهيك عن أن الحياد، ببُعدهِ المصيري المؤسِّس لنظام جديد، يستوجبُ وفاقاً وطنياً قابلاً للتوظيف في دولة قادرة على اتخاذ قرار بشأنه.
ثانياً- في التوصيات والمقترحات:
1- حول الدعوة إلى قيام نظام الحياد الدائم في لبنان، فإن مؤتمراً تأسيسياً قد يُشكِّل حلاًّ للخروج من حالة الاستعصاء التي تراوح فيها أزمة لبنان المزمنة، والتي تستنزفهُ على جميع الصُعُد. بيد أن لهذا الحلّ شروطاً، أبرزها: قيام حكومة ذات مهمة إنقاذية، تضع مشروع قانون انتخابات نيابية عصرياً، يُراعي أحكام الدستور، لا سيما المادة 22 (مجلس نواب على أساس وطني ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف)، والمادة 27 (عضو مجلس النواب يُمثل الأمة جمعاء)، وعلى أن يتم إجراء انتخابات، وفق هذا القانون يُفضي إلى مجلس نواب، يُؤمِّن صحة التمثيل الشعبي، ويُشكِّل ، بحدّ ذاته، مؤتمراً تأسيسياً لإعادة بناء لبنان جديد: دولةً ووطناً.
2- إن لبنان مدعوٌّ، من منطلق الحياد نقدياً، إلى الإقلاع عن ثقافة التبعية المالية، إذْ لا قيامة له إلاّ باعتماده الديمقراطية النقدية، بمعنى عدم الارتهان لنظام الدولرة، الذي أطاح العملة الوطنية، وأدّى إلى إفلاس اللبنانيين ونهب أموالهم ورميهم في مهاوي مجاعة مُحقّقة.
3- دعوة اللبنانيين، مسؤولين و”شعوباً” مُتناحرة إلى الاتعاظ من تجارب لبنان التاريخية المؤلمة، فيعملوا على بناء دولة أكثر عدالةً وأكثر منعةً وأكثر إنسانيةً. بل دولة مدنية علمانية ، ديمقراطية، مُتحررة من المعتقلات الطائفية والمزارع المذهبية.
4- استتباعاً، دعوة اللبنانيين، بكل مكوّناتهم وأطيافهم، إلى الإقلاع عن جعل لبنان ساحةً مُستباحة، تستدعي الخارج إلى الداخل، بما يمكّنُ هذا الخارج من تحقيق مصالحه الذاتية واستراتيجيتهِ بعيدة المدى.
5- إن المطلوب، أكثر من أي وقت مضى، إطِّراح لبنان المتهالك والآيل إلى السقوط، عاجلاً أم آجلاً، وبالمقابل الدفع باتجاه لبنان جديد، يتثاقل في عملية انبثاقه. وبذا يأتي طرح حياد لبنان الدائم كفعل وليس كردة فعل على عدم امتلاك الدولة اللبنانية قرارها السيادي، وحصرية السلاح بيد الدولة، كما حصرية قراري السلم والحرب.
6- دعوة “مركز تموز للدراسات والتكوين على المواطنية” إلى أن يمضي قُدُماً بفعالياته، التي تُقاربُ قضايا الساعة، موفِّراً مساحةً واسعةً لحوارات عقلانية خلاّقة وذات صُدقية عالية، بما يُضاد لغة العنف والتخوين، وتوسُّل سائر المفردات التي تُعمّق الشروخ بين اللبنانيين وتفرّق جمعهم وتخندقهم في متاريسهم المتقابلة.
في هذا السياق، لا بد من توجيه الشكر لمؤسسة “هانز زايدل” التي ما فتئت مستمرةً في تبنّي هذه الفعاليات ومدّها بأسباب الدعم، وذلك من منطلق التوجهات التي تجمعها بـ”مركز تموز”، وأحد عناوينها الانتصار للمواطنة، وللأوطان القائمة على أسس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.