مارلين مسعد
في معرض الكتاب حيث ازدحام خانق تنوّعت فيه المنشورات والإصدارات المألوفة، وتكدّست الروايات برتابة شخصياتها وأبطالها وهشاشة حبكتها على بسطات أجنحة دور النشر العارضة والمكفهرّة كأوراق كُتُبها ودواوين الشّعر المتكرّر المصطنع والمتعرّي من ثوب الإبداع، كتبٌ تتكاثرُ وكأنّها تعلمُ أنّها في طريقها إلى الانقراض! يقف القارئ حائرًا لا يعرف أي عنوان يختار ليخرجه من مأزق الرتابة وتكرار الحكايات…
وقع اختيار صديقي أو مُقلقي، أنطوان سعد، صاحب دارنا اللبناني الكريم، وأنا في “ستانده “المميّز، على كتابٍ للأستاذ بطرس محفوظ حبيقة، “الأطايب في جُوَرِ البيغال…” أشار إلى الكتاب وقال: إقرإي هذا الكتاب وأخبريني، فأنا لم أَضحك ملء كياني ورئتَي إلّا مرّتين: يوم قرأت “دون كيشوت”، ويوم قهقتُ كالمجانين في أرجاء هذا الكتاب!
وحده شارع بيغال الباريسي ارتدى الضوء الأحمر وقهقهة تلعلعُ في أرجاء الصفحات، حدّ طقّ الخواصر والسطور، وسيل نهرٍ من الدموع مرفقة بما لا يُستحسن ذكره ههنا، إنّما ينتمي إلى عوارض الضحك الفاحش الخارج عن المألوف!
شارعٌ بأمه وأبيه بأنديته ولياليه، “بأطايبه” وجُوَرِهِ” بجغرافيات الأجساد العارية التي اكتفت برداءٍ لا حياء فيه ولا قماش، بل أطلقت عنان السّهر والمجون حدّ الجنون، يستوقفكَ عند ضوء الكتاب الأحمر، الذي تكاد تراه بين ريش وعري عارضات الأجساد على الغلاف، بل تشدّك غرابة العنوان الى جُوَرِ الفضولِ لترى ما قصّة هذا الضوء وماذا خلف هذا الريش المثير المتطاير في أرجاء معرض كتابٍ عجوز، ترهّلت أفكاره، وشابت حكاياته في أكياس المارّة المتماثلين بالاهتمام بالشؤون الثقافيّة والتاريخية وغيرها…
العنوان بحدّ ذاته يثير تساؤل كلّ من كان به شَرَه إلى الأطايب وغيرها، لكنّ موضوع الجُوَر لا بدّ أن يحدث اختلاجًا وإشارة إلى حذر ما، لمن يخشى الوقوع ويناشد السّلامة.
والملفت أن الأطايب من الجُوَر!!
وكلمة جُورة يُستعاض عنها في اللغة العربية الفصحى بالحفرة، إنّما هنا استُخدم المصطلح باللهجة اللبنانية فنقول “الطريق مليئة بالجُور” أو “جورة الصحيّة”. كما أنّ هناك قرى عديدة حملت اسم الجورة نظرًا لموقعها الجغرافي بين جبلين: جورة البلوط، وجورة بدران وجورة الترمس وإلخ… وها هي جُوَرُ البيغال الفرنسية تنضم إلى لائحة الجُور بتقنيّة لبنانية حوّلت مسار الديموغرافيا من الأشياء إلى الأحياء! وما أدراك ما حملته معاني هذه الجور!؟ أقلّه في القصة الأولى من أطايب وغير أطايب، أترك العناية للقارئ أن يهتمّ باكتشاف نكهتها!
أربعةُ قصصٍ حملت تعابيرَ أدبيّةً عاليةَ المستوى، ولغةً باتت شبهَ مفقودةٍ في المنشورات المألوفة، كما أن بعضها يصحّ أن يكون كوميديا هزليةComédie Comique ، كَونها تعكس حالةً اجتماعية بطريقةٍ تهكّمية، ندر وجودُها على مسارحنا، من حيث رقيُّها وصياغتُها القيّمةُ والمحترفة بأسلوبها المسبوك وبسموّ المصطلحات المهاجرة من ثقافة حديثة تحوجك في بعض الأحيان للعودة إلى القاموس (العُدم- قشبة- الخِنى- جِلفًا- شكيمة- شآبيب)
كما أن هناك تعابير لبقة جاءت ترسمُ بريشة الدّهاء، لوحات محرجة ومشاهد استفزازية. إضافة إلى ذلك لا يغفل القارئ الروح الشّاعريّة، والإحساس الصامت الدافئ، الذي لم يحشر نفسه حيث لا مكان له، بل أتى سيّدًا في مكانه، يضفي على هذه الكوميديا لونًا فكاهيًا متهكّمًا وشاعريًا أصيلاً على خشبة حديثة معاصرة.
