طرابلس الفيحاء لم يكفها ما تتعرض له من حروب الغير على أرضها، فقد رزحت تحت ثقل جريمة أدمت قلبها بعدما تعرضت مكتبة السائح التي يملكها الأب ابراهيم سرّوح (كاهن رعية طرابلس للروم الأرثوذكس)، في منطقة السراي العتيقة في المدينة، إلى حريق أتى على معظم محتوياتها من كتب ومخطوطات قديمة، على خلفية إشاعات مغرضة نسبت إلى الأب سرّوج دراسة نشرت على الإنترنت تتعرض للدين الإسلامي ، “فيما في الحقيقة أن هذه الدراسة كتبها شخص غير لبناني أحمد القاضي، ولا تمت إلى الأب سروج بصلة، وهو الكاهن المفكر ابن طرابلس، الذي عاش فيها حياته بتواصل مع جميع أبنائها، والذي تشهد له أعماله وكتاباته، على احترام القيم والأديان السماوية والتعايش والحوار”، كما أوضح المدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي أشرف ريفي.
وضع هذا الاعتداء في خانة مؤامرة ضرب العيش المشترك في طرابلس، وكان مدار استنكار الفاعليات السياسية والثقافية في لبنان والخارج، وعلى الفور تحرّك المجتمع المدني في طرابلس ونظم اعتصاما تضامنيا مع الأب ابراهيم سروج أمام مبنى المكتبة في محلة السرايا العتيقة في طرابلس، ألقى خلاله توفيق دبوسي، رئيس غرفة طرابلس والشمال، كلمة قال فيها: “بات من الواضح جداً أن معظم مدينة طرابلس جاء ليستنكر هذا الحادث الخارج على تاريخ المدينة وثقافتها، فأهل مدينة طرابلس أهل سلام وعيش مشترك، وحكماً سنتمكن من تخطي هذه الوصمات السيئة. نرجو أن يعكس الإعلامييون صورة طرابلس الحقيقية ونعطي المساحة اللازمة للمجتمع الطرابلسي، الذي جاء إلى هنا مستنكراً، شيوخاً وشباناً وفتياناً ومن كل المناطق والأطياف، وهذا تعبير حقيقي عن ثقافة المدينة وفكرها وتراثها”.
كذلك تحدث سامر دبليز باسم المجتمع المدني، رافضاً محاولات زج طرابلس في هذا الآتون، ومؤكّداً التضامن مع الأب سروج باعتباره ركناً أساسياً من أركان المدينة. تزامنا أطلق شبان حملة اعادة تأهيل وترميم المكتبة.
كان الشيخ بلال المصري نقل تضامن أهالي التبانة والجوار وأحياء طرابلس مع الأب سروج، معتبراً أن ثمة من يريد ضرب العيش المشترك، ومذكراً بأن القرآن الكريم يحض على حفظ وحماية أهل الكتاب، وأن ما حصل هو عمل استخباراتي يقوم به أعداء لبنان.
مواقف مستنكرة
الدكتور خالد تدمري ابن طرابلس علق على الحادث بالقول: “غطّت سماء الفيحاء هذا المساء سحابة سوداء جعلت ليل المدينة كئيباً وحزيناً… وحلّت معها مكان رائحة زهر الليمون روائح الكتب المحترقة التي تنعصر عليها قلوب المثقفين والمؤمنين في مكتبة السائح – سرّوج التاريخيّة والمتخذة من مبنى سيّار الدرك (مدرسة الأميركان للبنات سايقاً في العهد العثماني) مقرّاً لها في السراي العتيقة..
مع الأسف أتت النيران على كتب تلك المكتبة العامرة والنادرة، تماماً كما سبق وأحرق الإفرنج مكتبة دار العلم في الميناء، وأحرق الأميركان دور الأوقاف والمخطوطات في بغداد…
ألا قاتل الله الجهلة في كل مكان ونجّا مدينة العلم والعلماء طرابلس من براثن الفتنة والتخريب… الخسارة كبيرة وعزاؤنا الوحيد أن الأب والكاتب والشاعر والمؤرّخ إبراهيم سرّوج بخير والحمد لله، إلاّ أن البناء التاريخي المهدّد أساساً بالإنهيار بات في حالة أكثر حرجاً… كل الاستنكار والإدانة لهذا العمل الإجرامي إن ثبت أنه مفتعل…
استنكرت مطرانية طرابلس والكورة وتوابعهما للروم الأرثوذكس احراق مكتبة السائح والاعتداء على صاحبها، وقالت في بيان: “أمام الجريمة النكراء التي نتج عنها حرق مكتبة السائح في طرابلس لصاحبها الاب سروج، لا يسعنا إلا أن نستنكر هذا العمل التخريبي الذي يرمي إلى ضرب اللحمة المجتمعية في مدينة طرابلس وجوارها، وندينه أشد إدانة لِما يحمل في طياته من خدمة لمشروع التفتيت في المنطقة، واعتداء على العقل والثقافة وعلى الإنسان عموما، ويذكرنا بحرق مكتبات بغداد والإسكندرية وما خلفه من انحطاط وجهل”.
