(مُقَدِّمَةُ كِتَابِ «أَقاصِيصَ» لِلدُّكتُور فُؤَاد سَلُّوم)
القِصَّةُ فَنٌّ رَفِيْعٌ سَيَبْقَى خَالِدًا مَا دَامَتْ أَحَاسِيْسُ الإِنْسَانِ تَتُوْقُ إِلَى الاسْتِئْنَاسِ بِمَا يَدُوْرُ فِي الكَوْنِ، وَمَا تَتَمَخَّضُ عَنْهُ بِيْئَتُهُ مِنْ أَحْدَاثٍ، وَمَا تَتَخَبَّطُ فِيْهِ النَّفْسُ البَشَرِيَّةُ، وَمَا تَلْتَعِجُ بِهِ حَناياها.
وَمَا دامَتْ رَغْبَةُ الاستِطلاعِ بَدَهِيَّةً، وَما دامَ الفُضُولُ إِلى كَشْفِ المَستُورِ فِطْرَةً، سَتَبقَى القِصَّةُ نافِذَةً مُشْرَعَةً على الوُجُود.
والقِصَّةُ لَوحَةٌ مِنْ حَياةٍ، والحَياةُ تَزخَرُ بِناسٍ يَتَحَرَّكُونَ، ويَتَفاعَلُونَ إِخبارًا وإِصغاءً. لِذا فَهِيَ أَغنَى الفُنُونِ الأَدَبِيَّةِ، وَأَعَمُّهَا، وَأَجدَرُها بِحَمْلِ الوَفِيرِ مِنَ المَضامِينِ والمَعانِي.
وَرُبَّ وَاقِعٍ يَبدُو رَتِيبًا، نَمَطِيًّا، ضَحْلًا، مُمِلاًّ، يَأتِيهِ قاصٌّ بارِعٌ، ابْنُ بَجْدَتِها، بِقَلَمٍ رَهِيْفٍ، فَيَستَلُّ مِنْ رُكُودِهِ اللَّآلِئَ، وَيَنسُجُ مِنْ خُيُوطِهِ النَّاصِلَةِ مُطرَفًا باهِرًا، وَمِنْ ظاهِرِهِ الباهِتِ لَوحَاتٍ تَأْخُذُ القارِئَ إِلى عالَمِ النَّصِّ المُكتَمِلِ، المُثِير.
لِلقِصَّةِ القَصِيرَةِ، في رُبُوعِنا، مَسِيرَةٌ طَوِيلَةٌ اغتَذَتْ جُذُورُها الأُولَى مِنَ الخُرافاتِ، والأَساطِيرِ، وحِكاياتِ الجَدَّاتِ، والكُتُبِ التُّراثِيَّةِ والدِّينِيَّة. وَقَدِ استَفادَت بِداياتُها مِنْ تَرجَماتِ أَقاصِيْصَ أَجنَبِيَّةٍ إِلى العَرَبِيَّة. وَلَمَّا كانَت ذاكِرَتُنا تَحفَظُ مَقُولَةَ «الشِّعْرُ دِيوانُ العَرَبِ، والأَدَبُ وَجْهُ الإِبداعِ المُضِيءُ»، فَإِنَّ القِصَّةَ قَد لاقَتْ، في دَرَجانِها، إِهمالًا وإِجحافًا، حَتَّى إِنَّ كاتِبًا كَبِيرًا كَتَوفِيق الحَكِيم بَلَغَ فِي عَنَتِهِ حَدَّ القَولِ: «أَلفَرقُ بَينَ الأَدَبِ وَبَينَ القِصَّةِ كالفَرقِ بَينَ المَناطِقِ العُليا في الإِنسانِ والمَناطِقِ الأُخرَى»*.