من مجموعة القصص، قصّة حملت عنوان الكتاب بجدارة، كَونها رأس الهرم الهزليّ التّهكمي، والحِكَم التي يحقّ لها الصّدارة، ولا أبالغ القول إنّها كوميديا اجتماعيّة ساخرة، قلَّ مَن كتبها في عصر الرواية المملّة والقصّة القصيرة المنتحبة والفارغة من المعنى في أغلب الأحيان.
ملخّص هذه الكوميديا أي القصة الاولى، أنّ الكاتب وصديقه في زيارتهما إلى العاصمة الفرنسية باريس، حملتهما “الصبابة والجهالة” إلى أحد النوادي الليلية في حيّ البيغال. وهو كما عرّف عنه الكتاب “فيه فنادق مخصصة للبغي والمعاصي تتواكب في أحياء كذا، وأمكنة كذا، يسلكها أرباب الهوى السالكون ما لا يليق بالأدب لفعل الأفعال غير الحميدة.”
بعد الفيض بوصف بازخٍ مثير للدهشة وللضحك في آن، ترى نفسكَ مشدودًا متشبّثًا بالصفحات تقلّبها بشغفٍ وبفارغِ الصبر، غائصًا حتى أخمص انتباهك بوصف دقيق خام وعفويّ، يعرّيك من جدّية وصبر تتحلّى بهما وأنت تقرأ قصة عادية، ليصعد بك إلى أعالي قهقهة توقظُ أبعد ما فيك ومَن حولك من رصانة وهمود!
يقودك الشّرح لأدقّ التفاصيل المنمّقة بمصطلحات قديمة وجريئة حدّ قطع النّفس، من مشهد إلى مشهدٍ، تتنقّل بخفّةِ الدّم والظلّ، متمتّعًا بالصّورِ الحيّة وكأنّك كنت من النّدماء يومها في ذلك النادي الليلي، شاهدتَ ما شاهدت، ذقتَ أو شممت رائحة الأطايب من بعيد، وشاركتَ في معركة تحصيل الحقوق المسلوبة، والمحفظة المعرّاة من جوهرها، سببُ أولِ سقوطٍ في جورةٍ من جُوَر الأطايب!
لا بدّ من الاشارة أنّ الوصف كان رفيق كلّ الحالات وكلّ الصّور، بدءًا من ثياب بنات الهوى “ليست ثوبًا مخيطًا، فلا قماش، ولا خيّاط، ولا مقصّ، ولا توقيع قطع، فإنّها في حلّ من ذلك، لانّها في غنى عن الثّياب” أمّا عارضة “الستريبتيز” فقد ستر الكاتب عريها بوصفٍ شاعري دافئ “تستحم العارضة بجداول من الأنوار تنساب ضفائر، تغسل جسدها، وتنهمر بساطًا من الأضواء موطئًا، مزروعًا بالرياش والإسفنج… تتناثر ثيابها تناثر أوراق الخريف، رغم أنها في ربيع صباها.”
منها ننتقل في السّياق ذاته إلى نوع آخر من الوصف، التناقضيّ هذه المرة، لحقيقة البغاة، “يرضينَ أن تلمسَهنّ كلمة طبق الأصلِ عن واقع حالهنَّ، لا يرضين بالقول: إنّهنّ يمارسنَ الدعارة، لكنّهنّ يرضينَ بأن تفاخذهنّ، فتكون مركبًا يمخرُ عبابهنّ… لا يكدّرهنّ أن تكون الفاعل وهي المفعول بها، أن تكون هي النّصب والضمّ والجرّ، فتنصبك بضمّكَ وجرّك إليها… والمتزوجات أمينات لا يخنَّ رجالهنّ!”
