وتَرحَلُون… ولا وَداع! 

          

 

أَمسِ، الأَربُعاء الواقِعِ فِيه السَّادِس مِن تِشرِينَ الثَّانِي مِن العام 2019، ارتَشَفتُ قَهوَتِي الصَّباحِيَّةَ وقُلتُ: فَلْأَتَّصِلْ بِصَدِيقِي مُنِيف مُوسَى أَطمَئِنَّ على صِحَّتِهِ الَّتي تَمُرُّ في مَرحَلَةٍ عَصِيبَة.

وَرَنَّ هاتِفُهُ فَانتَظَرتُ حَتَّى كَلَّ الرَّنِينُ، ولَم أَحْظَ بِجَوابٍ، فَقُلتُ: رُبَّما ذَهَبَ لإِجراءِ فَحْصٍ طِبِّيٍّ ما مِنْ فُحُوصاتِهِ الكَثِيرَةِ المُعتادَةِ هذه الأَيَّام. وكان مِن العُرْفِ القائِمِ بَينَنا أَن يَتَّصِلَ أَحَدُنا بِصاحِبِهِ إِذا رَأَى رَقمَهُ في هاتِفِه.

وَمَرَّ نَهارٌ ولم يَتَّصِلْ، فَقَلِقتُ عَلَيهِ، وأَزمَعتُ على مُعاوَدَةِ الاتِّصالِ به.

وفي صَباحِ اليَومِ التَّالِي، الخَمِيس، تَفَقَّدتُ مُدَوَّنَةِ «aleph-lam» لِصَدِيقِنا المُبدِعِ جُورج طرابُلسِي، كَعادَتِي كُلَّ صَباحٍ، فَصَعَقَنِي ما قَرَأت: «رَحِيل البرُوفِسُّور مُنِيف مُوسَى».

لَستُ قادِرًا أَن أُعَبِّرَ بِالكَلِماتِ عَمَّا اعتَرانِي.

تَجَمَّدتُ كَتِمثالٍ، أَوصالًا مُتَخَشِّبَةً، دَمعَةً غائِمَةً، فِكْرًا شارِدًا، وصُوَرًا تَتَالَى خَلْفَ جَفْنَيَّ المُغمَضَين.

الله…

كَيفَ يَرحَلُ الرِّفاقُ… ولا وَداع!

ونَبقَى هُناكَ، نُلَوِّحُ بِالنظرات السَّاهِمَةِ الزَّائِغَةِ المُتعَبَةِ لِقافِلَةٍ تَنأَى في البَعِيدِ، ويَخبُو خَيالُها، لِتَبقَى الذِّكرَى، ذُخْرًا مِنهُم يُعَزِّينا كُلَّما كَثُفَتِ الوَحشَةُ ودَكِنَت.

آهٍ، يا صَدِيقِي، كُنتَ تُرَدِّدُ في مَسمَعِي، دِائِمًا: أُرِيدُ الرَّحِيل. فَأُجِيبُكَ، مُحِيلًا الأَمرَ إِلى سُخريَةٍ مُرَّةٍ سَوداء: شَيءٌ حاصِلُونَ عَلَيهِ، فَلِمَ الاستِعجال؟!

وما كان كَلامِي لِيُقنِعَكَ، فَقَد سَئِمتَ ثِقَلَ السَّقْمِ عَلَيكَ، وناءَت عَضَلَةُ قَلبِكَ الكَبِيرِ بِما حَمَلَت مِن شُؤُونٍ وشُجُونٍ وهُمُومٍ طَوالَ سَبعَةِ عُقُودٍ، تَرَكتَ في طَيَّاتِها رَصِيدًا مُضِيئًا كَالشَّمسِ، مَعرِفَةً، شِعرًا، أَدَبًا، نَقدًا، نَحْتًا، ونَظَراتٍ فَلسَفِيَّةً عَمِيقَة.

أَمِيرَ مِنبَرٍ كُنتَ، مُحَدِّثًا مُفَوَّهًا، بَحْرًا مِن المَعرِفَةِ، ومَعِينًا صافِيًا مِن كِبْرٍ وصِدْقٍ وشَهامَة.

في ذِمَّةِ اللهِ، يا صَدِيقِي، وَإِنَّكَ لَباقٍ، في البالِ، شَمِيمَ عِطْرٍ ولَحْنًا مِن وَفاء!

وفي ما يَلِي المُقَدِّمَةُ الَّتِي أَكرَمَنِي بِها لِكِتابِي «غَدْوٌ وقِطاف» الَّذي هو قَيْدُ الطَّبْعِ الآن.

رَبِيعُ خَيْر!

