العرب وتحدّيات عصر “ما بعد الحداثة”

khaled

pencil-n-paper د. خالد صلاح حنفي محمود

(كاتب وأكاديمي من مصر)

يشهد العالَم اليوم ظاهرة انحسار الفضاءات الكبرى كالهويّة واللّغة التي كانت بمثابة الملاذات المعنويّة للمجتمعات البشريّة، وهذه الظاهرة لم تكُن نتاجاً للثورة المعلوماتيّة والرقميّة فقط، على الرّغم من دورهما في تعميق هذه الظاهرة، ولكنّ هذا الانحسار قد بدأ في أعقاب الحرب العالَميّة الثانية مع تزايد النزعات ما بعد الحداثيّة التي دعت بشكلٍ من الأشكال إلى تجاوز ظاهرة الحداثة، التي كانت بمثابة ساعة كَونيّة تدقّ في أرجاء الكون كافّة، ومعها بذلت الكثير من الدول كلّ جهودها وإمكانيّاتها للولوج إلى فضاء الحداثة.

وإذا كانت ظاهرة الحداثة أوروبيّة المنشأ، بحسب ما اتّفق عليه الباحثون، فإنّ هذه الظاهرة، وبسبب نجاحها الباهر، تحوَّلت إلى ظاهرة كونيّة. فليس هناك من نسخةٍ غير أوروبيّة من الحداثة؛ فحتّى الحداثة بنسختها الاشتراكيّة كانت تجلّياً للحداثة الأوروبيّة. لقد سعت شعوب العالَم في ضوء التقدُّم إلى فضاء التحديث بطابعه الكَوني. لكنّ التداعيات السلبيّة لظاهرة الحداثة الأوروبيّة، مثل ظهور الفاشيّات الأوروبيّة المتسلِّحة بالعِلم والتكنولوجيا الحداثيَّين، وقيام الحروب العالَميّة المدمِّرة، أدَّت إلى ظهور تيّارات فلسفيّة تدعو لتجاوز فضاء الحداثة وإلغاء التمركُز حول الفضاء الحداثي الغربي. ومن أهمّ الفلاسفة الذين حاربوا الملاذات الإنسانيّة الكبرى، الفيلسوف الفرنسي “فرانسوا ليوتار” الذي دعا إلى تجاوُز ما أُطلق عليه السرديّات الكبرى، والتي تمثِّل الملاذات والفضاءات الإنسانيّة الكبرى التي تشترك فيها الفلسفة الإنسانيّة جمعاء، بل إنّ أحد فلاسفة ما بعد الحداثة، وهو “ميشيل فوكو”، دعا إلى تجاوُز مفهوم الإنسان نفسه، وطرْح شعار موت الإنسان الذي اعتبره وليد الحداثة الديكارتيّة.

المضامين الفكريّة لما بعد الحداثة

ما بعد الحداثة مثلها مثل الحداثة، هي حالة أو مرحلة دخلت إليها البشريّة في سعيها إلى تأسيس عالَم جديد ذي شروط معرفيّة جديدة تختلف عمّا كان سائداً من قبل. وكما قامت الحداثة على نقد المراحل السابقة عليها لتؤسِّس عالَماً جديداً وفق قواعد العقلانيّة الفنيّة التي بسطت قواعدها على شتّى مناحي الحياة، فإنّ ما بعد الحداثة قام أيضاً على نقد الحداثة، وتحطيم القواعد التي ارتكزت عليها.

هناك صور متعدّدة من ما بعد الحداثة. فهي تتدرَّج من الموقف الرافض للغلوّ العقلاني الوضعي ورفض الاضطهاد الذي تمارسه الثقافة الغربيّة بأيديولوجيّتها العِلميّة، وصولاً إلى ما بعد الحداثة المتطرّفة الثوريّة العدميّة العبثيّة التي تدعو إلى الثورة على العقل والعقلانيّة من أساسهما وتصل إلى التشكيك حتّى في البديهيّات. وباختصار، يُمكن تعريف ما بعد الحداثة بأنّها اتّجاهٌ فكري، يضمّ خليطاً من التيّارات، يجمعها رفْض الأُسس الأنتولوجيّة (أي الخاصّة بطبيعة الوجود) والمعرفيّة والمنهجيّة التي قامت عليها الحداثة أو على الأقلّ يجعلها محلّ شكّ. وقد ظهر مفهوم ما بعد الحداثة بشكل واضح في السبعينيّات من القرن العشرين الميلادي، في كِتاب الفيلسوف الفرنسي ليوتار: “عِلم ما بعد الحداثة” وعنى بها التعدّديّة الثقافيّة وتعدُّد أنماط الحياة.

