بقلم: د. ربيعة أبي فاضل
1- حصنُ البراءَة:
قال المزمور:” أشرقَ النّورُ على الصّدّيقِ والفرحُ على المستقيمي القُلوب”(1)، ولا زال الاثنان يُشرِقان، في هذا الزّمان، على مَن يكتب بِحِبْر النّور، ومَن يحيا بالفرح المُنير(2). وهذا القلمُ المُطلَقُ في الشّاهد والغائب والغابر، هذا العاشقُ القِيَمَ، الجابِلُ ترابَ المعرفةِ بماء الحُبّ وبزهر الحلم، يستمرّ إلى جانب قلمي، على صداقة حارّة منذ إحدى وأربعين سنةً، ووجه الشّبَه بينهما الانتماءُ إلى كهنوت الشِّعْر، والشِّعرُ كهنوتٌ يَسمو بالإنسان، يوَهِّجُه، كما قال، وإلى كهنوت البَراءةِ(3)، فإلى الحُبِّ المُحَلِّقِ طائرًا أو نسيمًا أو نورًا(4).
هو شاعرٌ ابنُ كاهِنٍ، وأنا بدَوري، ابنُ ذاك الطّفلِ الّذي نشأ في الدّيرِ، وآثَرَ بلدَ الغيمِ، مع ألحان بولس الأشقر، على مجتمع مجبولٍ بالضّجيج والعتَمة، والأنانيّاتِ القاتِلة.
2- ألكتابةُ حياة:
وفي الرّحلة نحو سكينة الذّات والعالَم، تساءل إيلي مارون خليل:” ولِمَ يكتب الكاتب(5)؟
وكان الجوابُ سؤالا آخر:” أوَليس ليحيا؟”(6) وتابع أنّ الإبداعَ هو أن تحيا(6). وقد طالما سعى هذا الكاتبُ إلى الارتقاءِ بالكلمات والحياة معًا، نحو نورانيّةِ الرّوح(7)، ولذلك عاش في خَفَرٍ هادئ، وكتب بحذَر جميل، طيّبٍ، وأراد أن يعبرَ زمانَه والمكان، كما يعبر العطرُ فضاءات الحقول. وبناءً عليه، فالفنّ عنده، حضورٌ في حياة حقّةٍ، مزهّرةٍ، حرّةٍ، تتدفّق(8) قبل أن يكون غيابًا. ولا شكّ في أنّ حلاوة الميتافيزيق تكمن في تلوين الحياة بالحُبِّ(9) تزامنًا مع الكتابة السّفَر والتّحَرُّرِ والمغامرة والشّهادة والحوار مع الكينونة، كما قالت إحدى بطلات:” مسافات ملتبِسة”(10). فأن تكتبَ يعني أن تحميَ ذاتَك من الموت، وتخلقَ احتمالاتٍ وتَوَقّعات تُحيي، وتُجَدّد الخَلق(11).
3- ألصّامتُ النّاطق:
وإيلي خليل، على صمته وسُكونه، يمتلك صوتًا وسَوطًا(جمع سياط وأسواط)، إذ تقوده
الحكمة، أحيانًا، إلى صراخ المعلِّم الخادم، من دون تَعالٍ أو فُجور. إنّه صاحبُ رسالةٍ، وموقف، ورؤية، وصاحبُ فطرةٍ راقية ومِزاجٍ روحانيٍّ لا يُطيقُ الزّاحلة، ولا يهتزّ أمام حداثةٍ لا تزيده طمأنينةً ومَهابة وسلامًا. وفي هذا المقام، رأيناه يقفُ على محطّاتٍ أثارت استفهاماتٍ لديه، ونوعًا من الغضب الأبويِّ:
- ثار على الجسد المُغَطّى بروائح أجسادٍ عديدة، وعلى الازدواجيّة الّتي تُبَعثِرُ الحُبَّ الزّوجيَّ،
وتنعكسُ سلبًا على العائلة، فتضع رأسَها في الوحل(21).
- ثار على الصِّحافة السّياسيّة المُرتهَنة لجهات، وعلى الإعلام الّذي يُشجّعُ التّفاهةَ، ويُشوِّه القِيَمَ،
ويُخَرِّبُ عقولَ المراهقين، وعلى الإعلان الّذي يُخفي الحقيقةَ، ويُظهِرُ ما يوحي بنقيضها(13)؛ وعبّر عن وجعهه العميقِ لكَون النّاس ضحايا ينجرفون، والمجتمعاتِ تتراجع تحت ضربات المُتَعِ المادّيّة، والإغراءات والخُزَعْبَلات(14).