أضاف البيان: “نجحت أصابع الفتنة التي بدأت بالتمدد إلى مدينتنا منذ أيام بنسج الأكاذيب والافتراءات حول مقال يعرف الذين تاجروا به أن الأب إبرهيم براء منه، إذ لهذا المقال كاتب معروف تمام المعرفة إذ نشره على موقعه الالكتروني منذ زمن، وأثبتت التحقيقات الرسمية ذلك. لكن عملاء الفتنة ومحركيها استمروا في مخطط ضرب المدينة وجوارها وترويع السكان المقيمين، الأمر الذي لا يخدم إلا المتربصين شرا بالوحدة الوطنية، ويشوه وجه طرابلس وتراثها الذي بناه أبناؤها جميعهم على اختلاف أديانهم ومذاهبهم”. وتابع: “إزاء ما حصل نطالب السلطات القضائية بالتحقيق الشفاف والكشف عن العملاء وسعاة الفتنة والفرقة، ومحاكمتهم، وإنزال العقاب الشديد بهم ليعوا، مع سواهم، أن اللعب بأمر المدينة وسكانها جريمة، وأنهم لن يبلغوا إلى الهدف الذي ينشدونه”.
وختم البيان: “نغتنمها مناسبة لنطلب من المسؤولين الروحيين والسياسيين كافة، وقادة المجتمع المدني، والإعلاميين أن يغلبوا الخطاب الهادىء البناء، ويعفوا عن التحريض وإثارة الغرائز وبث السموم. ونضرع إلى الله أن يحفظ طرابلس ولبنان من كل سوء”.
اعتبر وزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال المهندس كابي ليون، أن استنكار حرق مكتبة السائح في طرابلس، لا يكفي، وأن الذين حرقوا المكتبة ليسوا أشخاصاً مجهولين، وقال: “نسمع في المساجد أموراً لا تقال وتدعو إلى القسمة بين اللبنانيين… يكفينا ما يجري اليوم على مستوى المنطقة بين السنة والشيعة والشرذمة الخطيرة… أصوات التطرف مثل كرة الثلج تتنامى وتكبر”.
استنكر “المجلس الأرثوذكسي اللبناني”، في بيان، حرق مكتبة “السائح” للآب ابراهيم سروج، واصفاً إياه بأنه “عمل تحضيري لفتنة طائفية”. وإذ أثنى على ما جاء في كلام راعي ابرشية طرابلس والكورة للروم الأرثوذكس المتروبوليت افرام كرياكوس، أعلن رفضه لأن يكون منبر المطرانية للكلام السياسي لأي طرف كان، “فنحن دعاة خير وسلام ومحبة وتسامح، وإن كنا لا نرضى بأي عمل إجرامي، من أي نوع كان، يطال أيا من المقدسات دينية كانت أو ثقافية”.
دان مجلس إدارة “مكتبة العالم عبد الرحمن يونس” في مجمع نبيه بري الثقافي إحراق مكتبة السائح في طرابلس، وذلك في بيان جاء فيه: “العمل الإرهابي الذي استهدف واحداً من ابرز الصروح الثقافية والفكرية والتراثية الذي تمثله مكتبة السائح في طرابلس، يمثل استهدافاً للإرث الثقافي اللبناني والعربي والإنساني، ويجسد وجها آخر من الوجوه القبيحة للمؤامرة التي تستهدف لبنان، بإنسانه وتراثه وثقافته وتنوعه وتعايش أبنائه. هذه الجريمة مدانة بكل المقاييس والأعراف الأخلاقية والدينية، وهي تدلل على الهوية الحقيقية لمرتكبيها الذين هم ليسوا أعداء أنفسهم فحسب، إنما أعداء الكلمة الطيبة والعقل المستنير”.
مثقفون مصريون يستنكرون
دان مثقفون مصريون إحراق مكتبة “السائح” بلبنان، التي تعتبر أهم وأكبر مكتبة فى طرابلس، وتضم نحو 80 ألف كتاب. الكاتب الصحافى صلاح عيسى، قال في تصريح لـ”اليوم السابع”، إن المكتبات بمثابة خزائن للمعرفة والفكر بكل تياراته واتجاهاته، وينبغى الحفاظ عليها، لأنها تتضمن كتبًا تعكس أفكارًا متعددة ولا يجوز تدميرها.
