جورج ضرغام

 «من حكَمدار بوليس العاصمة إلى أحمد إبراهيم القاطن بدير النحّاس… لا تشرب الدواء الذى أرسلت ابنتك فى طلبه… الدواء به سمّ… الدواء به سمّ قاتل»، كانت هذه صيحة الإذاعة المصرية فى ظهيرة وقفة عيد الأضحى فى العام 1954… من فضلك أغلق الراديو القديم، ولا تصدّقها، ولا تصدّقني… فتنزعج! فهى مجرد أجواء تشويقية لفيلمٍ سينمائي، بات هو الأشهر على الشاشة القديمة، لتناوله قصّة إنسانية من الدرجة الأولى.

 حكاية فيلم «حياة أو موت» 1954، كانت حقيقية بالفعل، لكن فى زمنٍ مختلف (تحديدًا بين العامّي 1915-1917) وبشخصيات مختلفة أيضًا. فلم يكن المريض الذى أرسل ابنته الصغيرة لإحضار الدواء له هو «أحمد إبراهيم»، بل رجل لبناني من «آل سماحة»، ولم يكن قاطنًا فى «دير النحّاس»، بل فى مدينة الإسكندرية. ولم يكن حسين رياض ذاك الصيدلي المثالي، سوى الصيدلي يوسف بشير الجميّل (شقيق جد الرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميّل)، والذي هاجر إلى الإسكندرية مع أخيه أمين، وأسّس بها مصنعًا للصناعات الكيماوية ومخزنًا للسجائر وصيدلية شهيرة كانت أشبه بنظيرتها بساحة البرج فى بيروت.

 أقام الأخوان الجميّل فى مصر مدّة وهاجرا إلى لبنان، لمشاركة بطل الحكاية (يوسف) فى مؤتمر الصلح في فرساي 1919 ضمن وفد البطرك المارونى إلياس الحويك.

 الحكاية موجزة كانت ضمن عظة دينية تعليمية لـ«الخوري-المعلّم» يوسف البجّاني كلمات قصيرة قالها رجل الدين الماروني المعلّم بـ«مدرسة القدّيس يوسف المارونية» بحيّ الضاهر فى القاهرة، قبل إنتاج الفيلم (حياة أو موت) بعشر سنوات وتطرّق للحديث عن حكاية قصيرة تظهر مثاليات الصيدلي يوسف الجميّل. وورد فى مجملها: «أن الصيدلي الماروني القاطن بالإسكندرية جاءته صغيرة تطلب دواءً لأبيها المريض، فحدث خطأ وأخذتْ دواء آخر. فذهب الصيدلي يوسف الجميّل وأبلغ الشرطة. كما أرسل رجاله يبحثون عن الفتاة الصغيرة، وينادون فى شوارع الإسكندرية لتحذير الصغيرة ووالدها من تناول الدواء الخاطئ الذى قد يسبّب وفاة، وملوّحين بمكافأةٍ ماليّة سخيّة لسكّان الإسكندرية لمن يدلّهم على مسكن الرجل.»

 الحكاية المثالية والمشوّقة حكاها مرّة ثانية المطران الماروني يوسف ضرغام فى العام 2005 على هامش الاحتفال بذكرى «مار مارون» فى كاتدرائية القدّيس يوسف المارونية بحيّ «الضاهر» فى القاهرة، ذاكرًا اسم يوسف الجميّل بطل القصّة الحقيقية، ضاربًا بأفعاله مثالًا لأعمال الخير والتقوى.

 الفيلم وقصّته الحقيقية وظروف إنتاجه، تعود بنا زمن قليلًا. حيث كانت شركة «لوتس فيلم» للإنتاج السينمائي، والتى أسّستها المنتجة المارونية آسيا داغر، قد تعرّضت لضوائق مالية وخسارات لتردّي أوضاعها فى سوق السينما المصرية فى ذاك الحين، وكانت داغر على وشك أن تحزم حقائبها وتعود إلى«تنّورين» موطنها فى لبنان. وبالفعل ذهبت إلى المطران الماروني بطرس ديب، لاستشارته فى أمرٍ ديني خاص. لكنها عادت ومعها مبلغ مالي كبير، منحه لها المطران من أموال تبرّعات «الموارنة» فى هذه السنة، كى تكمل مسيرتها الفنّية، معظّمًا دور الفنّ المحافظ والسينما فى الارتقاء بالإنسان وثقافته وتسامحه تجاه الآخر.