- ثار على تكنولوجيا الاتّصالات الحديثة لأنّها اخترقت حميميّات الذّات والمؤسَّسات والحياة،
وزرعتِ الفوضى والخَلَل والجنون، وأزالتِ الاستقرار في المجتمع(15).
- ثار على المال الّذي يستعبدُ النّاسَ، و”مَن يُحبُّ المالَ لا يستطيع أن يُحبَّ الآخر”، كما إنّنا،
وفاقًا اوصفه، أُمّةُ بُطونٍ ولسنا بأُمّة فِكرٍ، فإلى الأسفل إذًا(16).
- ثار على الدّكاترة وإصرارهم على حرف د. أمام الاسم(17)، وموسمُ هؤلاء بدأ في الخمسينيّات،
مع مؤسِّسي بعضِ المدارس التّجاريّة، ثمّ تطوّر الأمرُ، وغدا مُتقَنًا ومُعَولَمًا!
- ثار على أمكنة التّدليك الدّافئةِ المنتشِرةِ، وعل الخُبثِ في علاقات النّاسِ بعضِهم ببعض، كما بين
صاحبِ النّفوذِ السّياسيِّ وزوج ماريّا، في رواية “مسافات مُلتبِسة”(18).
- ثار على دور النّشرِ الّتي تستغلّ الحقلَ التّربويَّ للتّجارة المادّيّة، وتنشر ثقافةَ الفسادِ لترويج
الكتب(19).
- وثار على ثرثرات السّياسيّين، وعلى تَدَبُّرهم أمر المقرَّبين، متناسين هموم الشّعب، متمادين في
النّهب والنِّفاق(20)، وتساءل، وسَطَ هذا الألم: أين الرّوح في كلّ ما يُكتَب؟ والخلاصةُ أنّ أهلَ الثّقافةِ باتوا قلّة، وأنّ الأصالةَ تفرضُ التَّخَلّي عن تَرَفِ الدُّنيا، ومُحاسَبةَ النّفسِ، للتَّرَقّي والتَّطَهُّر.. والإنسانُ الأصيلُ يَجْبَه ويَرجو، كما قالت إحدى مقالات “على حافة الكلام”(21). على أنّ فطنة إيلي خليل، وهو يذكّر بقِيَم الرّوح، جعلته لا يتخلّى عن نوع من الواقعيّة والموضوعيّة، بخاصّة في مقالته: ” والأشجارُ قصائد”، حيث الكلام على كلام لا يكتمل، وعلى شوقٍ إلى المعرفة لا يتمّ، وعلى أحلام لا تتحقّق، وعلى نور لا يملأ كلَّ الجهات.. فالتّمامُ نقصٌ، كما قال نصُّه، وذلك من أبواب الوداعة، والاستحضارِ الدّائمُ لروح الله، وشُعورِ الإنسان بالحاجةِ الكِيانيّةِ إلى المزيد من التّضحيات والجهد والصّبر على الآلام.
4-شَرائف البهاء:
وتَرينَّ من أسباب قلقِه وتغَرُّبه، إذا صحّ أنّه ممّن يقلقون أو يتغرَّبون، كونُ الكلماتِ غيرَ كافيةٍ، غيرَ نافِذةٍ، غيرَ مشرِقة(23). فهل شعر الكاتبُ أنّ ثَمّةَ حصائد على المرء أن يَجنيها، في حالات وإشارات صوفيّة، وصمتٍ معلِّم، بعد التَّحَلُّمِ والتّعَلُّم والتّقدُّم والتّرَقّي في البيان منزلةً؟ وفي هذا المقام تساءل: “ماذا عليك أن تفعل”(24)؟ قد يكون تعب من الخطابة والبلاغة، فردّد مع صَموئيل:” تكلّمْ يا ربُّ فإنّ عبدك يسمع”(25)، ولا شكّ في أنّ الرّبّ هو معه ولن يدع شيئًا من جميع كلامِه يسقط على الأرض(26)، أوَلم يقل، وسَطَ هذا الفضاء، إنّ بين الأدبِ واللهِ والحياة حلفًا مَهمّتُه تجسيدُ الحُبِّ؟