وَلَكِنَّ هذا الفَنَّ الأَدَبِيَّ اللَّطِيفَ استَطاعَ، في النِّهايَةِ، أَن يَتَرَسَّخَ مُنذُ بِدايَةِ القَرنِ العِشرِين، مع جُبران خَلِيل جُبران، ومِيخائِيل نُعَيمَة، والنِّتاجِ المَنشُورِ في مَجَلَّةِ «أَلفُ لَيلَةٍ ولَيلَة» لِكَرَم مِلحِم كَرَم، ومع قَصَّاصِينَ كَتَوفِيق يُوسُف عَوَّاد، والأَخَوَينِ سَعِيد وخَلِيل تَقِيِّ الدِّين، وُصُولًا إِلى سُهَيل إِدرِيس، وفُؤَاد كَنعان، ويُوسُف حَبْشِي الأَشقَر، وغَيرِهِم. ونَقصُرُ التَّعدادَ على الكُتَّابِ اللُّبنانِيِّينَ، وإِلَّا فالسِّلسِلَةُ تَطُول.
يَقُولُونَ: «أَلإِنسانُ لُغَةٌ».
وكاتِبَنا، فُؤَاد سَلُّوم، مِنَ السَّراةِ النَّدَرَى، وَمِنَ الذُّرَى المُنِيفاتِ، لِأَنَّهُ عَلَمٌ شامِخٌ في العَرَبِيَّةِ، ومِنَ الَّذِينَ يُرجَعُ إِلَيهِم كُلَّما اعتاصَ على القَومِ شأْنٌ لُغَوِيّ.
إِلْفُ البَلاغَةِ، هُوَ، وَقَرِينُ الشِّعْرِ الرَّاقِي، وسادِنُ الأُصُولِ في لُغَةِ الضَّادِ، والمَوسُوعَةُ المَعرِفِيَّةُ والأَدَبِيَّةُ الحَيَّة. هذا الأَدِيبُ، اللُّغَوِيُّ الحَصِيفُ، يَرِدُ، اليَومَ، عالَمَ القِصَّة. فَما تُراهُ يَروِي؟
يَلجأُ كاتِبُنا إِلى التُّراثِ، يَستَلُّ مِنهُ أُقصُوصَةَ «مُرُوءَة وَوَفاء»، فَيُدَبِّجُها بِلُغَةٍ شَيِّقَةٍ، فِيها مِنَ التَّخيِيلِ والشِّعرِيَّةِ ما يَزِيدُ مِن وَقْعِ العِبرَةِ، وَما يُقَرِّبُ القَصَّ إِلى وِجدانِ مَنْ تَأْسُرُهُمُ الكَلِمَةُ الرَّفِيعَةُ، مِنْ دُونِ أَنْ يَستَعْصِيَ على مَنْ يَنشُدُونَ الأُحدُوثَةَ فَقَط. وهو، في قَصدِيَّتِهِ التَّثقِيفِيَّةِ التَّربَوِيَّةِ، لا يَتَهالَكَ في المُباشَرَةِ، ولا يَقِفُ واعِظًا، مُوَجِّهًا، مُؤَنِّبًا، يَبعَثُ على المَلَلِ والنُّفُورِ، ولَكِنَّهُ يُمَرِّرُ رِسالَتَهُ بِلُطفٍ خَفِيٍّ في طَيَّاتِ سَرْدٍ مُغْرٍ، وحِوارٍ ذَكِيٍّ مُتَوَثِّبٍ، يَستَأثِرُ بِالطَّالِبِ المُتَدَرِّجِ الغَرِيْرِ، كما ويَشُدُّ إِليهِ القارِئَ المُحَنَّكَ النَّيِّقَ، والمُتَذَوِّقَ الثَّقِيْف.
يَقُولُ، في هذه الأُقصُوصَةِ:
«فَالغُرُوبُ لَم يَلُمَّ بَعدُ كُلَّ أَشلائِهِ». أَيضًا: «شارَفَتِ الشَّمسُ على الهُبُوطِ وَراءَ حَدِّ العَيْنِ… لَملَمَتْ بَقايا أَجنِحَتِها، وأَدارَت ظَهرَها، وَهَمَّت بِالرَّحِيلِ إِلى حَيثُ يَنتَظِرُها قَدَرُ الرَّاحَةِ مِن رُؤْيَةِ فَسادٍ وخَطِيئَة».
