صدر عن سلسلة “ترجمان” في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب نوعان من البشر: تشريح العنصرية العادية، وهو ترجمة عاطف المولى العربية لكتاب دوني بلوندان بالفرنسية Les deux espèces humaines: Autopsie du racisme ordinaire. بحسب هذا الكتاب، تميز النظرة الغربية للعالم بين نوعين من البشر: نحن أي الغرب الأبيض، والآخرون أو الشعوب الملوّنة، العالم الثالث والبدائيون. والفصل بين هذين النوعين جذري، فالغرب الأبيض هو التاريخ، بينما تكتسب الشعوب الملوّنة طبيعة جغرافية.
لا إنسانية واحدة بل إنسانيتان
يتألف هذا الكتاب (296 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من ثمانية فصول. في الفصل الأول، “رجل الشيربا المغمور”، يقول بلوندان إن عالمنا الذهني ينبني حول تعارض بين نوعين إنسانيَين، “وتتلخص المسألة كلها في معرفة سر إصرارنا على الجهر عاليًا بأننا ننتمي إلى إنسانية واحدة، وفي القول إن جميع البشر متساوون ويمكنهم التمتع بالحقوق الأساسية نفسها”.
يرى المؤلف أن خط الفصل بين الإنسانيتين واضح، ويكفي على سبيل المثال المقارنة بين قدَرَي اثنين من البشر ولدا على الحدود بين الشمال والجنوب؛ “فالمواطن الأميركي، بفعل مولده على أرض مباركة، يفخر بحمل جواز سفر أميركي، مع كل ما يحمله الأمر من امتيازات، في حين أن المواطن المكسيكي، المولود في الشارع المحاذي في القرية العالمية، سيجد نفسه محصورًا إلى الأبد ضمن حدود مكانةٍ من الدرجة الثانية”.
يضيف بلوندان أن بنية الكتب المدرسية في مقاطعة كيبيك الكندية تنطلق من الفصل بين النوعين الإنسانيين: الإنسانية التاريخية (نحن) والإنسانية الجغرافية (الآخرون). ويضيف أن الخطابات المعاصرة عن البدائيين وإقصاءهم المنهجي عن الحياة الإنسانية الحقيقية لا يبقيان محصورين في الكتب المدرسية أو في القصص الخيالية، فهي تشكل نسيج الفلسفة الغربية ذاته، كما تُدرّس على مختلف المستويات ويجري تعميمها ونشرها عبر المطبوعات الكثيرة.
جنس بشري؟ عرق بشري؟
يطرح بلوندان، في الفصل الثاني، “لوسي القردة”، إشكالية “جنس بشري أم عرق بشري”، فيقول إننا ندّعي اليوم أننا حققنا دمج اصناف عدة من البشر في صنف وحيد، إلا أن ذلك مستبعد إكماله؛ لأننا أعطينا هذا الصنف وضعية أنه جنس، ما يؤدي منطقيًّا إلى قبول احتمال وجود أنواع متمايزة في الاستخدامات الشائعة الخلط المنهجي بين مختلف مستويات التصنيف: نوع، جنس، عرق…إلخ. في العلوم البيولوجية، وحده مفهوم النوع كيانٌ معرّف به ومحدد بوضوح؛ إذ إن حدود النوع هي النقطة التي يستحيل التكاثر بعدها. وهذه هي حدود الخصوبة، لأن النوع يؤلف كيانًا معزولًا جينيًّا عن الآخرين. وينبغي أن يكون واضحًا أن البشر – بالمعنى البيولوجي – يشكلون نوعًا واحدًا؛ إذ إن جميع سكان العالم اليوم متناسلون جوانيًّا في ما بينهم، وعلى الرغم من إصرار ثقافتنا على أن تفصل ذهنيًّا البشر إلى أعراق، فإننا نشكِّل بالفعل نوعًا واحدًا. وحاولت القوانين العنصرية العرقية أن تحل محل القوانين البيولوجية، بأن تمنع التصالب بين الأنواع الاجتماعية التي جرى تعريفها بأنها أعراق، إلا أنها لم تنجح في ذلك. وعلى الرغم من هذه البداهة، اخترنا أن نعرّف أنفسنا أننا “الجنس البشري” بالفرنسية، و”العرق البشري” بالإنكليزية، كما لو كانت عبارات “عرق” و”نوع ” و”جنس” شيئًا واحدًا.
ارتباطات واختلافات
في الفصل الثالث، “انحراف القارات”، يرى بلوندان أن التجمعات البشرية تُبرز اختلافات جينية قليلة، تستضمن ترددات مختلفة لدى بعض الجينات، “لكن هذه الاختلافات لا علاقة لها بعمل العقل. ويستند وَهْم وجود تواصلٍ ما بين الأعراق والثقافات إلى الارتباط المتبادل بين هاتين السلسلتين من الاختلافات، لكن العادة العلمية في الانتقال من الارتباطات المتبادلة إلى الأسباب تقع هنا بشكل واضح في موقع الخطأ. مع ذلك، فإن هذا الارتباط المتبادل تفسره بسهولة حقيقة أن البشر معتادون على صنع أطفالهم بأنفسهم عبر جيناتهم، كي يقوموا لاحقًا بتعليمهم ثقافتهم. وتؤمِّن هذه العادة المعممة التوازي بين التقاليد الثقافية والسلالات الجينية، لكن دائمًا من دون صلة مباشرة بين هاتين الحقيقتين. ويكفي أن نغيّر العادة وأن نتبنى أطفالًا غرباء حتى نلاحظ الانفصال التام (التخليع) لهذه الأبعاد لدى الأطفال ذوي العيون المغولية واللكنة الفرنسية أو الكيبيكية الممتازة”.