وهل من تهكمٍ أجمل يصفُ سيّدات نادٍ في مهب الليالي؟
ثمّ تكمل اللوحات استعراضها في صالة الوصف لتقودنا إلى النمط الشعري الإيقاعي الهادئ المثير كرقصة ليل أحمر في أحشاء نادٍ محظور: “تناثري… تناثري… يا بهجة النّظر! تنثرها نِتَفًا نِتَفًا على دفعاتٍ، شيئًا فشيئًا. لا تَعْجَلُ، تتباطأُ مسافةً من الإثارةِ بين سقوط القطعة وأختها، يسقط معها قلبك…”! فيخيّلُ للقارئ أنه في الخلاء أمام امراة تغرسُ عراءها جزءًا جزءًا في جسدِ حضورٍ مذهول!
غير أنّه لكلّ قصّة واشتهاء لغزٌ ما، يتقن لعبة الرواية الصغيرة وغالبًا ما يؤدّي ببطل القصة إلى مأزقٍ و”يجيء القدر بالأمر، وهو على كلّ شيءٍ قدير” فالضرورة لم تكن فقط أم الاختراع بل أمّ الشتيمة “فاجأتنا الضرورة في الأمور إلى التفوّه بما لا يليق بالأدب/ وإن كانت نفسنا تستحي من مشاركة الفجّار. وهنا ترتفع وتيرة النص لتضجّ الفقرة بقهقهة حيث جاء ما جاء من وصف:
…”جمحت شتائمنا كالفرس الجموح، حشوناها إفراطا في الشدة بمفردات فظّة من لغتنا العربية، جَهَلنا مفرداتها في القاموس الغربي، فاختلط حابلها الشرقي بنابلها الإفرنجي.”
صديقان فارقا موطنهما حملتهما الصّبابة والجهل الى إناثٍ من نَسَبِ الشّيطان في كنف نادٍ ليلى، وقُلِبَت الأطايب إلى جُوَرٍ، وقعا في مأزق محفظة مسروقة من جيب الصديق المُنتشي في حجر امرأة، قايضت لذّةً اصطناعيّة بمأزق أدّى إلى معركة وهلكة متعسّرة النجاة، وكأن قطف الأطايب من شجرة الجنة المحرّمة خطيئة، ما إن تمتدّ يد لقطفها والتّمتّع بملذّاتها، حتى يحلّ العقاب ولا تّحلّ الخطيئة إلا سبحاتٍ من الهزيمة والتوبة ما جعلهما يتوسّلان تدخّل العناية الإلهيّة مستغفرين: “عفوًا! وغفرانًا! فاللّهمّ صفحًا عنّا.”
وصف المصيبة ينطبق عليه قول بالعاميّة “الفزع يطيّر الوجع” وها هو الفزع المجسّد بمارد يحرس النّادي والفراشات الليليّة يُقبِلُ بعصاه وجبال من الغضب “أقبل علينا في أقبحِ مظهرٍ ينوب عن هول اليوم المخوف، …بجبين مطرّز بالعبوس، وعينين قادحتين غضبًا ونارًا، ومناخير كالإبريق، وشاربين كذنب العقرب وصلابة ذراع كالمدراة… يرعد ويزبد، كاشفًا عن أسنان مثلومة، يهدر صوته صيحات حيوان الأدغال.”
حارس النادي الليلي من بلد “الواق الواق” لا يمكن فعل أي شيء لتخفيف هذا الهول غيرُ “قرص الناموسة للجاموسة.”
أمّا الحيلة التي شبهت بقرصة الناموسة، فما كانت إلاّ محاولة تغذية شعور هذا الرّجل الجبل المهجّن نصف عربي ونصف إفريقي، بأثر الدّم العربي، وزج قضيّة فلسطين لحماية قضية خلاص المتورّطَين في تنانير البغاة، لكن إحضار القومية العربية إلى ساحة المعركة لم يضاهِ ورقة نقدية أثّرت على فقر إحساسه ومشاعره الوطنيّة، وخففت من الحكم بالإعدام إلى الحكم بالبلل، فقد تحوّل النادي الليلي إلى حوض سباحة في مياه نتنة وجورة صحيّة، من مرشّات البنات اللواتي أمطرنَ زخّات غضبهنّ على من نعتهنّ بالعاهرات وبالتعبير اللبناني “العربي المشبرح!” “مبلّلين بالبول كالسّلاطعين، مكسورَي الخاطر بسبب ما تعرّضا له من الترذيل …بعد دخول النادي دخول السلاطين”!