إِلى هذه المَدارِجِ الرَّاقِيَةِ مِن التَّعبِيرِ، والرَّسمِ بِالكَلِماتِ، يَأخُذُنا. لَكَأَنَّ في أَنامِلِهِ رِيشَةً وَلُودًا مِطواعَةً، ومَعِينًا مِن أَلوانٍ، وكَأَنَّ صَحائِفَهُ جِنانٌ مُثقَلاتٌ بِاليانِعِ الغَضِّ، لِنَرجِعَ مِن صُحبَتِهِ بِسِلالٍ تَفِيضُ جَنًى عَسَلا. وما الأَنسَنَةُ لِمَظاهِرِ الطَّبِيعَةِ، في شِعرِيَّةٍ لافِتَةٍ سامِيَةٍ، إِلَّا رَشْحٌ مِن مَلَكَةِ هذا الشَّاعِرِ المُرهَفِ، المُتَمَكِّنِ مِن لُغَتِهِ وجَمالاتِها.
في هذه الأُقصُوصَةِ تَجسِيدٌ لِقِيَمِ الكَرَمِ، والوَفاءِ، والتَّضحِيَةِ، والعُنفُوانِ، في عَصْرٍ طَغَت فيهِ المادَّةُ، واستَحوَذَت عليهِ ماركَنتِيلِيَّةٌ فاجِرَة.
في أُقصُوصَةِ «حُبٌّ وقَلَق»، يَقُول: «فَما يُخفِيهِ القَلبُ في طَيِّ خَفَقَانِهِ، تَفضَحُهُ العَينُ في ذُبُولِ لِحاظِها». ويَقُولُ، في أُقصُوصَةِ «صَبِيَّةٌ في الغابَة»: «أَمَّا الشَّجَرُ فَكانَ يُوَقِّعُ حَفِيفَهُ على إِيقاعِ نَبَضاتِ النَّسِيمِ». ويَقُولُ: «وفَمًا عِنَبِيَّ الشَّكل،ِ خَمرِيَّ اللَّونِ، مِسكِيَّ الأَرِيج».
هي طاقَةٌ في التَّشبِيهِ، ومُكنَةٌ في الخَيالِ، وهَجسٌ لُغَوِيٌّ، تَشِي بِما لهذا الأَدِيبِ مِن ناصِعِ البَيانِ، وشَفِيفِ النَّزعَةِ الشِّعرِيَّةِ، والذَّائِقَةِ المُرهَفَة. ولمَّا كان مَرماهُ الرَّئِيسُ هو الطَّلَبَةُ، فإِنَّنا نَتَحَقَّقُ الإِفادَةَ المَرجُوَّةَ، يَومَ باتَت لُغَتُنا في وادٍ وناشِئَتُنا في آخَر، وجَفَّ التَّحَسُّسُ بِالعَرَبِيَّةِ الصَّافِيَةِ العالِيَةِ، وضَمَرَت، في البالِ، مِساحاتُ الدِّفءِ والأُلفَةِ الحَمِيمَة.