بِقَلَمِ البرُوفسُّور الدُّكتُور مُنِيف مُوسَى

 

«غَدْوٌ وقِطاف»، أَدَبٌ يَنهَلُّ عَلَينا خَيرًا مِن سَماءِ البَلاغَةِ، في زَمَنٍ شَحَّ فِيهِ نَزُّ «الماوِيَّةِ» في نُسْغِ الكَلِماتِ، فَأَحيا فِينا نَضْرَةَ البَيانِ، وقد صارَت تُرْبَةُ الكِتابَةِ والإِنشاءِ في مَواسِمِ التَّحبِيرِ والتَّدبِيجِ إِلى يَبابٍ، فَغَدا خَرابُ اللُّغَةِ على أَقلامِ كَثْرَةٍ مِن الكَتَبَةِ والفَرِّيسِيِّينَ، وسَوادِ المُتَفَيْهِقِينَ المُتَشَدِّقِينَ أَدعِياءِ صِناعَةِ الكِتابَةِ، المُعتَدِينَ عَلَيها، الَّذِينَ يَصِحُّ فِيهِم قَوْلُ الجاحِظ: «جَنَّبَكَ اللهُ الشُّبْهَةَ، وعَصَمَكَ مِنِ الحَيْرَةِ، وجَعَلَ بَينَكَ وبَينَ المَعرِفَةِ نَسَبًا، وبَينَ الصِّدقِ سَبَبًا»، رَصْفًا نَخِرًا ذا «دَبْشٍ غَشِيم» بَشِيعِالمَعانِي والمَبانِي، فَكانَ مِن سَقَطِ الكَلامِ في صَحائِفِ الطَّغَامِ، فَيا لَحَسرَةِ الأَدَبِ، ساعَتَذاكَ، وقد انتُهِكَتْ حُرمَتُهُ، ويا لَضَياعِ اللُّغَةِ وقد اغتُصِبَتْ عُذرِيَّتُها، ودُنِّسَت طَهارَتُها وارتُكِبَتِ المُحَرَّماتُ في أَخدارِها، فَنَهَضَ إِلى دِيوانِ الأَدَبِ الصَّدِيقُ الأَدِيبُ مُورِيس وَدِيع النَجَّار، وبِيَدِهِ سَوْطُ الكِتابَةِ الصَّحِيحَةِ الصَّعبَةِ المِراسِ، يَطرُدُ الزَّائِفِينَ النَّفَّاجِينَ الخُلَّبِيِّينَ مِن هَيكَلِ قَداسَةِ اللُّغَةِ وجَلالَةِ الأَدَبِ، وهو يُعِيدُ تَرمِيمَ الصُّرُوحِ الرُّخامِيَّةِ اللُّغَوِيَّةِ – الأَدَبِيَّةِ القائِمَةِ على العَقلِ والحِسِّ والعاطِفَةِ والوِجدان. والأُسلُوبُ عِندَهُ يَخُطُّ الأُسُسَ والتَّفاصِيلَ بِحِرفَةِ المَنطِقِ ودِقَّةِ القِياسِ في الفِكرِ والقَوْلِ، فَكانَ إِلى كَمالِ الرَّوِيَّةِ ساعِيًا وإِلى التّثَبُّتِ في الصِّناعَةِ، صِناعَةِ الكِتابَةِ، فاعِلًا. وهو مِن ذَوِي جِبِلَّةِ طَبِيعَةِ اللُّغَةِ الرَّاقِيَةِ والكِتابَةِ الرَّائِقَةِ والشِّعْرِ الرَّائِع!

فَكانَ كِتابُهُ هذا «غَدْوٌ وقِطاف» مِن نَثْرٍ ونَقْدٍ وشِعْرٍ، كِتابَ أَناقَةٍ في البَلاغَةِ والفَصاحَةِ والبَيان… ومَعْقِلُ هذا كُلِّهِ الذَّوقُ والعَقلُ على حِرَفِيَّةٍ وعِلْمٍ وهَندَسَةٍ، حَتَّى جاءَ بُنيانُهُ مَتِينَ الرَّكائِزِ والجُدُرِ، والأَعمِدَةُ على الطُّرُوسِ حَفْرٌ ونَقْشٌ كَأَنَّ الطِّرْسَ الواحِدَ سَبِيكَةُ ذَهَبٍ، في دارَةِ الأَدَبِ، تَلِيقُ بِالحَفْلِ وجَمْهَرَةِ الأُدَباءِ الأَصفِياءِ والمُتَأَدِّبِينَ الأَخيارِ، والقارِئِينَ الذَّوَّاقَةِ، في حَضْرَةِ الكَلِمَةِ، وقَصْرِها الضَّيِّقِ الرِّتاجِ، فَلا يَدخُلُهُ إِلَّا أَصحابُ الكِفايَةِ والأَهلِيَّةِ لِيَكُونُوا مِن أَسيادِها وأَخدانِها وسَدَنَتِها!