دولة الرفاه الاجتماعيّ في عصر العَولمة

تُعدّ العَولمة أبرز نتائج الثورة المعلوماتيّة وثورة الاتّصالات، وولوج عصر الثورة الرقميّة، والتي صارت ظاهرة حقيقيّة يُمكن أن نلمس تأثيراتها على مختلف الجوانب الحياتيّة. وكانت العولمة الاقتصاديّة هي الأسرع في التحقُّق، حتّى صار العامل الاقتصادي هو العامل المُهيمن على العوامل الأخرى. لقد تراجعَ العامل السياسي لحساب العامل الاقتصادي، وأدّى ذلك إلى نتيجة حتميّة تمثَّلت في تراجُع الدور السياسي للدولة وزيادة الهَيمنة للعمالقة الاقتصاديّين والشركات المتعدّدة الجنسيّات. إنّ الدولة الوطنيّة الحديثة التي تشكَّلت في القرن السابع عشر عقب معاهدة ويستفاليا، وفَّرت للمجتمعات البشريّة ملاذات حاضنة طيلة ما يزيد على الثلاثة قرون، واستطاعت المجتمعات البشريّة أن تُحقِّق داخل هذه الملاذات أقصى الطموحات الإنسانيّة في الصحّة والتعليم والأمن الاجتماعي.

استطاعت دولة الرعاية الاجتماعية أن تحقِّق في الغرب والشرق حالة من التقدّم والرفاه، لم تشهد البشريّة لها مثيلاً في حقبة الستينيّات والسبعينيّات قبل أن يدخل العالَم عصر العَولمة المُرافقة للثورة المعلوماتيّة، وقبل أن يفقد الفرد الملاذات التقليديّة التي كان يلجأ إليها في حياته.

تذرَّع المنظّرون الذين حاربوا دولة الرعاية الاجتماعيّة بمبرّراتٍ شتّى من أجل الانسحاب من الالتزامات الاجتماعيّة التي كانت الدولة تقوم بها، وكان من بين هذه المبرّرات أنّ برامج الرعاية خلقت مجتمعاً من المتواكلين الذين يعتاشون على مفردات الرعاية، وأنّها أدّت إلى ظهور شرائح بيروقراطيّة فاسدة مُنتفعة من هذه البَرامج. وهذه المُبرّرات والحجج كلّها كانت بهدف التهرّب من الالتزامات وزيادة أرباح كِبار الاقتصاديّين على حساب المجتمعات.

إنّ المسيرة التاريخيّة لدولة الرفاه الاجتماعي، التي استندت إلى تنظيرات مُتماسكة للاقتصادي البريطاني جون ماينهارد كينز، تدحض بشكلٍ لا لبس فيه هذه الادّعاءات كافّة. فقد حقَّقت دولة الرعاية الاجتماعيّة نموّاً اقتصاديّاً ورفاهيّة اجتماعيّة كبيرَين مع نِسبٍ ضئيلة من البطالة. كما استطاعت السياسة الاقتصاديّة الخلّاقة التي اتّبعتها دولة الرفاه أن تُخرج الغرب من أعمق أزمة اقتصاديّة واجهت الغرب الرأسمالي عبر تاريخه الطويل، وهي أزمة الكساد الكبير الذي ضرب الاقتصاد في العام 1929 واستمرّ في حقبة الثلاثينيّات.

إنّ حرمان الفرد من الملاذات الحاضنة له تقود إلى نتيجة حتميّة وهي تراجُع قدرته على الاستهلاك، وبالتالي الدخول في الكساد وتوقُّف عجلة الاقتصاد والنموّ. وأكَّد كينز أنّ السبيل الوحيد لضخّ الحياة في شرايين الاقتصاد يعتمد على دعم الفرد كي يستعيد قدرته على الاستهلاك مرّة ثانية.

وتُعدّ نظريّة كينز من أنجح النظريّات في التاريخ الرأسمالي، ولكنّ جشع الشركات متعدّدة الجنسيّات قاد إلى تقليص برامج الرعاية وتقليص مدفوعات هذه الشركات بشكلٍ خطير أدّى إلى إضعاف كيان الدولة في المراكز. وهكذا وجدَ المواطن في المراكز الرأسماليّة نفسه وحيداً في مُواجهة العمالقة الاقتصاديّين الذين لا همّ لهم إلّا تنمية ثرواتهم على حسابه. وقد لجأ العمالقة الاقتصاديّون إلى أساليب مُبتكرة من أجل التنصُّل من مسؤوليّاتهم الاجتماعيّة والتخلّي عن المجتمعات التي كانت السبب في ثرائهم طوال القرون السابقة.

لقد أقدمت الشركات متعدّدة الجنسيّات على نقل جزء كبير من نشاطاتها الاستثماريّة إلى الأطراف، حيث الالتزامات الاجتماعيّة والأجور والضرائب في أدنى مستوياتها. وهذا قاد بشكلٍ تدريجي إلى تراجُعٍ كبير في عائدات الدول من الضرائب، ما أثَّر على بَرامجها الاجتماعيّة من صحّة وتعليم وضمان اجتماعي. تراجعت أهميّة الهويّة الوطنيّة في عصر العَولمة، ولم تعُد هذه الهويّة مصدر قوّة وتلاحُم كما كانت في الماضي. ومع تراجُع دَور الهويّة الوطنيّة، أصبح المُواطن يقع أكثر تحت هَيمنة الاقتصاديّين مع فقدان أهمّ ملاذ له وهو الهويّة.

