1- تحتفل الكنيسة اليوم باسم يسوع الذي أُعطي لابن الله وكلمته المتجسّد. وهو اسم إلهي أعلنه الملاك جبرائيل لمريم يوم بشارتها، ثمّ ليوسف في الحلم. ويعني حسب اللّفظة العبرية “الله يخلّص”. وأضاف الملاك: “يخلّص شعبه من خطاياهم” (متى1: 21). ولأنّ يسوع – الله المخلّص هو سلام الشعوب، الذي أنشده الملائكة ليلة ميلاده، ولأنّ الخلاص من الخطيئة والشّر يولِّد السلام، جعلت الكنيسة بقرار من خادم الله البابا بولس السادس اليوم الأوّل من السنة الجديدة “يوم السلام العالمي”. وقد وجَّه قداسة البابا فرنسيس، جرياً على عادة البابوات، رسالة للمناسبة بعنوان: “الأخوّة أساس السلام وطريقه”.
2. يُسعدني أن أحيّيكم جميعاً، أيُّها الحاضرون معنا في هذه اللّيتورجيا الإلهية، وأستحضر معنا كلّ الإخوة والأخوات من أبناء كنيستنا وسواها من الكنائس، بل كلّ إخواننا في المواطنة من مختلف الأديان، في لبنان والشَّرق الأوسط وبلدان الانتشار. إنّي أهنِّئكم وأهنّئُهم بالعام الجديد 2014، الذي نبدأه باسم يسوع تحت شعار الأخوّة والسلام. وأُعربُ لكم ولهم، باسم الأسرة البطريركية، عن أطيب التمنيات، ملتمسين أن تكون السنة الجديدة الطالعة سنة أخوّة وسلام، حسب رغبة قداسة البابا، سنة استقرار ونهاية للحروب والنزاعات وممارسات العنف والإرهاب.
نودّ أن تكون هذه الذبيحة المقدّسة صلاة شكر لله على السنة التي انتهت 2013، نشكره على كلّ ما جاء فيها من حلوٍ ومرّ، يقيناً منّا أنّ “كلّ شيء يؤول لخير الذين يتّقون الله” (روم 8: 28). وبالرغم من الحروب الكوارث الطبيعية، أعطتنا العنايةُ الإلهية قداسةَ البابا فرنسيس الذي أدخل في العالم روحًا جديدًا من التواضع والبساطة والمحبة للفقراء. وأعطتنا أمثولةً كبيرة في بطولة التجرّد من الذات من أجل الخير العام الأكبر في تخلّي قداسة البابا بندكتوس السادس عشر عن خدمته البابوية والانصراف إلى الصلاة من أجل الكنيسة والعالم، كراهبٍ، في دير صغير في حديقة الفاتيكان. وأدركنا أيضًا أنّ يدَ الله الخفية وتشفُّعَ أمّنا العذراء مريم، سيدةِ لبنان، حفظت وطننا وحمته من الإنهيار، بفضل صلاة المؤمنين والمتألّمين. وبهذه الذبيحة أيضاً نبدأ السنة الجديدة سائلين لها بركةَ الله وعنايتَه، والتزامَ الجميع في التعاون مع الله، سيّدِ التاريخ البشري، لبناء هذا التاريخ وفقاً لمقاصده الخلاصيّة.
3. أجل، باسم يسوع نبدأ سنتنا الجديدة، إيماناً منّا بأنّنا ننالُ به الخلاص بكلّ وجوههِ الروحية والاجتماعية والوطنية. كلّنا خطأة، وما من أحد بريء من الخطيئة. وحده يسوع يخلّصنا من خطايانا وشرورنا بنعمة التوبة والمصالحة. فلنُقبِلْ إليه لأنّ منه، من سرّ موته وقيامته، ينبع الغفران، لكي نحصل على خلاصنا الروحي الذي يزرع في قلوبنا السلامَ الحقيقي، ينبوعَ سعادة الإنسان. لقد استودعنا يسوعُ سلامه وأوضح: “أُعطيكم سلامي، لا كما يعطيه العالم أعطيكم أنا” (يو14: 27). إنه سلام الحقيقة والنعمة والمحبة.