كما يُحِيطُ الكاتِبُ بِأَدهَى المَشاكِلِ الَّتي تَعتَرِضُ أَجيالَنا الطَّالِعَةَ في عَصْرٍ غَدا كُلٌّ مُشرَعَ النَّوافِذِ على كُلٍّ، وباتَ الوُلُوجُ إِلى زَوايا العالَمِ مُتاحًا، في أَدَقِّ التَّفاصِيلِ، بِواسِطَةِ أَجهِزَةٍ مُتَطَوِّرَةٍ، تَختَصِرُ الأَبعادَ، وتُذَلِّلُ الحُدُودَ، وهي – على شَيءٍ مِن تَحَفُّظٍ – عَمِيمَةُ النَّفعِ لِمَن يَتَوَخَّى الإِفادَة. ومِن هذه المَشَاكِلِ اطِّلاعُ المُراهِقِ، اعتِباطًا، وبِالمَسلَكِ الخَطِرِ، على عالَمِ الشُّؤُونِ الجِنسِيَّةِ، بِما لها مِنَ التَّأثِيراتِ المُسِيئَةِ إِلى فِتيَةٍ أَغرارٍ، لا يَرَوْنَ مِنَ الأَمرِ إِلَّا الإِثارَةَ الحِسِّيَّة. وهذا ما يَعرِضُهُ صاحِبُنا، وافِيًا، في قِصَّةِ «عُقُوبَةٌ وعِبْرَة»، في قالَبٍ غَنِيٍّ بِالتَّحلِيلِ النَّفسِيِّ لِأَدَقِّ المَشاعِرِ، وأَوهَى السَّكِناتِ، ما يُشِيرُ إِلى عُمْقِ ثَقافَتِهِ، ومَدَى دِرايَتِهِ بِالبَواطِنِ والخَلَجات.
ويَتَعَرَّضُ، في قِصَّةِ «عَجُوزٌ وصَبِيَّة»، إِلى أَقسَى المَشاعِرِ الَّتي يُمكِنُ أَن تَجتاحَ نَفسًا إِنسانِيَّةً، وهي نُكرانُ الوُلْدِ لِأَهلِيهِم في مَغْرِبِ العُمْرِ، حِينَ تَغدُو الأَحاسِيسُ شَفِيفَةً كأَكمامِ الزَّهرِ، والدُّمُوعُ غائِمَةً على أَدِيْمِ البُؤْبُؤ. وَيُرِينا، مِن دُونِ تَدَخُّلٍ ومُباشَرَةٍ، ذِلَّةَ وصَغارَ الاِبْنِ الجاحِدِ، وأَنَفَةَ وعُنفُوانَ الأَبِ المُتَفانِي المَكلُوم.
قِصَصُ هذه المَجمُوعَةِ، ذَواتُ الحَبْكَةِ البَسِيطَةِ المُتَماسِكَةِ، والشَّخصِيَّاتِ الإِنسانِيَّةِ النَّامِيَةِ، مُوَجَّهَةٌ إِلى طُلاَّبٍ يَفَعَةٍ، في مَيْعَةِ الوَعْيِ والعُمْر. وتَحمِلُ كُلٌّ مِنها رِسالَةً، وأُمثُولَةً، في لَوحاتٍ تَحُضُّ على الفَضائِلِ، وتُزَيِّنُ المُرُوْءَاتِ، وتَحتَفِي بِالحَقِّ والجَمالِ، في مَشهَدِيَّاتٍ شائِقَةٍ، لِكاتِبٍ يَفقَهُ أُصُولَ اللُّعبَة. ولَكِنَّها، بِأُسلُوبِها المُنَمَّقِ، وسَردِها اللَّيِّنِ السَّلِسِ، وصُوَرِها الرُّومانسِيَّةِ، وحِواراتِها الجاذِبَةِ، وتَشوِيقِها الآسِرِ، ولُغَتِها المُوَشَّاةِ، تَفتَحُ، لِلقَارِئِ المُطَّلِعِ، مُتُونًا غَنِيَّةً بِالتَّحلِيلِ، مُنَوَّرَةً بِالصِّياغَةِ المَحبُوكَةِ، والدَّرسِ المُعَمَّق.