 وبالفعل عوّضت آسيا خسائرها، وردّت بعضًا من الأموال التي أخذتها، والجميل إلى الموارنة فيما بعد مرّتين. الأولى حين أنتجت فيلم «حياة أو موت» وهو المأخوذ عن قصّةٍ حقيقية بطلها رجل ماروني -كما ذكرنا- وليست قصّة من تأليف كمال الشيخ كما زعم نقّاد العصر، أو كما ظهر على تترات مقدّمته، التي كانت هي المعالجة الدرامية فقط، أو الخروج عن «النصّ الإنساني» بإضافة سردٍ سينمائي وأحداث مشوّقة.

 والثانية حينما عرض وجهاء الموارنة: «أنطون الجميّل (رئيس تحرير الأهرام)، جان جدعون (نائب رئيس الجمعيّة الخيرية المارونية)، أندراوس ضرغام (جد كاتب هذه السطور، كان صائغًا وشيخ الموارنة ومصمّم لوجو الأهرام الثالث الذى أهداه إلى أنطون الجميّل على كليشيه ذهبي فى جمعيّة المساعي المارونية،)» شراكة بينهم لبناء كاتدرائية مارونية في «أسيوط» بصعيد مصر، فكانت آسيا من الداعمين بمبلغٍ مما أخذته من أموال الموارنة.

 فقد شكا 28 مهاجرًا مارونيا لبنانيا كانوا يعملون فى أسيوط بالزراعة، للشيخ أندراوس ضرغام، أنهم يصلّون فى كنيسةٍ قبطية وليست مارونية، لعدم وجود أيّ كنيسة مارونية فى صعيد مصر كلّه، فوعدهم «ضرغام» بأن يبني لهم كاتدرائية لها 28 قبّة (بعددهم) كتطويبٍ لهم وبالفعل شرع «الوجهاء الموارنة» في تنفيذ المشروع وعرض أمر التأسيس، وانتدب جاستون روسي، ذاك المعماري الذى صمّم سينما «مترو» و«قصر النيل»، وعمارة «الإيموبيليا» الشهيرة (التي كانت مقرًّا لشركة لوتس)، لكن البناء لم يتمّ بظروف وفاة أنطون الجميّل وأندراوس ضرغام.

 فقد كان الرجلان (الجميّل، ضرغام) يستقطبان الموارنة من لبنان إلى مصر، ومن ثم تجنيسهم لتعزيز نفوذ أنطون الجميّل، الذي كان طامحًا برئاسة الحكومة المصرية، رافضًا عرض المطران الماروني بطرس ديب، أن يهاجر إلى لبنان، على أن ترشّحه القيادة الدينية هناك لرئاسة الجمهورية كبديلٍ لبشارة الخوري، وشرع هنا بتدشين حزبٍ سياسي يجمع الموارنة المهاجرين كظهيرٍ شعبي له، والذين استقطبهم من لبنان هو وأندراوس ضرغام لهذا الغرض بمعاونة بسطورس خيّاط القبطي، أحد أعيان محافظة أسيوط، والذي قدّمه الأديب اللبناني فارس نمر صاحب جريدة المقطّم، لأنطون الجميّل.

 كان خيّاط زميل دراسة لنمر فى الكلّيّة السورية البروتستانتية (الجامعة الأميركية فى بيروت حاليًا) وكانت مهمّة خيّاط توفير فرص عمل لهؤلاء المهاجرين فى الأطيان التى يمتلكها، ومن بعده عمل ابنه أمين بسطورس على قيد أسماء المهاجرين الموارنة فى سجلّات الكنيسة المصرية، بعد تشرّد فقراء الموارنة المهاجرين بعد وفاة أنطون الجميّل. وكان الجميّل قد شرع في فكرة الحزب بعدما انفرّط عقد جمعيّة «الاتّحاد اللبناني» التي كان أبرز أعضائها: أنطون الجميّل، وداود بركات، ويوسف السودا (والذي هاجر إلى لبنان والتحق بحكومته فيما بعد) وجبرائيل تقلا (صاحب الأهرام).

 كانت من أهداف «الاتحاد اللبناني» مساندة القضيّة اللبنانية ضد الأتراك العثمانيين، وحشد الرأي العام المصري عن طريق الصحف التي يمتلكونها، أو التي يعتلون منابرها لهذا الغرض. وكان مقهى «غنّطوس مصوبع» فى شارع الفجالة شاهدًا على تلك الاجتماعات اللبنانية، ومن قبلها أيضًا وفي هذا المقهى بدأت الدعوة إلى ترشيح سليمان البستاني للنيابة عن ولاية بيروت فى مجلس المبعوثان على أثر إعلان الدستور في تركيا، وكانت أهمّ مقترحاته التي طرحها هناك، منع توظيف غير الملمّين باللغة العربية في الدواوين الرسمية للسلطنة العثمانية، كما تولّى البستاني بعدها وزارة التجارة والزراعة والمعادن.

***

(*) الأهرام الأربعاء 19 حزيران 2019.

(*) موقع Mon Liban.