صَدِيقِي الأَدِيبُ مُورِيس وَدِيع النَجَّار، رَجُلُ الرِّياضِيَّاتِ (Mathématicien)، ناثِرٌ هو، وشاعِرٌ، ورِوائِيٌّ، ومُحاوِرٌ… وهو في كِتاباتِهِ كَالفَلاسِفَةِ حَكِيمٌ، وقد تَضَمَّخَ بِرَذاذٍ مِن ماءِ أَفلاطُونَ في مُحاوَراتِهِ، ودِيكارْت بِعَقلانِيَّتِهِ، وابْنِ سِينا بِشِعْرِهِ، مِثلَما حَلَّتْ عَلَيهِ نِعمَةُ بَعضِ كِبارِنا في أَدَبِ لُبنانَ، مِن أَمثالِ جُبرانَ في «أُغنِيَةِ الرِّيحِ» والعاصِفَةِ, وإِهداءِ «الأَجنِحَةِ المُتَكَسِّرَة»، وكَرَم مِلحِم كَرَم في كِتابِهِ «قِطافُ العَناقِيد»، وفُؤَاد سُلَيمان (تَمُّوز) في كِتابِهِ «تَمُّوزِيَّات»، أَمَّا مِنَ الأُدَباءِ الغَربِيِّينَ فَأَذكُرُ مارسِيل برُوست ((Marcel Proust في كِتابِهِ «البَحْثُ عَنِ الزَّمَنِ المَفقُود» (À la recherche du temps perdu)، الَّذِي يَتَمَيَّزُ أُسلُوبُهُ، بِجُمَلٍ – غالِبًا – ما تَكُونُ طَوِيلَةً سامِيَةً وأَنِيقَةً ومُتَوازِنَة… وصاحِبُنا كَذلِكَ، على إِيجازٍ ولَمْحٍ وتَقْطِيرٍ كَمَنْ يَستَسقِي «ماءَ الوَرْد» مِن أَزهارِ البَرِّيَّةِ في رُبَى لُبنانَ وحَدائِقِه.

بَينَ مُورِيس وبَينِي وَشائِجُ قُرْبَى في الفِكرِ والأَدَبِ والكِتابَةِ واللُّغَةِ، وأَنا على قَناعَةٍ في حِرْفَةِ الأَدَبِ، – وقد قَرَأتُهُ مُنذُ نَحْوٍ مِن رُبْعِ قَرْنٍ – فَرَأَيتُ أَنَّ أَدَبَهُ جَدِيرٌ بِالكِتابَةِ عَنه. وقد كَتَبتُ ما كَتَبتُ، لا لِأَنَّ مُورِيس قد خَصَّنِي بِبَحثٍ عن كِتابِي الأَخِيرِ «سَنابِلُ الغُرُوب»، بَل لِأَنَّهُ مِن آنَقِ أَقلامِنا اللُّبنانِيَّةِ والعَرَبِيَّةِ – اليَومَ -، وأَفصَحِها، وأَسلَمِها لُغَةً وتَركِيبَ بَيان. وهو ابْنُ بُجْدَةِ فَنِّ الكِتابَةِ والتَّفكِيرِ الأَدَبِيِّ والأُسلُوبِ الرَّفِيع!

أَمَّا ما في الكِتابِ مِن تَفاصِيلَ ودَقائِقَ، فَلِلقارِئِ الأَمرُ، وأَقُولُ، هُنا، ما قالَهُ لِي يَومًا، مُنذُ إِحدَى وسِتِّينَ سَنَةً – صَدِيقِي المَرحُومُ الفَيلَسُوفُ الأَدِيبُ خَلِيل رامِز سَركِيس: «يا لَيتَ الكاتِبَ يَلقَى نِصْفَهُ الأَفضَلَ – قارِئَهُ -». فَهَل نَكُونُ نَحنُ مِن قُرَّاءِ مُورِيس النَجَّار؟

أَقُولُ قَولِي هذا، واستَغفِرُ اللهَ، لِي ولَكُم، أَيُّها النَّاسُ، ولِصَدِيقِي الأُستاذ مُورِيس النَجَّار النُّعْمَى والهَناءَةُ، ومَجْدُ الكَلِمَةِ، والتَّأَلُّقُ الباهِرُ، والتَّوفِيقُ، والنَّجاحُ الدَّائِم!

المِيَّة والمِيَّة (صَيدا – لُبنان) نَوَّار 2019

اترك رد