إنّني أحيّي وأشكر كلّ العاملين في سبيل توفير الخلاص الروحي عبر النشاطات الراعوية، في الأبرشيّات والرعايا والرسالات والأديار، من أساقفة وكهنة وشمامسة ورهبان وراهبات ومنظَّمات رسولية وحركات شبيبة وأخويات في لبنان والشّرق الأوسط وبلدان الانتشار. إنّهم يزرعون سلام المسيح في القلوب والنفوس، من خلال الكرازة بكلمة الإنجيل وتوزيعِ نعمة الأسرار الشافية. كما أحيّي وأشكر كلَّ المؤمنين والمؤمنات الملتزمين بالحياة الروحية والراعوية، ويؤدّون مساهمة عظيمة في حياة المجتمع، إذ يجعلونه أكثر وحدة وإنسانية وأخلاقية.
4. من هذا الخلاص الروحي يُولد العملُ من أجل الخلاص الاجتماعي، أعني تحريرَ الناس من كلِّ ما يعوق نموَّهم البشري والثقافي وتقدّمَ مجتمعاتهم بقيَم الحداثة. وذلك بممارسة العدالة الاجتماعية التي توفّر الحقوق الأساسية للجميع، وبتأمين جوّ من الاستقرار الغذائي والأمني. هذا هو جوهر رسالة الكنيسة، وهي تُجسّده في مؤسّساتها التربوية، من المدرسة العادية والمجانية والتقنية المهنية إلى الجامعة؛ وفي مؤسّساتها الإنسانية كدُور اليتامى والمُسنِّين والمعوَّقين وذوي الاحتياجات الخاصّة؛ وفي مستشفياتها ومستوصفاتها ومراكزها الصحية؛ وفي أجهزتها الخيريّة ككاريتاس لبنان والبعثةِ البابوية وجمعيّة مار منصور دي بول، وسواها من مثيلاتها العديدة، التي يُموّلها مُحسنون من الداخل ومن الخارج، فضلاً عن مبادرات المحبّة من أبناء الكنيسة وبناتها والجماعات.
إنّني أحيّي وأشكر كلَّ العاملين والعاملات من إكليروس وعلمانيّين، في سبيل هذا الخلاص الاجتماعي، الذي هو الأساس للسّلام، والطريق المؤدِّي إليه.
5. ولا بدَّ من أن يُؤدِّي الخلاصُ الروحي والخلاصُ الاجتماعي، باسم يسوع، إلى الخلاصِ الوطني من كلِّ الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية. شعبُنا الذي يتحمّل بصبر وخلقيّة كلّ هذه الأزمات إنّما يستحقّ حقّاً خلاصَه الوطني والسلامَ الدائم والعادلِ والشامل. إنّنا نحيّي كلّ ذوي الإرادات الحسنة الذين في المجالات السياسية والمالية والاقتصادية والأمنية يعملون من أجل توفير هذا الخلاص الوطني والسلام في البلاد.
6. وفي المناسبة نهنّئ الدولة اللبنانية والجيش على الهبة الكريمة والمشكورة، من خادم الحرمَين الشريفَين الملك عبدالله بن عبد العزيز، عاهلِ المملكة العربية السعودية، المخصّصة للجيش اللبناني لتقوية قدراته الدفاعية. وهذا بفضل تضحيات الجيش ووحدته وصموده وشهدائه وحكمةِ قادته، وبنتيجةِ مساعي فخامةِ رئيس الجمهورية في إعلاء شأن لبنان لدى الأسرتَين العربيّة والدوليّة. ونودّ أيضاً تقدير الوعد من الدولة الفرنسيّة، بشخص رئيسها السيد فرنسوا هولاند، أنّها “ستتعاطى إيجاباً مع أسعار السلاح، ممّا يرفع قيمةَ الهبة”.
ولا يسعنا في المناسبة إلّا أن نشكر على الدعم الدولي للبنان، الذي أعلنتْ عنه الدول الخمس الكبرى في عضوية مجلس الأمن، في أيلول الماضي، وما زالت تعمل في سبيله.