بأسلوب انسيابي مداعب ساخر تخللته الأمثال الشعبيّة “من الدلفة الى تحت المزراب” والتعابير الأنيقة “كَسْر خَمرةٍ في كأس إذا ما الماء خالطها” والجمل الفكاهية المعبّرة عن يأس الحلّ “يحاول إقناعها، وشأنه كمن ينفخ بالونًا مثقوبًا.” وبعد في مراضاة الزّوجة: “فقَبَّلتُ أنا يدَها الثّانية مُتْقِنًا في تَقْلِيدِهِ إتْقَانَ السعدان”…
والجُمَل الموزونة ” في إشارة تقول كلمة النصر بفارغ الصبر” وكذلك “انقلب السّرور بالشّرور” حتى خلت نفسي أحضر مسرحيّة في أحد المسارح الفرنسية، ذات المستوى الرّاقي، بين قهقهات الحضور ووابل من التّصفيق لدخول كلّ ممثّلٍ. وما لفتني أنني لم أقرأ اسمًا، في هذه القصّة كما في القصص الباقية التي سأتناولها فيما يلي، بل إن صفة وعمل الشخص هي من عرّف عنه.
شيطنة ذكيّة أدبيّة بامتياز، فجّة صريحة، لم تتستّر حتى في ذكر الشّتيمة المشؤومة، أتقنها رجل محافظ على القِيَم اللغويّة والتعابير الأصيلة، لم ينفِ مصطلحات القواميس خلف ادّعاء العارف، لم يبالِ بالثرثرة العقيمة، بل شقّ طريقه إلى النادي الليلي، اصطحب القارئ إلى طاولته، وأغدق في كأسه أفخر خمره!
***
القصّتان التاليتان أي الثانية والثالثة، ظاهرتان اجتماعيتان، تجدر الإشارة إلى الحكمة التي جاءتا بها وإلى المغزى الذي حملتاه من دون الإطالة بالشّرح والتفصيل، فالمعنى في قلب الكاتب وفي طيّات كلّ قصة منهما.
“البرون والمديرة” ظاهرة اجتماعية مألوفة متكاثرة مع الأسف في مجتمعاتٍ ما عادت تأبه إلا بثقافة المال والثّراء، فيها تغاضى الأفراد عن حقيقتهم، ومكانتهم كأفراد فاعلين في هذا المجتمع أيًّا كانت الطبقة التي ينتمون إليها، أو الوظيفة التي يشغلونها. فيها صورة الشاب الأغرّ الطامع بثروة معلّمه والمنتسب إلى سيارته الفخمة، دافنًا نسبه وحسبه تحت تلّة من الكذب والخداع، وفيها الفتات التي يغرّها مال الثريّ ولون سيارته، حدّ التّوهم والمزج بين الحب وبين الطمع. إلاّ أنّ الدنيا محقّة مهما قست ومهما سهّلت الظرف المكاني والزّماني للإنسان، يأتي في لحظة منعطفٌ خلفه تختبئ الحقيقة، تنتصبُ كاللبؤة مطالبة بحقّها، حتى ولو بثمن باهظ!
هذه القصّة التي طرّزها أسلوب الكاتب المحترف، أتت هادئة طغت على تعابيرها الوصفية شاعريّة وشفافيّة جعلت منها صورة تعلّق في صدر القصة من أجمل لوحات البحر: “البحر سماءٌ قد أكبرتْها سماء الإله، سقفُ كلّ شيء الذي تراه في البعيد وكأنّه ينهار فوق العُباب، فتتعانق السماوان وتتوحدّان في سماء واحدة، هي الفلك الكلّي.” نسيج صوفيّ زجّ نفسه في هذه القصّة الماديّة وكأنّ الكاتب اختلى بضع ثوان بذات الكون، كأن المحامي عاد إلى ضمير الفلك الكلّي يستشيره ويستمدّ من ضوء كواكبه حجّة يبرّر فيها انزلاق الانسان في دهاليز المادية!