يَأخُذُ صاحِبُنا لَوحَةً مِن واقِعِ الحَياةِ، فَيُنَقِّبُ في خَبِيئَتِها – وكم في الخَبايا مِن كُنُوزٍ تَخْفَى على البَرايا – فَيُوَشِّيها بِفَنِّيَّةِ صُوَرِهِ، وفَصاحَةِ أَدائِهِ، وبَلاغَتِهِ اللَّطِيفَةِ الوَقْعِ، مِن دُونِ أَن يَنتَقِصَ مِن عَفْوِيَّتِها، وحَمِيمِيَّةِ وَقْعِها في النَّفسِ، ما يَدُلُّ على طُولِ باعِهِ في القَصِّ. وإِذْ يَستَبطِنُ الشَّخصِيَّةَ، غائِصًا في قَرارَتِها، دارِسًا هُمُودَها وجَيَشانَها، تَتَآلَفُ لُغَتُهُ مع دَوْرِها، فلا يَخْبُو دَفْقُ الحَياةِ في تَلافِيفِها، ولا تَمُرُّ عَرَضًا، بَل تَترُكُ في البالِ أَثَرًا طَوِيلَ الأَمَد.
يَطغَى الوَصفُ، ويَطُولُ، في بَعضِ نُصُوصِهِ، وتَتَوالَى التَّفاصِيلُ الصَّغِيرَةُ مُقلِقَةً، قَلِيلًا، وَحدَةَ العَمَلِ، مِن دُونِ أَن تُفضِيَ بِالقارِئِ إِلى التَّضَجُّرِ والمَلَلِ، لِما في الحِكايَةِ مِن تَسَلسُلٍ وتَرابُطٍ ونُمُوٍّ عُضوِيٍّ، في انسِيابٍ وجَمالِيَّةٍ، وإِضاءاتٍ على جُملَةِ المَشهَد.
ويَلجَأُ الكاتِبُ، كَثِيرًا، إِلى تِقْنِيَّةِ «تَيَّار الوَعِي» أَو «المُونُولُوج الدَّاخِلِيّ» الَّذي يَشرَحُهُ دِيجاردان قَائِلًا: «أَلمُونُولُوجُ الدَّاخِلِيُّ يَتَّصِلُ بِالشِّعْرِ مِن حَيثُ إِنَّهُ ذلك الكلامُ الَّذي لا يُسمَعُ ولا يُقالُ، وبِهِ تُعَبِّرُ الشَّخصِيَّةُ عن أَفكارِها المَكنُونَةِ». وبهذه التِّقْنِيَّةِ يُفلِحُ في كَشْفِ شُخُوصِهِ، وجَلْوِ صِفاتِها، وتَفسيرِ تَصَرُّفاتِها. وإِذ نَصُّهُ مُتَناهٍ في الدِّقَّةِ، مَسبُوكٌ بِلُغَةٍ سَلِيمَةٍ، مَتِينَةٍ، هادِفَةٍ، تُوَفِّرُ لِكُلِّ حالَةٍ لَبُوسَها، فَإِنَّهُ يُشَكِّلُ حَقلًا مَعرِفِيًّا في الكِتابَةِ والإِنشاءِ، ليس لِلطَّلَبَةِ، فقط، ولكِنْ لِمَن جازُوا مَراحِلَ التَّعَلُّمِ، ومَلَكَتهُمُ لَوْثَةُ الأَدَب.
لقد قَرَنَ أَدِيبُنا جُودَةَ مَوضُوعَتِهِ بِجُودَةِ بَيانِهِ فَخَرَجَتِ الصُّورَةُ جَذَّابَةً «تُسِرُّ النَّاظِرِين»، وتُوَشِّي ساعَةَ القِراءَةِ بِجَمالِيَّةِ اللُّغَةِ وإِيحاءاتِها، وصِدقِ الوِجدانِ ودِفئِه. ولَرُبَّ قاصٍّ قَصَّرَ في أَحَدِهِما، فَهَبَطَ عَمَلُهُ، واقتَصَرَ إِمَّا على حِكايَةٍ عادِيَّةِ السَّردِ كأَنَّها مِن نِتاجِ مَجامِعِ العامَّةِ، وإِمَّا على عَرْضٍ أَدَبِيٍّ، لُغَوِيٍّ، مَتِينِ السَّبْكِ، خاوٍ من المَضمُونِ السَّمِينِ الثَّمِين. ولَقَد أَصابَ الرِّوائِيُّ حَنَّا مِيْنَة حِينَ قال: «إِنَّنِي أَعرِفُ أَنَّ مَوضُوعًا مُتَقَدِّمًا يُصبِحُ سَيِّئًا في شَكلٍ مُتَخَلِّف».
