هذا الصُّلْبُ قَلَمًا وَحُسامًا! 

 

 

(يَكتُبُ بِعَفوِيَّةٍ كَما يَتَكَلَّمُ، والكَلِمَةُ، عِندَهُ، عارِيَةٌ كَالحَقِيقَةِ، لا تَحتَمِلُ المَساحِيقَ، والقَوْلُ، في يَراعِهِ، مَوْقِفُ فارِسٍ فِيهِ صَلابَةُ الجَبَلِ اللًّبنانِيّ. إِنَّهُ مارُون يُونس)

مارُون يُونُس

هذا الصُّلْبُ قَلَمًا وَحُسامًا، رائِدٌ مِن بِلادِي، يَكتَنِزُ في إِهابِهِ وُجُوهًا مُضِيئَةً مُتَعَدِّدَةَ المَلامِحِ، ثَرَّةَ العَطاء.

فِيهِ وَجهُ الفارِسِ الَّذي لا يَرتَعِشُ أَمامَ إِعصارٍ، والَّذي اجتازَ سِنِيَّ الحَربِ الأَهلِيَّةِ اللُّبنانِيَّةِ بِإِقدامِ بَطَلٍ، وَوَفاءِ رَسُولٍ، وتَرَفُّعِ أَبِيٍّ ما أَغرَتهُ المَغانِمُ السَّهلَةُ، ولا سَيَّرَتهُ الأَحقادُ الرَّخِيصَة.

وَفِيهِ وَجهُ المُفَكِّرِ السِّياسِيِّ الحَصِيفِ، الرَّائِي، الواسِعِ الفِطنَةِ، الحادِّ الذَّكاءِ، الثَّقِيفِ المُتَعَمِّقِ، والقارِئِ في أَدَقِّ الشُّؤُونِ بِما يَتَجاوَزُ المَظهَرَ والسَّطحَ لِيَبلُغَ أَبعادًا يَعجَزُ عَنها كَثِيرُون.

كَما يَحمِلُ وَجهَ الكاتِبِ الطَّرِيفِ الَّذي يُحَبِّرُ صَحِيفَتَهُ بِمِدادِ العَفوِيَّةِ الَّتي تَسبُرُ القُلُوبَ، ولا تُنَفِّرُ قارِئَ هذا العَصرِ، القَلِيلَ الصَّبرِ، السَّرِيعَ التَّبَرُّم.

هو ابْنُ الجَبَلِ الأَشَمِّ، ورَبِيبُ صُخُورِهِ الشَّوامِخِ، وأَلِيفُ شَعَفاتِهِ العَصِيَّة. تَشتَمُّ في بَساطَةِ كَلامِهِ عَبِيرَ الأَرضِ الطَّيِّبَةِ، وتَلمُسُ في حُرُوفِهِ نَقاءَ الصُّرُودِ العالِياتِ، وصَفاءَ الزُّرقَةِ اللَّامُتَناهِيَةِ يَتَجَلَّى في أَمدائِها الله.

يَكتُبُ صاحِبُنا بِعَفوِيَّةٍ، لا تَهجِسُ في صَدرِهِ البَلاغَةُ العالِيَةُ، ولا التَّزاوِيقُ والتَّوشِياتُ، فَأُسلُوبُهُ سَهلٌ مُبَسَّطٌ يَسبِقُ فيه القَولُ المَحكِيُّ صِناعَةَ التَّعابِيرِ وَرَصْفَ الكِناياتِ والاستِعارات. بَيانُهُ تَعبِيرٌ عَن تِلقائِيَّةٍ تُمَيِّزُهُ في المَحافِلِ، واهتِمامُهُ يَنصَبُّ على الفِكرَةِ والمَضمُونِ السَّردِيِّ القَصَصِيِّ، والعِبْرَةِ الَّتي كَثِيرًا ما يُقفِلُ بِها مَقطُوعَتَهُ، والَّتي تَأتِي بِلَونِ الحَياةِ، ما وارَتْها المَساحِيقُ، ولا خَضَّبَتها التَّورِيات. وَمِن هُنا استِسهالُهُ مَزْجَ الفُصحَى بِالعامِّيَةِ بِقَدْرٍ يُنهِكُ النَّاتِجَ الأَدَبِيَّ، بِرَأيِنا، إِذِ الإِفراطُ في استِعمالِ العامِّيَّةِ قَد يَقِفُ حائِلًا دُونَ تَخَطِّي النَّصِّ حُدُودَ مَكانٍ بِعَينِهِ، حِينَ إِطارُها يَجِبُ أَن يَلتَزِمَ تَرصِيعَ الكِتابَةِ لا الهَيمَنَةَ عَلَيها. على أَنَّنا لا نُنكِرُ عَلَيهِ بَراعَتَهُ في خَتْمِ بَعضِ مَرْوِيَّاتِهِ بِعِبَرٍ تَحمِلُ حِكمَةَ أَجيالٍ، يُنزِلُها كَما هي بِصِياغَتِها المُتَناقَلَةِ على اللُّسُنِ مَدَى الحِقَب. وَجَدِيرٌ بِالذِّكرِ أَنَّ عامِّيَّتَهُ تَقتَرِبُ مِن صِياغَةِ الفُصحَى، ولا تَغُوصُ في مَحَلِّيَّةٍ ضَيِّقَةٍ تَحُولُ دُونَها والآفاق.