الدولة العربيّة وتحدّيات العصر

تفاقَم الوضع في العالَم العربي ليصير أكثر سوءاً مع تنامي ظاهرة العَولمة وهَيمنة الاقتصاد على السياسة بشكلٍ متزايد. فإذا كان العمالقة الاقتصاديّون قد أضعفوا دَور الدولة في الغرب من خلال إضعاف برامج الرعاية الاجتماعيّة، فإنّ هؤلاء العمالقة الاقتصاديّين فعلوا في العالَم العربي ما هو أشدّ، حيث بدأوا حرباً لا هوادة فيها ضدّ الدولة وهيكليّتها، وشاهدنا سياسات ومُمارسات خلال العقدَين الأخيرَين تصبّ كلّها في تفكيك الدول الوطنيّة.

ويُمكن القول إنّ سيناريو تفكيك الدولة الوطنيّة الذي تنفّذه القوى اللّيبراليّة الجديدة قد نجح فى تفكيك دول عربيّة عدّة مثل العراق وليبيا وسوريا وإعادة المجتمعات إلى حالة ما قبل الدولة، حيث شهدت هذه المجتمعات عودة القوى العشائريّة والطائفيّة التي كانت متسيِّدة قبل تشكُّل الدولة الحديثة.

فضلاً عن ذلك، يشهد العالَم العربي تراجعاً كارثيّاً لسيادة الدول من خلال السياسات المتّبعة من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والتي تركِّز على إغراق الدول بالقروض السهلة من أجل السيطرة على اقتصادات هذه الدول بحجّة ضمان سداد القروض، حتّى صار صندوق النقد هو الراسم للسياسات والخطط الاجتماعيّة والتنمويّة. وقد ترتَّب عن ذلك نتائج خطيرة تمثّلت في تفكّك الهويّة الوطنيّة التي كانت توفِّر ملاذاً للأفراد، وصارت المجتمعات العربيّة تعاني استغلال قوى عَولميّة تستهدف الاستئثار بمَواردها وخَيراتها.

إنّ عمليّة التحديث في أغلب ربوع العالَم العربي لم تتزامن معها عمليّة تحديثٍ ثقافي وفكري مؤسّسي تقوم بها الدولة تُعبّر عن روح العصر، كما حدث في أوروبا ودول العالَم. وعلى الرّغم من مضيّ ما يقرب القرنَين من الزمن على بدايات عمليّة التحديث في العالَم العربي، بدءاً من عصر محمّد علي، فإنّ الثقافات التقليديّة بقيت تقريباً كما هي، بل سادت قيَم ومُعتقدات اجتماعيّة تقليديّة تتّسم بطابعها الجامد والمُنغلق وغير القابل للتطوير الذاتي. ولا زالت شرائح اجتماعيّة مختلفة تتمسَّك بثقافاتها التقليديّة، وصار بعضها أكثر تعصّباً وتطرّفاً في تمسّكه بالثقافة المتوارثة وعناصرها. ولم ينتج عن عمليّة التحديث أيّ تطوّرات ثقافيّة توحِّد هذه المكوّنات في إطار ثقافة واحدة دامجة لثقافاتها وتجمع مكوّنات الشعوب العربيّة لتكون هي الأصل الذي تتفرّع منه باقي الثقافات التقليديّة الجزئيّة.

ثمّة حاجة إلى العمل على خلق ثقافة عربيّة عامّة مدنيّة وحديثة تصلح كإطارٍ عامّ وكملاذ يضمّ جميع مَن يعيشون في العالَم العربي، بشرط أن تُبنى هذه الثقافة على قيَم إنسانيّة بعيدة عن مظاهر التعصُّب والعنصريّة، وتتجاوز الثقافات التقليديّة السائدة. وذلك كلّه مُمكن حدوثه بشرط توافر الإرادة والرغبة الحقيقيّة في التحديث الفكري والثقافي والتخلّي عمّا لا يتّفق مع العصر، وتبنّي العِلم والمعرفة والعقلانيّة كأُسس للمجتمعات العربيّة، والتحوّل إلى مجتمعات مُنتجة، بدلاً من بقاء المجتمعات العربيّة مجتمعات مُستهلِكة لأفكارٍ الآخرين ومُنتجاتهم الماديّة والفكريّة. وهذا التحوّل سيؤدّي إلى خلق ثقافة مدنيّة حديثة ذات طابع إنساني، قوامها ثقافة المواطنة والقانون والحفاظ على حقوق الإنسان العربي والدفاع عنها، وإشاعة قيَم الحريّة التي تمهِّد للتطوير الذي لا يقف عند حدٍّ.

****

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق.

 

اترك رد