بقلم: الأديب إيلي مارون خليل
… ومع ذلك كلِّه، ما زلتُ أتساءل بيني وبيني! فالتّساؤل أمرٌ ذاتيٌّ داخليٌّ لا يُهمَسُ لا يخرج من الفم ويظلّ حميمًا. لا أحد يسمعك، فأنت تريد ألّا يسمعك أحد. “هكذا أفضل”، تهمس في روحك!
فلماذا تستمرّ تتساءل؟ ولماذا تريد ألّا يسمعك أحد؟
ألاستمرار في التّساؤل فضولٌ إلى المعرفة. فالمعرفة، وحدها، تَبْرأ فضولَك. أهو مرض؟ لا يُفترَض أن يكون كذلك. إذًا: فمِمَّ تَبْرأ؟
تعرف، أنت، أنّ المعرفة، معرفة الحقيقة، في أيّ موضوعٍ عندنا، بدل أن يكون أمرًا بدهيًّا، يُعتبَرُ “حشريّة” لا لزوم لها، ولا طائل منها، فلِمَ تحصُل؟ بل: يُفترَضُ ألّا تحصُل.
فـ”أزمة” الكهرباء معروفةٌ أسبابُها، بل مكشوفة للجميع، إلّا أنّ فئة تريد أن لا تعرف، أقصد أن لا تعترف. فإن اعترفت، ماذا يبقى لها لتواجه الـ”فئة” الأخرى!؟ ألآخر عدوٌّ، لا شريك. ألآخر كريهٌ، لا صديق. ألآخر غريب، لا مواطن. كلّ إنسانٍ، في بلدي، هو آخر! لا شريك، لا صديق، لا مواطن. مثل هؤلاء “الهؤلاء”، أيبنون وطنًا، أم يهدمون!؟ كيف يمكن لك أن تبني مع “آخر”، عدوّ كريه غريب، لا مع “شريك” أو “صديق”، أو “مواطن”؟
و”أزمة” الميزانيّة معروفةٌ أسبابُها، هي الأخرى، بل مكشوفةٌ للجميع، إلّا أنّ فئةً تريد أن تجهل، أقصد أن تتجاهل. فإن عرفت، ماذا يبقى لها لتواجه الـ”فئة” الأخرى!؟ كلُّ فئةٍ ترى إلى “الأخرى” وكأنّها الغريبة الدّخيلة المؤذية. ألآخر الغريب دخيل، مؤذٍ. أيستطيع هؤلاء “الهؤلاء” أن يُرَمِّموا بلدًا!؟ أن يُحِبّوا بلدًا؟ أن يفتدوا بلدًا؟ فكيف!؟
و”أزمة” المحروقات، و”أزمة” الرّغيف، و”أزمة” العمّال، و”أزمة” المعلّمين، مثبَّتين أو متعاقدين، و”أزمة” الأخلاق، ولا أحد يتحدّث عنها، و”أزمة” المناهج التّربويّة التّعليميّة، و”أزمة” الشّهادة اللّبنانيّة، متوسّطة وثانويّة، و”أزمة” البطالة، و”أزمة” الهجرة، و”أزمة” الـ… وسائر الأزمات… كلُّها واضحةُ الأسباب والنّتائج والمظاهر، لكنّ كلَّ فئةٍ تردّها إلى “الأخرى”. تتنصّل من “مسؤوليّاتها”، “تغسل يديها”… وتشتم، أو تُحرِّض أو… فالانتخابات على الأبواب. سنة؟ “ما السّنة خَلْف الباب”، و”غمِّض عَينْ وفَتِّحْ عَينْ، بتطلّ السّنة”!
إنّ لبنان، منذ كان، ككيان وطنيّ، وُجِدَ مريضًا، تعيسًا، بائسًا، مهدَّدًا دومًا، بالاندثار. يُرَقَّع بين عقدٍ وعقد، “يصطلح” إلى حين، ولكنْ على “زَغَل”! لا أحد يصارح أحدًا بسريرة ما يريد وما يُضمِر. لا أحد يصارح أحدًا برؤيته الحقيقيّة إلى لبنان، ولا برؤياه الواقعيّة. نُجمِع على حُبّ لبنان؟ صحيح. ولكنْ: أيّ لبنان؟ تلكم هي المسألة. هنا تكمن القضيّة. يُقيم اللّغز.
ففي لبنان لكلِّ “ساكن” رأي ورؤيا. وكلٌّ يعتبر نفسَه على حقّ، يعتبر أنّه على صَواب، أنّه يُحِبّ لبنان أكثر من أيّ “آخر”! نكون سُعداء إن وجدنا جماعة، سيلسيّة أو طائفيّة، بل ومذهبيّة، ترى الرّؤية نفسَها، أو الرّؤيا.
ألمَثَل!؟ “حدِّثْ، ولا حَرَج” عن “الأحزاب”، عندنا، و”التّيّارات”، و”العائلات” و”القبائل” و”العشائر”، وهلمَّ…
أنحنُ مواطنون أم سكّان؟ أنحن عاقلون أم ساكنون؟
ألمواطنون يتضامنون: محبّة وشراكة. ألوطن ليس شركة تجاريّة. ألوطن تراث وقِيَم، إلى كونه عادات وتقاليد لشعبٍ واحد، يفتدي أرضًا له، ويجابه أيّ آخر. ألأجنبيّ الطّامعُ المفتري هو الآخر، هو العدوّ. لا شريك الأرض والتّراث والقِيَم! والسّكّان؟ يسكن بعضُهم إلى بعض. يستكنّ بعضُهم إلى بعض. يطمئنّ بعضُهم إلى بعض. يتحابّون، يتشاركون، يُسعِد بعضُهم البعض. ومعًا يهنأون.
ألعاقلون يعقلون، يفكّرون، يتأمّلون. ألعقل يربطنا إلى واقع فلا نتجاوزه، وإلّا هلكنا. ألفكر يُقيم لنا حدودًا فلا نتخطّاها، وإلّا تهنا. والتَّأمُّل يُثبّتنا على قِيَم عُليا بها نرتقي، فلا نضلّ.
لبنان منهَك؟ مريض؟ مهَدَّد؟ نحن مُنْهَكون، أنهكناه. نحن مرضى جعلناه مريضًا. ونحن نتهدّد كيانَه والوجود. كلُّنا مسؤول. لا ينفع التَّهَرُّب. لا ينفع التّجاهل. لا ينفع التّعامي. كلُّنا في السّفينة نفسِها. ولن ينفع ندم.
ألتّاريخ لا يرحم! ولن! إنّه جَلّاد. يقسو على الجميع. وهو “الغربال”! يفصل بين “الحَبّ” و”القَشِّ”. بين “الغَثّ” و”الثّمين”. بين المطر والضّباب.
لكنّ السّؤال يبرز مِلْحاحًا: بعد هذا، أَغَبيٌّ أنا، أم صَبور!؟
المشكلة هي المال. من يعبد المال ينزل إلى مستوى التراب، فلا يعود الاخر في مجال إهتمامه، بل يصبح عدوّه لأنه يأخذ من طريقه ما يظنّه له. أما المعرفة والحقيقة فلا يبحث عنها بل يهرب منها لأنها تكشف له دناءته.