(27). واستعارتُه تكاد تكون تلك الّتي تحدّث عنها عبد القاهر الجرجاني تُخرِجُ من بحرها جواهر، تمدّ في الشّرف والفضيلة باعًا لا يقصر، وتُبدي من الأوصاف الجليلة محاسِنَ لا تُنكَر.. وهي تُريك الحِلى الحقيقيَّ، وتأتيك بدُرَر يَأنَسُ إليها الدّينُ والدّنيا، وهي أجَلُّ من أن تُستوفى جملةُ جمالِها(28). وللمِثال حدّثنا الرّاوي عن ظلّ الآهة وآهة الظّلِّ، عن ظلّ الفكرة وظلّ الصّورة، عن ظلّ الجسد وظلّ الرّوح وظلّ السُّكون(29). والظِّلالُ نوعان: الأوّل زائلٌ مُلْيِلٌ، والثّاني ثابتٌ نورانيٌّ، الأوّل مصدرُ كآبةٍ في حين يُشتهى السّكَنُ في ظلّ الثّاني(شأنُ ما حدث لمريمَ، أمِّ الحبيب يسوع، يوم ظلّلتها قدرةُ العَليِّ)… أو لبطرسَ الصّخرةِ، وهو يَشفي المرضى بظلّه(30). وهكذا شغلتِ الأدبَ الخليليَّ ثلاثةُ محاور: الإنسان، البَيان، الحنان الإلهيّ. وقد قيل، في هذا الإطار:” ليس لمنقوص البَيانِ بَهاءٌ ولو حَكّ بيافوخه عِنانَ السّماء”(31). وعلى إيلي خليل أن يطمئنَّ ففي نتاجه ما يَستميلُ القلوب، ويحاور العقول، ويُعلي خيمةَ العذوبةِ فوق الأعيُن الحالمة.
وبعدُ…
قال الشّاعر:
إبدأْ بنفسِكَ فانهِها عن غيّها فإذا انتهتْ عنه فأنتَ حكيمُ
فهناك تُعْذَرُ إن وعظتَ ويُقتَدى بالقول منكَ ويُقبَلُ التَّعليمُ
فأنتَ، يا صديقي، حكيمٌ، ومنك يُقبَلُ التَّعليمُ، لأنّك مستقِرٌّ في طريق الحقِّ والجمال، لا
تُبالي بالدّهرِ ذي الفنون، وبأهل الهذر والبَذاء والجنون، وقد حملْتَ رسالتَك وصليبَك… قُوّتُكَ الأمانةُ، وزادُك البَراءّةُ والإخلاص.. والمحبّةُ الآتيةُ من قلبَي الخوري والخوريّة، ومن وجْدِ رفيقةِ عمرِك، وهي فجرُك الآخر، وحديقةُ الضّوءِ الّتي عطّرتْ بيتَك! وإذا كنّا تعلّمنا منك شيئًا، منذ عام 1970، فهو الوفاءُ؛ فأنت وجدْتَ لؤلؤةً كثيرة الثّمنِ، لم تتخلَّ عنها(33)، ولذلك أراكَ، هنا، وهنالك، وسْطَ الصّدّيقين، تُضيءُ مثلَ الشّمسِ في ملكوت أبيك(34)، أطال اللهُ عُمرَك، وعُمرَ الدّفءِ السّاحر في عينيك ويديك!
هوامش
1. مز11:96
2. إيلي مارون خليل، على حافة الكلام، دار الفكر الّلبنانيّ، ط1، 2011، ص109
3. ن. ص65،197
4. ن. ص 169
5. إيلي مارون خليل، مسافات ملتبِسة، دار الفكر الّلبناني، ط1، 2010، ص 8،28
6. ن. ص 18-19
7. ن, ص 19
8. ن. ص 207،98،36،28
9. ن. ص 92
10. ن. ص 94
11. ن. ص 193،191
12. ن ص 66،50،49،47
13. مسافات ملتبسة، م. س. ص 192،191،101
14 . ن. ص 192
15. ن. ص 167،67
16. ن. ص 127،124،15
17. ن. ص133
18. ن. 161،158
19. ن. 175
20. ن. ص 78
21. ن. ص 192
أيضًا: على حافة الكلام م. س. 119(الألم طريقُ النِّعمة)
22. على حافة الكلام ص 210،203،194.
23. ن. 186
24. ن.
25. سِفْر الملوك الأوّل ف 9:3
26. ن. 20:3
27. على حافة الكلام، ص 187،186
28. عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، دار المعرفة، ط1،1999، ص 57
29. مسافات ملتبسة، ص 59،29
30. لوقا35:1 /أعمال15:5
31. الجاحظ، البَيان والتّبيين، ت. درويش جويدي،المكتبة العصريّة، ط1، 1999، ص57
32. ن. ص 125
33 متى، 16،1334.
34. ن. ص 43،13