في رأي بلوندان جرى بناء هذا التصور العرقي انطلاقًا من محورين رئيسين: محور زمني أو تاريخي مسمى “تطوُّر”، ومكرّس لتصورنا للـ “نحن”، ومحور مكاني (حيزي) أو جغرافي مسمى “التكيّف”، مطبَق على تصوُّرنا للآخر. إن النظامين النظريين اللذين يؤمِّنان بنية هذه الرؤية الكونية هما النشوئية التطورية والحتمية البيئية، لكن هاتين النظريتين لا تتنازعان، بل تنبثقان من المصدر نفسه: الداروينية، وتشكلان المتحدرين المتعارضين للرؤية ذاتها، المنقسمة والمعكوسة، كي تطبَق على نحو متعارض على النوعين البشريين.
تطور بيولوجي أو اختراع كيانات بيولوجية
يقول المؤلف، في الفصل الرابع، ” كورتيز والآزتك”، إننا حين نفصل في أذهاننا بين النوعين البشريين المشار إليهما أعلاه، يتحولان على نحو منتظم ومنهجي إلى كيانات بيولوجية. وفي هذا السبيل، نستخدم بناءين اعتباطيين هما في الحقيقة وثيقا الصلة: “هناك من جهة أولى اختراع تطور بيولوجي يحصل في داخل النوع البشري نفسه، وليس قبل ظهوره، وهناك من جهة أخرى اختراع كيانات بيولوجية نسميها أعراقًا واعتبار أنها نتاج طبيعي (بيولوجي أو إيكولوجي) أكثر مما هي حصيلة علاقات بين الحضارات الإنسانية”.
يضيف بلوندان أن هذين الركنين من أركان نظامنا المعرفي “هما أصعب ما يكون على التفكيك؛ إذ إنهما لا يزالان مطبوعين بقوة بطابع البداهة أو الحقيقة، ولأنهما مدعومان دائمًا بأغلبية كبيرة من الناطقين باسم العلم. وقد تلقّى محور الأصناف العرقية ضربات قوية على أيدي علماء بيولوجيا فرنسيين مشهورين، إلا أن محور التطورية لم يمسه شيء، لأن عددًا قليلًا من العلماء هاجم أو لأن أعمال هؤلاء لم تنتقل إلى ساحة السجالات الأيديولوجية. إن تحويل الكائنات البشرية إلى بيولوجية يستوجب أيضًا اللجوء إلى مونتاج آخر، لا يكون فيه البعد الأيديولوجي المحض مغطى إلى هذا الحد بخطاب ذي ادعاءات علمية: وهذه هي الفردانية”.
تناقضات داخل التصورات
في الفصل الخامس، ” النظريات ذات الوجهين”، يجد بلوندان أن لائحة التناقضات في داخل نظام التصورات الغربية للعالم طويلة بقدر ما هي بليغة، ولا سيما في ما يتعلق بتفسيرات التطور والتخلف التي تبدو دائمًا مبنية على أنها نظريات ذات وجهين: واحدة “لنا” وواحدة “للآخرين”.
وفي نظره، يجب التحديد أن هذه النظريات المتعارضة، مع بعض الاستثناءات النادرة، لا يُنظر إليها على أنها تناقضات، بل مجرد تباينات بسيطة، بناءً على نظرة تراها منطبقة على مشكلات متميز بعضها من بعض. لكن بغية اعتبار التطور والتخلف مسألتين متميزتين، ألا يجدر أولًا النظر إلى النوعين البشريَين المتعلقين بهذين المفهومين على أنهما يشكِّلان حقائق متميزة لا يمكن تفسيرها بالرجوع إلى الأسباب أو النماذج نفسها؟ فمن أجل اكتشاف نظام التناقضات بين الخطابين، يجب حسبان مجمل البشر حقيقة واحدة، كائنات من الطبيعة نفسها. إلا أن المفهوم الغربي للبشرية هو بالخصوص مفهوم ذو طابع معياري، بينما يشطره تحليله المعرفي العقلاني إلى مجموعتين متعارضتين على امتداد تشكيلة كاملة من المستويات، يتعامل معها على أنها كيانات بيولوجية.
متساوون ولا متساوون
ويؤكد المؤلف، في الفصل السادس، “الرواية الرسمية”، أن لعبة التفسيرات أو النظريات تبقى غير مفهومة من دون العودة إلى التركيبة الأخلاقية للخطابات، وأن ثمة حوارًا هادئًا يجري باستمرار بين القلب والعقل، بين العلم والفكر، وينبغي دراسة لعبة التبادلات بعمق، لكن يجب أولًا توضيح كيف تختبئ هذه اللعبة تحت تركيبة من الأفكار والمشاعر التي تعطينا رواية رسمية عن العالم.