مارُون يُونُس

هذا الكاتِبُ الصَّادِقُ لا يُحابِي في طُرُوحاتِهِ، ولا يُمالِئُ أَحَدًا مَهما عَلا شَأوُهُ في مَطارِحِ القَرارِ، حازِمٌ، عَنِيدٌ، مُتَسامٍ عَن كُلِّ تَقَوقُعٍ دِينِيٍّ أَو مَذهَبِيٍّ، دَيْدَنُهُ إِعلاءُ لِواءِ الوَطَنِ المُتَجَرِّدِ مِن الفِئَوِيَّاتِ، وإِيمانُهُ يَتَعَدَّى القَناعَةَ الدِّينِيَّةَ السَّطحِيَّةَ المَبنِيَّةَ على التَّسلِيمِ الأَعمَى، إِلى كَينُونَةِ الإِنسانِ كَقِيمَةٍ مُستَقِلَّةِ بِذاتِها، مُتَحَرِّرَةٍ مِن كُلِّ قَيْدٍ مَوضُوعٍ، أَو حَدٍّ مَرسُوم.

فِكرُهُ إِنسانِيٌّ عابِرٌ لِلطَّوائِفِ والعَصَبِيَّات. إِنَّهُ المُواطِنُ اللَّبِنَةُ في الوَطَنِ الحُلْمِ المُرتَجَى، السَّائِرِ في مَواكِبِ الأُمَمِ المُستَنِيرَةِ الَّتي جَعَلَتِ الإِنسانَ مِحوَرَها وَقِبْلَتَها وَهَمَّها الأَوحَد.

بِلَمْحٍ ذَكِيٍّ يُمَرِّرُ صاحِبُنا دُعاباتِهِ، ويَغُوصُ عَبْرَها في عُمْقِ النَّفسِ البَشَرِيَّةِ، ويُقارِبُ ضَعْفَ الإِنسانِ أَمامَ ظُلمِ القَدَر. فَفِي قِصَّتِهِ «شَرِيفَة» يَنتَقِلُ الأَهلُ مِن حالَةِ الثَّورَةِ على ابنَتِهِم، وَتَرَصُّدِها لِقَتلِها بَعدَ أَن رَماها الفَقرُ والتَّسَلُّطُ في بُؤْرَةِ الضَّياعِ والزِّنَى، إِلى كامِلِ الرِّضَى إِذِ انتَشَلَتهُم أَموالُها المُكتَسَبَةُ بِالطُّرُقِ المُعوَجَّةِ مِن بَراثِنِ الجُوعِ والعَوَزِ إِذ شَرَّدتَهُمُ الحَربُ الدَّائِرَةُ في بِلادِهِم فَباتُوا يُفَتِّشُونَ عَن بُلْغَةِ العَيشِ بِشِقِّ الأَنفُس. وَها الأُمُّ تُخاطِبُ ابنَتَها الجانِحَةَ في خاتِمَةِ الأُقصُوصَةِ قائِلَةً: «لَيْش ما بتاخْدِي أُختِكْ تِشتِغِلْ مَعك؟».