7. إنّنا نأمل مع الشعب اللّبناني أن تكون المبادرة السعودية فاتحةَ مبادرات سياسيّة تساعد على التفاهم بين الفريقَين السياسيَّين المتنازعَين للخروج من أزمة الحكومة بالتوافق من أجل ضمان نجاحها في تأمين مصلحة البلاد والمواطنين، وفي معالجة الأوضاع الاقتصادية والأمنية المُقلقة وبخاصّة في إعداد الاستحقاق الرئاسي بانتخاب رئيس جديد للجمهورية في موعده الدستوري. ونرجو أن تستحثَّ هذه المبادرة السياسيّين اللّبنانيين على التضحية والتجرّد في سبيل حماية لبنان بكيانه ومؤسّساته، وبخاصة رئاسة الجمهورية التي يجب حمايةُ استحقاقها من أي انتكاسة بسبب الخلاف القائم حول صيغة الحكومة الجديدة. فالاستحقاق الرئاسيّ هو الأساس والجوهر، وهو باب خلاصنا الوطني.
8. تحضرنا القصة التي أظهرت حكمة سليمان الملك في اكتشاف “أمّ الصبي الحقيقية“، لعلّ العبرة منها تبرز مَن هو “أمّ الصبيّ، لبنان؛ إمرأتان بغيّتان تسكنان معًا، أنجبت كل منهما ابنٌ؛ اضّجعت إحداهما فوق ابنها فمات، فاستبدلته بابن الأخرى. ولما كان الصباح بان الأمر. فطلبت الأم الحقيقيّة ابنها الحي، فرفضت الأخرى التي سلبته مُدّعية أنّه ابنها. فذهبتا لتحتكما عند الملك سليمان. ولمّا اشتدّ النزاع بينهما في حضرته، لأنّ كل واحدة كانت تدّعي أن الحي ابنها والميت ابن الأخرى، أمر الملك بشطر الصبي الحيّ إلى نصفين وإعطاء كل واحدة شطرًا. فتحرّكت أحشاء أمّ الصبيّ وصرخت: “لا! لا تشطروه، بل أعطوها إياه حيًّا، ولا تقتلوه!”. أما المرأة الأخرى فقالت: “بل، لا يكون لي ولا لك. أشطروه”. فقال الملك: “أعطوا الصبيّ للأولى ولا تقتلوه، لأنّها هي أمّه”. فتعجّب الجميع من حكمة سليمان(راجع 1 ملوك 3: 16-27).
من هنا نود مناشدة فخامة رئيس الجمهورية:
فخامة الرئيس
9. أنتَ وحدكَ أقسمت أمام البرلمان يمين الإخلاص للوطن اللبناني والدستور(راجع المادة 50 من الدستور). وأنتَ نفسَك أعلنتَ عزمك، أكثر من مرّة، على تسليم الوديعة للرئيس الجديد المنتخب قبل 25 أيار المقبل. نرجو من حكمتك ألاّ تسمح بشطر الاستحقاق الرئاسي، لأنّه سيكون، إذا حصل لا سمح الله، قتلاً للبنان. فشطرُ الرئاسة هو بمثابة قطع الرأس عن الجسد.
10. باسم يسوع، نبدأ السنة الجديدة 2014، مُبتهجين مع العالم بأسره، وقد شاهدنا ليلاً ابتهاج الشعوب كلها بالعام الجديد. نصلّي إلى الله لكي يرسل لنا مسؤولين “مثل قلبه”، رجالات دولة يرعون شؤون البلاد عندنا وعند سوانا، كما وعد بلسان إرميا النبي(راجع إرميا 3: 15)؛ ونلتزم بأن نكون صانعي سلام وبذلك نكون أبناء وبنات الله: “طوبى لصانعي السلام، فإنّهم أبناء الله يُدعون“(متى5: 9).
بهذا الالتزام نرفع نشيد المجد للآب والابن والروح القدس، إلى الأبد، آمين.
*************
(*) عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي في عيد رأس السنة، وعيد اسم يسوع، ويوم السلام العالمي – بكركي، الأول من كانون الثاني 2014.
كلام الصور
1- 2- البطريرك الراعي مترئساً القداس الإلهي في كنيسة الصرح البطريركي في بكركي