يلخص بلوندان النسخة الغربية عن الكوزمولوجيا البشرية كما يأتي: “فلنؤكد بقوة أن ليس هناك سوى بشرية واحدة وأن البشر كلهم متساوون، لكن في الحقيقة نحن نعلم جيدًا أن الأعراق البشرية مختلفة بطبيعتها، بقدر الأنواع نفسها، أي إنها ليست موهوبة بشكل متساوٍ لتحقيق التطور أو لحكم العالم، بفضل هذا الصوغ الأكثر دبلوماسية، يوافق الآخرون بشكل أسهل على الإبحار في إنسانيتنا”، مستعيدًا تركيبة غوستاف لوبون: “استنادًا إلى معايير تشريحية جلية مثل لون البشرة، شكل الجمجمة وحجمها، كان من الممكن تحديد أن جنس الإنسان يتألف من أنواع عدة منفصلة تمامًا وعلى الأرجح ذات أصول مختلفة […] وأن الأنواع تسمى على الأرجح أعراقًا كي لا نخدش الحساسية المسيحية التي تريد أن ينتمي جميع الناس إلى النوع نفسه”. ويعلق بلوندان: “هكذا ولد الخطاب ’اللائق سياسيًّا‘”.
هل العنصرية خطأ؟
أما الفصل السابع، “القلب وما يشير به”، ففيه يسأل المؤلف: “هل من الضروري الغرق في هذيان تجريم الذات كي يكون عندنا تفسير أكثر تماسكًا عن الوضع الراهن للعالم؟ هل يجب علينا الاختيار بين حكم أخلاقي على أنفسنا ’نحن‘ – على مسؤوليتنا ’نحن‘ عن النظام العالمي الحالي وعن التخلف – وحكم واقعي على ’الآخرين‘ – على دونيتهم الطبيعية؟ هل من الضروري تبنّي نظام شروحات يقارب الشيزوفرينيا للحفاظ على توازن أخلاقي معيّن، مع هذا النظام الاجتماعي الكوني، من خلال الفصل بين الأبعاد المكانية والزمنية للكون لإحياء الحقائق المنفصلة للنوع التاريخي والنوع الجغرافي؟ هل علينا الاختيار بين النزاهة الأخلاقية والتماسك العقلي؟ هل العنصرية خطأ أم أمر سيئ؟”.
وفي رأيه تقود محاولة علماء الأحياء الفرنسيين المناهضين للعنصرية إلى إعادة طرح وجود الأعراق في داخل النوع البشري، وتبدو منحازة إلى أن العنصرية خطأ. لكن التجارب العلمية لا تكفي لإنهاء الاستخدام الاجتماعي لمقولة العرق أو العنصرية التي تبدو أكثر حقيقية من أي وقت مضى؛ فهي ميزة كل نظام فكري في أن ينجح في الإيقاع بين الفكر والوعي. إن علوم الكونيات الاجتماعية أو أنظمة تصوراتنا هي دائمًا تجميعات لمفاهيم ومشاعر، بما أن كل أيديولوجيا هي خليط من مكوّنين: القليل من النظرية والقليل من العقيدة؛ فالنظريات تدعي طرح تفسيرات ممكنة من دون القيام بأعمال محددة، بينما تكتفي العقائد بالتعيين والإلزام من دون تقديم تفسيرات.
أنثروبولوجيا إنسان عاقل
في الفصل الثامن والأخير، “مبادئ أولية لصوغِ أنثروبولوجيا الإنسان العاقل”، يقول المؤلف إن الـ “نحن” تعني “كل نوع الإنسان العاقل”، وهذا لا يلغي استخدام أشكال الـ “نحن” الأخرى كلها، ولا اللجوء إلى العرقية المتمركزة حول الذات، والتي تسمح بتركيب العلاقات بين البشر… لكنها تستلزم بناء أنثروبولوجيا جديدة للإنسان العاقل، ينبثق صوغها من انتقاد التصورات الغربية التقليدية عن العالم. وما الهدف الأول لهذه الأنثروبولوجيا الجديدة إلا صوغ خطاب يتعلق تحديدًا بنوعنا، الإنسان العاقل، للخروج من مأزق النظريات ذات الوجهين، ولإنتاج تعميمات عن المجتمعات كلها والثقافات الإنسانية كلها، وللعصور كلها.
يضيف بلوندان: “رأينا أن الأفق الخاص بالإنسان العاقل لا يتناسب مع ’التاريخ‘ ولا مع ’ما قبل التاريخ‘، إنما مع ذلك الجزء من ’ما قبل التاريخ‘ الذي يتعلق بنوعنا فحسب، أي حوالى خمسة وثلاثين ألف سنة أو أربعين ألف سنة، منذ تأكيد وجود هذا الثديي (من الثديِيّات) الموهوب في اجتراح الفكر واللغة الرمزيين”.