وكاتِبُنا لا يُلقِي الأَحكامَ، وَلا يَقضِي في الأَمرِ، بَل يُلقِي العِبْرَةَ سُؤَالًا يَحمِلُ مَرارَةَ القَلبِ، وَخِذلانَ الضَّمِير. فَمَنظُورُ النَّاسِ في حالَةِ اليُسْرِ «لا تَزنِي ولا تَتَصَدَّقِي»، يَستَحِيلُ دَعوَةً إِلى الجُنُوحِ ما دامَ هذا يَدُرُّ المَكاسِبَ السَّمِينَة.

وَلَو شِئْنا القَضاءَ لَصَعُبَ عَلَينا الأَمرُ في تَصنِيفِ المُذنِبِ والبَرِيءِ، فَالجَوابُ القاطِعُ قَد يَكُونُ جائِرًا عِندَما يُحاصَرُ المَرءُ بِالحاجَةِ، وَتُسَدُّ في وَجهِهِ الدُّرُوبُ، لِيُصبِحَ المُحَرَّمُ حَلالًا، والمَنْهِيُّ عَنهُ مَقبُولًا سائِغًا. وَهُنا لا يَسَعُنا إِلَّا أَن نَذكُرَ قَولَ جُبران خَلِيل جُبران في كِتابِ «النَّبِيّ»: «إِنَّ القَتِيلَ ليس بَرِيئًا مِن جَرِيمَةِ القَتل».

إِلى ذلكَ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّى بِرُوحِ النُّكتَةِ اللَّطِيفَةِ الوَقْعِ، الهادِفَةِ، المُبَطَّنَةِ، الَّتِي تَحمِلُ في شَهْدِها سَمًّا زُعافًا. وَلَنا في هذا مِثالٌ فاقِعٌ رَواهُ المُؤَلِّفُ بِظَرْفِهِ المَعهُودِ في أُقصُوصَةِ «أَيْش زَيّْرَك؟».

هذا

وِإِذ نَشُدُّ على يَدِهِ، وَنُبارِكُ سَعيَهُ، نَتَمَنَّى عَلَيهِ أَن يُولِيَ، في قابِلٍ، أَهَمِّيَّةً أَكبَرَ لِعَلاماتِ الوَقْفِ الَّتِي تُشَكِّلُ مَفاصِلَ ضَرُورِيَّةً لِضَبْطِ النَّصِّ، وتَركِيزِ المَعانِي والأَغراض. كَما نَدعُوهُ أَن يَحُوطَ حَرَكاتِ الحُرُوفِ بِعِنايَتِهِ وَحَدَبِهِ فَهِيَ الَّتي تُسَدِّدُ القِراءَةَ، وتُمَهِّدُ الطَّرِيقَ لِفَهْمِ المَوضُوعَةِ فَهْمًا دَقِيقًا لا فَهْمًا مُتَوَكِّئًا على المَعانِي «البانُورامِيَّةِ» الَّتِي يَكتَنِفُها الضَّباب. ولكِنَّ هذا الاهمالَ باتَ دَأْبًا عِندَ مُعظَمِ الكُتَّابِ، قَد يَكُونُ سَبَبُهُ التَّسَرُّعُ في إِنجازِ العَمَل، وَلَرُبَّما يَكُونُ «لِغايَةٍ في نَفْسِ يَعقُوب».

وَنَحنُ نَطلُبِ مِنهُ هذا لِعِلمِنا أَنَّهُ لَيسَ عَسِيرًا عَلَيهِ حِينَ يَشُدُّ لِلأَمرِ حِزامَهُ، فَما اعتَلَى يَومًا جَوادَهُ إِلَّا وَكانَتِ القِبْلَةُ قابَ قَوْسَين!

صَدِيقَنا

القَلَمَ القَلَمَ، فَحَيثُ تَمُرُّ الشَّباةُ تُورِقُ الصَّحائِفُ وتُزهِرُ، وتُثمِرُ الحُرُوفُ عَطاءً يَعبُرُ بَعضُهُ الأَزمِنَةَ، ويَحتَلُّ القُلُوب.

سَلِمْت.

اترك رد