وكاتِبُنا يَعرِفُ هَدَفَهُ، ويَسِيرُ إِليهِ بِتَمحِيصٍ، وتَدقِيقٍ، وتَوَسُّعٍ، مِن دُونِ أَن تَضِيعَ مِن يَدِهِ بُوصُلَةُ الدِّراسَة. فهو، في وَحدَةِ عَمَلِهِ القَصَصِيِّ، لا يُعِيرُ انتِباهًا أَحداثًا لا تَخدُمُ الفِكرَةَ الرَّئِيسَةَ. فالحَياةُ حَقلٌ فيه الثَّمَرُ، وفِيهِ الشَّوكُ، وحَلْبَةٌ مُنَوَّعَةُ الصُّوَرِ، وَفِيرَةُ الحَوادِث. وهو يَنتَقِي ما يَدفَعُ إِلى الغَرَضِ، ويَصُبُّ في الكُوارَةِ المَنشُودَة.
أَلقِصَّةُ مُحاكاةٌ لِجانِبٍ مِن نَسِيجِ الحَياةِ الثَّرِّ، وانتِقاءٌ لِأَلوانٍ مِن مَوشُورِها الواسِع. والقارِئُ، خارِجًا عن السَّردِ، والمَضمُونِ الفِكرِيِّ، والرِّسالَةِ المَنشُودَةِ من القِصَّةِ، يَتَشَوَّفُ إِلى مُقَوِّماتٍ جَمالِيَّةٍ تَنتَظِمُ العَمَل. والجَمالُ الأَدَبِيُّ بَيانٌ غَنِيٌّ أَنِيقٌ، وصُوَرٌ تُدَغدِغُ الشَّغاف. ومَنْ أَوْلَى بِها مِن أَدِيبِنا، المُرَبِّي الكَبِيرِ الَّذي عاشَ لَصِيقًا بِالعَرَبِيَّةِ، مَهجُوسًا بِجَمالاتِها، يَعجِنُها ويَخبِزُها رُغْفانَ خَيْرٍ لِأَجيِالٍ وأَجيال. وهو العَلَّامَةُ المَرجِعُ في شُؤُونِها وشُجُونِها، والأَدِيبُ الذَّوَّاقَةُ، والشَّاعِرُ المُرهَفُ، الشَّفِيف.
وكان أَدِيبُنا جَوَّادًا، فَذَيَّلَ أَقاصِيصَهُ بِبِناءٍ مُتَكامِلٍ مِن أَسئِلَةٍ مَبنِيَّةٍ على النُّصُوصِ، مُوَجَّهَةٍ إِلى الطُّلَّابِ، هادِفَةٍ إِلى تَغطِيَةِ جُلِّ احتِياجاتِهِم، مُتَيَقِّظَةٍ، في تَدَرُّجِها الوَئِيْدِ، لِتَحَسُّسِهِمِ المُتَعَثِّرِ بِلُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ ساحِرَةٍ عَصِيَّةِ المَنال. وفي هذا النَّسِيجِ المُتقَنِ حَيِّزٌ لِلإِنشاءِ، مَواضِيعُهُ مِنَ التُّراثِ، والأَدَبِ، ومن مِعْجَنِ الحَياةِ المَوَّار.
صَدِيقَنا!
لقد دَبَّجتَ ما يَلَذُّ ويُفِيد.
سَلِمَت يَداك!
***
(*) مَجَلَّةُ «أَخبار اليَوم» بِتارِيخ 27/ 3/ 1948 (حِجازِي، عَلِيّ، «القِصَّةُ القَصِيرَةُ في لُبنانَ 1950 – 1975، تَطَوُّرُها وأَعلامُها»، ط 1، بَيرُوت، دارُ المُؤَلِّفِ، ص 49).