وأضاف عيسى أن حرق مكتبة السائح بلبنان هو عمل همجى، ومحاربة الفكر لا تأتى سوى بالفكر والكتابة، ولكن في ظل هذه العمليات غير المسؤولة يجب على الدولة توفير الحماية الأمنية الكافية لهذا النوع من التراث.
الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى، اعتبر أن “هذا عمل همجى عرفناه بصور مختلفة، وفى ظل نظم وظروف نعرفها، فرأينا حرق مكتبة الإسكندرية والمجمع العلمى فى مصر، وحرق مكتبة ابن رشد فى قرطبة، وغيرها من الأمثلة التي تدل على كراهية البعض للكتب وهمجيتهم.
أضاف: “هذه الأفعال الإجرامية هى عدوان على التفكير والتعبير والاعتقاد، لذلك أدين بشدة حرق مكتبة السائح، فهى ضحية جديدة من ضحايا كثيرة، وهذا الحادث البربرى يعلمنا أن نسارع إلى الدفاع عن ثقافتنا وحماية حقنا فى التعبير”.
الشاعر عبد المنعم رمضان قال إن المنطقة كلها مضطربة، وحرق المكتبة يجعلنا أمام حادث غامض في لبنان، ولا أستطيع التعليق عليه لأنني لست على دراية بصاحب المكتبة، ولا الأحداث التي تلت الحرق، “لكن يبدو أن ثمة من يريد إشعال حرب أهلية فى لبنان، وثمة أطراف متهمة بذلك تتوجه مرة إلى الشيعة فى تفجيرات الضاحية الجنوبية، ومرة إلى السنة واغتيال الرجل الثانى فى جناحها، ومرة أخرى إلى المسيحيين، لذك حادث المكتبة لا أستطيع التعليق عليه سوى في هذا الإطار بأن ثمة أطرافًا تحاول إشعال فتنة فى لبنان”.
الناشر محمد رشاد صاحب “الدار المصرية – اللبنانية، قال في تصريح لـ”اليوم السابع”، إنه لا أحد يقُر هذا الفعل الإجرامى، وإذا كانت ثمة دراسة أو كتاب يخالف الآخر، فليس من حقه أن يتخذ ردة فعل عنيفة أو يتم مصادرة أي كتاب، ولكن يُرد بكتاب آخر.
أضاف: “ما حدث يُعد طريقة غير حضارية ووصمة عار في جبين من قام بذلك في القرن الواحد والعشرين، وأنه يسئ إلينا كعرب ومسلمين مهما كانت الدراسة التي أرُتكب من أجلها هذا الحادث. أعادنا هذا الفعل إلى حرق المكتبات حين كان يتباكى عليها المسلمون فترة حكم التتار والمغول وكانوا يوصفون بالهمجية”.
الناشر محمد هاشم، صاحب “دار ميريت” اعتبر أن أقصى لغة ممكنة للإهانة هى حرق الكتب والفكر، “فلا يوجد شخص عاقل يقوم بمثل هذا الفعل، إنما هو إرهابى يستهين بالحرية ويعتنق العنصرية، ومن ثم لابد من إدانة مرتكبي هذا الحادث ومعاقبتهم.
رضا عوض، صاحب دار رؤية، رأى أن “ما حدث يعُد مأساة كبيرة، نحن نعانى منذ حرق كتاب ابن رشد”، مؤكداً أنه ضد أن يرُد على الفكر بالحرق ولكن بالحجُة والفكر من التراث بمنهج صحيح ورؤية في التعامل مع الموقف، ولكن ما حدث منهم يعُد دليلاً قوياً على ضعف موقفهم.
أضاف: “كناشرين نطالب بمحاكمة هؤلاء لحرقهم الفكر والثقافة، لأن هذا العمل إرهابى وبمثابة تدمير للثقافة، نحن في المرحلة الحالية بحاجة شديدة لتطوير الفكر والثقافة”.
الناشر أحمد محمود، صاحب “دار صرح”، قال إن الإسلام دين سمح، وقد تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم للإهانة كثيراً، لكنه علمنا السماحة فى الإسلام”.
أضاف: “يجب أن أرد على ما أعتبره أو أراه إهانة للإسلام كناشر إسلامى وتعاملى السمح، بتقديم دراسات إسلامية نثبت فيها أن الاكتشافات العلمية والدراسات موجودة في الإسلام، فلدينا دراسات ترد على إهانة الإسلام، لكن العنف لا يرد حق الإسلام”.
كلام الصور
1- النيران تلتهم متبة السائح
2- الأب ابراهيم سروج
3- الأب سروج في مكتبته قبل حرقها
4- الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى
5- الناشر محمد رشاد