هذا النصّ من أجمل النصوص التي قرأتها للأديبة الساحرة مريم رعيدي الدويهي، ابنة أفكار اغترابيّة، ومنه انطلقت، وتمسّكت بأهداب طريقته الرفيعة في التعبير، وليس من عجب في ذلك، فالأفكار رفعت لواء الأدب الراقي، وأخذت بيد الإبداع من مجاهل الإقذاع والتهتّك والصبيانيّة، إلى فضاء أوسع، هو فضاء النهضة الأصيلة التي لا تقبل الهوامش، ولا تعترف إلاّ بالجميل، رغم الأثمان الباهظة التي دفعناها لإحقاق الأدب الحقّ. ومريم اشتغلت على نفسها داخل إطار المدرسة وقيمها الذهبيّة: اللغة السهلة الممتنعة، التصوير الجميل بريشة مبدعة، الرقيّ في البوح عن المشاعر، واستخدام أقلّ عدد ممكن من القوافي في النثر، والتوازن الدقيق بين الرمزيّة والواقعيّة…
وقبل أن أضيء على نصّ “شهقة القنديل” من كتاب جديد لمريم بعنوان “وبعدك بتسأل عنّا يا شجر الغْياب”، أعرضه كاملاً:
بعدِك عا بالي
يا شهقة القنديل
اللي معلّق من سنين
بالبيت العتيق
رْفيق الليالي الطويله
فوق الوادي الغميق…
كنتْ متل القمر
ونحنا ولاد زغار
عالحصيره تجمّعنا
وحكايات تسهر معنا
من ستّي الختياره
ومغزال ما بيترك إيديها
وخيطان وسنّاره…
وقدّيش كانت تخبّرنا خبريّات
وعا وجوهنا ضحكات…
وكيف علاء الدين نزل عالبِير
وخطفوه جنّيّات؟
وكيف الأمير تغزّل ببنت صبيّه عالجسر
وما كان لابس عوينات؟
وكيف علي بابا
فات عا بيت المرا الغنيّه
وسرق من خزنتها دهب وعثملّيّات…
وفجأة فات الخريف عالبيت
وصارت الريح
بالزوايا تصيح…
وما عاد في حدا…
سافرو تخمين عا بلاد خلف البحر…
لا صوت منهم ولا صدى…
وبعدك عا بالي
ولو القزاز انسكر
وتلّجتْ متل الحجر…
هلّق إنت عم تتشردق بالعتم
وضحكتك حزينه…
وجدّي عم يفتّش بالمدينه
عن حدا يشتريك
والدكاكين سكّرو بالعيد…
ومن بعدَك يا هالقنديل الوحيد
مش باقي معنا
إلاّ وجعنا
وقنديل ذكريات
بيضوي وبينطفي
متل الحياة.
الله الله يا مريم… هل هذه أغنية؟ أم قصيدة من قصائد هوميروس ترجمت إلى العربيّة؟ وما هذا التعارض بين الأمس واليوم، بأسلوب رقيق، شفّاف كما الكأس، وتراجيكوميديّ في الوقت نفسه. نصّ يشبه فيلماً سينمائيّاً قصيراً، ولماذا لا يتحوّل إلى فيلم على يد مخرج متمكّن؟
إنّه الإبداع بأجمل صوره. وقد قرأتُ لك الكثير من قبل، وأثنيتُ على طريقتك الخاصّة، لكنّ هذا النصّ مختلف… برموزه، وتجلّياته، وأبعاده… والرؤية الشاعريّة الفذّة التي تحيط به.
وأجمل شيء في هذا النصّ، هو كونه قصّة قصيرة، في داخلها مجموعة من القصص القصيرة. القصّة الجامعة هي قصّة قنديل في بيت قرويّ بسيط، تحت ضوئه فرح وضحكات أطفال. لكنّ ريح الخريف تعصف به، فتنكسر الزجاجة، ويصبح القنديل عجوزاً مقعداً، لا فائدة منه. أمّا القصص الثانويّة، فهي قصّة علاء الدين الذي نزل إلى البئر “وخطفوه جنّيّات”. وقصّة الأمير الذي تغزّل ببنت صبيّة على الجسر، “وما كان لابس عوينات (إيحاء إلى أنّ البنت لم تكن تستحقّ هذا الغزل من الأمير)، وقصّة علي بابا الذي دخل إلى بيت المرأة الغنيّة “وسرق من خزنتها دهب وعثملّيّات”… كما صورة الجدّ الذي توجّه إلى السوق لبيع القنديل العتيق، لكنّ السوق أقفلت في يوم العيد، (دلالة على خيبة الأمل بعد عمر من الفرح الطفوليّ).
قصص أقصر من قصيرة تتوالى، لكنّ النصّ لا يغيب عن الموضوع الأساسيّ “الغربة”، فلماذا انكسر القنديل؟ هل لأنّ الريح دخلت إلى البيت حقيقة، وراحت تصيح؟ لا… بل لأنّ ريح الغربة هي التي خطفت أهل البيت، وتركته مقفراً:
“وما عاد في حدا…
سافرو تخمين عا بلاد خلف البحر…
لا صوت منهم ولا صدى”…
أجل. هذا هو العذاب في قلب مريم، الابتعاد عن مطارح الأمس، وملاعب الطفولة، وجدران البيت التي تداعت في الغياب، وتخلّعت الشبابيك. هناك كانت الصبيّة مريم تمشّط شعرها، وتقطف من حديقة الورد وردة لتزرعها في قميصها المعرّق… وهناك كانت تنتظر فارس أحلامها ليخطفها على حصان، فخطفها البحر، وتحطّمت سفينة الأمل… وماذا بقي؟ خيط ذكريات، تعود إليه مريم في ساعات الضياع، لتفرح ولو من خلال الوهم ببعض ما تبقى من زمان جميل…
“مش باقي معنا
إلاّ وجعنا
وقنديل ذكريات
بيضوي وبينطفي
متل الحياة”.
هكذا غنّت مريم، وهكذا غنّى قلبي معها.
***
(*) مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – سيدني 2020.