ماذا حدث للأدب الروسي المعاصر؟

     

 

ألغيت الرقابة على المطبوعات في روسيا منذ حوالي ثلاثين عاما. وكان المتوقع أن يشهد هذا الأدب ازدهارا حقيقيا في أجواء الحرية والليبرالية، ولكن حدث العكس تماماً. حيث قلّ عدد القراء بشكل حاد، وعانت المجلات الأدبية (السميكة) المرموقة من انخفاض شديد في مبيعاتها، ولم تعد الأعمال الأدبية تنشر بعشرات أو مئات آلاف النسخ، كما كان الأمر في الحقبة السوفيتية، بل بعدة آلاف من النسخ في أفضل الأحوال. فما الذي حدث؟

يقول البعض ان السبب يعود الى شيوع الأنترنيت، ووسائل الترفيه الجديدة. وهذا صحيح الى حد كبير. ولكني أعتقد أن السبب الرئيسي يكمن في إلغاء دور النشر الحكومية الرصينة، وإنشاء دور النشر الخاصة التجارية في روسيا، والتي باتت تتحكم بكل ما يتعلق بطباعة الكتب ونشرها وتوزيعها وإشهارها. ولم تعد تنشر الا الكتب الرائجة تجاريا، وهي في معظمها كتب خفيفة لا تتسم بقيمة فكرية وفنية كبيرة، وتنتمي الى أدب الرعب والجريمة أو المغامرات، أو الروايات النسائية لتسلية ربات البيوت، او روايات الحب الرخيص، التي تجد اقبالا من المراهقات. كتب تُقرأ مرة واحدة  لقضاء الوقت ثم تُرمى غالبا في حاويات القمامة.

دور النشر الروسية اليوم حصرت الأدب في دائرة ضيقة من المؤلفين، وهي تقوم بتسليط الضؤ عليهم وإشهارهم بكل وسائل الدعاية المتاحة. وتلتف حول كل دار نشر كبيرة مجموعة من (النقاد) العاملين لصالحها، والذين يحاولون تلميع صور هؤلاء المؤلفين بكيل المديح عليهم وعلى اعمالهم. وهؤلاء النقاد بدورهم – كرؤساء أو أعضاء في لجان التحكيم – يتحكمون بآليات منح الجوائز الأدبية الى من تختارهم تلك الدور. ويوجد اليوم في روسيا عدد كبير من الجوائز الأدبية، يصعب حصرها ،  منها جوائز مجزية  مثل جوائز (الكتاب الكبير، كتاب العام، البوكر في نسختها الروسية ، الكتاب الأكثر مبيعا ) وأخرى معنوية، وتحمل في العادة أسماء كبار الكتّاب الروس. وتمنح الجوائز في احيان كثيرة لكتب راكدة، من اجل زيادة مبيعاتها.

جائزة البوكر الروسية – التي تعد جائزة مستقلة الى حد ما عن سلطة دور النشر الروسية- اب الروس الغربية الحديثة ، ولا صلة لها بالتراث الأدبي الروسي العظيم..

أما الأدباء الذين لا يكتبون للسوق (حسب الطلب) فقد أصبحوا على هامش المشهد الثقافي، مهما كانت مواهبهم عظيمة، وأعمالهم متفردة ورائدة. وهذا لا يعني عدم وجود دور نشر رصينة، تهتم بالأدب الرفيع، ولكنها دور نشر صغيرة ذات موارد وامكانيات شحيحة، وطرق الإشهار شبه موصدة أمامها. وبذلك أصبح الكتاب سلعة في السوق، وليس مصدرأ للثقافة والمعرفة والمتعة الجمالية الحقيقية ، كما كان الأمر في الماضي.

أن الأعمال الأدبية الروسية المعاصرة ، الصادرة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي والمترجمة الى اللغات الاحنبية، تطبع بنسخ محدودة، ولا يقبل عليها القراء العاديون، بل اساتذة وطلبة أقسام الآداب السلافية. ويقوم معهد الترجمة في موسكو بتكليف مترجمين أجانب لترجمة الأعمال الأدبية الروسية الى اللغات الأجنبية، وتنشر تلك الأعمال على نفقة المعهد لدى دور النشر الغربية. ويلجأ بعض نجوم الأدب الاستهلاكي الروسي الى نشر مؤلفاتهم في الغرب، وتحمل تكاليف الترجمة والطباعة والتوزيع.

 

مائة صنف من السجق وفكرة واحدة

اجرت الصحفية والمترجمة الفنلندية (كريستينا روتكيرش) – التي تكتب باللغتين السويدية والفنلندية – لقاءات صحفية مع احد عشر كاتبا روسيا مشهورا تحدثوا خلالها عن سيرهم الذاتية واعمالهم واساليبهم وتجاربهم في الكتابة (بوريس اكونين)، (يفجيني غريشكوفيتش)، (أدوارد ليمونوف)، (يوري ماملييف)، (فيكتور بيليفين)، (لودميلا بيتروشيفسكايا)، (نينا سادور)، (فلاديمير سوروكين)، (تاتيانا تولستايا)، (لودميلا اوليتسكايا)، (ميخائل شيشكين). وقد جمعت (روتكريش) نصوص هذه اللقاءات في كتاب صدر قبل بضع سنوات في ستوكهولم باللغة السويدية بعنوان ”لقاءات مع أحد عشر كاتبا روسياً“، ثم قامت بترجمة الكتاب الى اللغة الفنلندية ونشره تحت عنوان ”مائة صنف من السجق وفكرة واحدة”.

عنوان هذا الكتاب تهكم لاذع على الادب الروسي المعاصر. روسيا البوتينية تسعى الى بناء اقتصاد السوق، وتجد في متاجرها اليوم أصنافاً كثيرة من السجق، الذي كان شحيحاً في الحقبة السوفيتية. ولكن الأدب الروسي تحوّل الى أدب محلي ، ويعاني من ندرة المواهب الكبيرة ، وشحة الأفكار الملهمة.. وبين احد عشر كاتبا لا يوجد من يكتب الأدب الحقيقي سوى (شيشكين)، و(اوليتسكايا). وهذه الأخيرة يعرفها القارئ العربي بعد ترجمة روايتها الممتعة (سونيشكا) الى اللغة العربية. وهي روايتها الأولى التي نشرت في موسكو عام 1992 وترجمت الى العربية بعد حوالي ربع قرن…

شحة الأفكار والبؤس الإبداعي لنجوم الأدب الاستهلاكي هي نتيجة طبيعية لانعزالهم عن الواقع الاجتماعي. هذا الواقع الحافل بالتناقضات الحياتية والإنسانية التي يمكن أن يستمد منها الكاتب الروائي والقصصي آلاف الحبكات الممتعة. ولكن للسوق قوانينها، وهذا هو الحال في كل بلد يتحول فيه الأدب الى سلعة في السوق، ولا يقتصر الأمرعلى روسيا وحدها.

اترك رد