سقى اللّهُ زمانًا، كان المتعلّم فيه يصبو إلى صداقة معلّمه، ومعلّمُه يرى فيه أيضًا، مرتع أبوّة روحيّة حقّة، يبني من خلال ممارستها على تلميذه سلطة بناء الإنسان فيه معرفةً وأخلاقًا وقيمًا؛ من غير أن يعتور العلاقات المتبادلة نفورٌ، أو ترقى إليها شكوك ومظالم أمْ ظنون!
منذ زمنٍ خلا، يوم كنتُ لا أزال طالبًا في الجامعة اللبنانيّة، كنت بالإضافة إلى المعرفة التي أسعى بإثرها لتكوين الشّخصيّة الفكريّة-الثّقافيّة لمواجهة الحياة بما ملكت يُمناي وما اكتنز به عقلي، كنتُ أسعى جاهدًا كذلك، إلى تكوين علاقات طيّبة وبناء صداقات متينة مع الرّفاق كما مع السادة الأساتذة، الذين بصداقاتهم كنت أكنز أفضل المدّخر للزمن الآتي…
ومن بين أولئك الذين لا أزال أحفظُ عنهم أطيب الذكرى وأسمى التّذكار، معلّمي في السّنة الثّانية من الإختصاص، البرّوفسّور جورج طربيه، الذي لا أزال معه حتّى اليوم على علاقة صداقة واحترام متبادلين.
نشأت بيني وبين معلّمي وأنا على طريق الإياب من الجامعة، رفيقًا يصطحبه معلّمه فيخفف عنه عناء السّفر يومها، للطف فُطرَ عليه من ناحية، ولإحساسه بأنّ هذا الطّالب إنسانُ أهلٌ لمساعدة يستحقّها من ناحية ثانية…
توالت الأيّام ، وراحت العلاقة تنهش المراحل بيننا كما تنهب العجلات المسافة بين الجامعة ومقرّ السّكن، وهي تفتح أمامي الأبواب وسيعة لبناء صداقة متينة مع معلّمي؛ أفخر بها على العُمر!
كان معلّمي الصّديق، ينير أمامي دروب المستقبل، على ما ينتظرني إبّان انطلاقي على مسالك المعرفة، ومنعرجات الحياة معًا، لِما كان قد خَبِرَ من شؤونها والشّجون… وصرتُ له رفيقًا وصديقًا، يحرص كما أنا، على استمرار الصّداقة الثّمينة بيننا، لأنّ كلانا كان ينظر إلى علاقتنا، أنها خير العطايا التي تدوم وتشدّ أواصر المحبّة والإحترام والوفاء الإنساني بيننا.
كان يعتزّ بي واحدًا من بين وفير طلاّبه الذين كان ينتظر منهم الكثير على دروب المعرفة، متوسّمًا بهم كلّ الخير والإقدام. لكن، في الخِضمّ هذا، لم يكن يشوبُ علاقتنا، وأنا الطّالب المدخّن، سوى تلك العادة السّيئة، التي كانت تدفع به للتّوجّه إليّ بالقول معتذرًا بلطافته المعهودة: «إنزع هذا الثّعبان من جيبك» وهل يُسكَّنُ الثّعبان العبّ يومًا؟
والتهمت الحياة سنينًا من عمري المكتوب، وأنا لم أستطع تكريم معلّمي – لا بل حتّى كل مَن تعرّف بي وحفظ لي مودّةً – بالإقلاع عن تلك العادة السّيئة، التي كنتُ أول ضحاياها، يوم لثغني ثُعبانُها في مكمن الحبّ والعاطفة، بعد مرور تسعة وعشرين عامًا على نصيحة معلّمي، تحذيره لي ورجائه منّي لِما فيه سلامتي.
عُذرًا منكم معلّمي، لأني لم أستطع أن أُبادلكم حبّكم لي وحرصكم عليّ، يوم حذّرتني من ثُعبان أسكنتُه العُبَّ، بمحبّة لنفسي وحرص على بقائي سالمًا، دون العيش تحت سوط المخاوف العاصفة وسيف القلق الـمُسلَط!
عُذرًا من جمع أحبابي، لأنّي خرّبتُ لضَعف منّي، مسكنهم عندي، فبات القلق عليّ يبلبل نفوسهم، ربّما أكثر ممّا يقض مضجع أحلامي، بطموحات كثيرة، كنتُ قد رسمت لها السّبل ووضعتُ لها الخطط، من قبل أن يدهمني غول المخاوف؛ لينقضَّ مفترسًا على ما تبقى لديّ من طموحات… كنت قد أسكنتها مُفكِّرة الغد!… فإن ناداني المنادي على حين غرّة وعلى غفلة من صحوة العطاء، يكفي الحياة ويكفيكم منّي أحبّائي طيبَ ذكرى، ما أكونُ قد أنجزت… وما بقي منّي طيّ الأحلام والـمُنى، فلكم أن تأخذوا منه كأهداف لكم ما تشتهون وتبتغون!
ما أجمل من الوف إلا الوفي.
لا فضَّ فوكم ولا نضب يراعكم يا صديقي العزيز .