***
أمّا قصّة الهرّة والمؤامرة! أي القصة الثالثة، فقد دارت حول محور الوفاء، وفاء الحيوان للإنسان. أيكون هذا التّأمل سؤالًا وجوديًا آخر بمتناول إنسان اليوم، إذ يقول له: أين أصبحتَ بمراحل وفائك لأخيك الانسان؟
هل صحيح أن الهرّة وفيّة لرجل لمّها من شوارع المدينة، أكثر من وفاء ولد أو صديق أو حبيبة أو ربّ عمل أو أي إنسان آخر؟
“الشّاكي” غرق في يأس مكانه في بيته الجبلي المنفرد وفي زمان الشتاء القارص والثلوج العارمة على صدر الجبال، لم يلقَ من الدنيا سوى ذكاء هرّة وحبّها المخلص يخلّصه من مؤامرته على ذاته! إنسان شاء الحدّ من اليأس ومن قحط الروح قطعت شرّ مشيئته هرّة، وكان ما كان من زمن الحكايا!
خلتُني في حضن جدتي تسرد لي حكاياتها الحكيمة أو أمام كتابLes Fables de la Fontaine وقصة الحطّاب والموت الذي نادى الموت ولما حضر أمامه هذا الأخير، فضّل معاناته وعبء الحطب على الزّوال!
إنّما البقاء في هذه القصة أتى من رأس الحيوان هذه المرّة! أنكون في عصر فاقتنا هذه المخلوقات حكمة؟ كلّها أسئلة وضعها بمتناول القارئ المفكّر هذا الكاتب المتعدّد الأنماط السرديّة، الفائق بغرابته، والمتفوّق بأساليبه!
***
القصّة الأخيرة “زوج لاعبة الجيدو”
من اللافت وكما ذكرت أعلاه أن لا أسماء في الكتاب، لم أقرأ اسمًا لأية شخصية تناولها الكاتب إنّما الصفّة كانت التّعريف والاسم: ” صديقي/ العارضة/ جليستي/ الشقراء/ ضجيعته/ عشيرة صديقي/ البارون / المديرة/ السكريتيرة/ الشاكي/ الشاري/ زوج لاعبة الجيدو …/ كما أنّ لا أسماء للمكان الذي تدور فيه القصّة سوى عنوان الكتاب، “شارع البيغال” وقد يعود السبب إلى نسب القصص ولو كانت حقيقيّة إلى الخيال، وهو دهاء وإتقان للعبة المحافظة على الخصوصيّة، والإفصاح عن المجهول، ما يفتح مجالات واسعة للكاتب في أخذ راحته في السّرد وخلق الحجج دون أن يؤخذ عليه مأخذٌ! ربّما تكون هذه التقنيّة في الكتابة نتيجة ممارسة مهنة المحاماة!
بالعودة إلى زوج لاعبة الجيدو، السّعيد الذّكر، أضعها في خانة الكوميديا لكنّي أتريّث من وضعها في الصّف نفسه مع القصة الأولى، ولو أنّ تخللتها مشاهد فكاهيّة، وضروب من الجنون، لكنّها تبقى في نظري أدنى درجة على الصعيد التّهكميّ الصاخب من سالفتها، ولو أنّها عجّت بالوصف السّاخر الفكاهي الشّفيف!
تدور القصّة حول امرأة بطلة جيدو بحزام أسود وقع في شباك معاركها وشهد على بطولتها مَن أصبح فيما بعد زوجها، لكن أمر هذا الرّجل أثار الحيرة في نفوس القرويين على أمر ملتبس حول هذا الكائن الذي “لم تُستَنْفَد طاقته من شراء الفِئران من مؤسّسة الرّبان، للإتجار بالخلائق الحيوانيّة السّيئة الرائحة، في طرف البلدة” فاختلفت الأقاويل ولاحقته الشائعات “ملاحقة فارٍ من العدالة…” فلا هو عالم يتناول عِلم الفأرةِ على مشرحتِهِ…”وليس طبيبًا، نزعته أن يكشِفَ تركيب الإنسان وأعمال أعضائه…” ليس هو أمثال الجاحِظ وأرسطو متجرّدًا لدرس عالم الحيوان بمنظار علوم الطبيعة لا الفيزيولوجيا…” ولم يحسب مَنْ رآه أنّه مختلٌّ! سأتوقّف عن إكمال القصّة، أوّلًا بهدف التشويق الذي انتابني، فرحتُ مصروعة ألتهمُ الصّفحات لفكّ لغز هذا الرّجل! وثانيًا لأشرّح النص تشريحا سريعًا من الناحية السيكولوجيّة الذكوريّة، كما جاءت ههنا: “عندهُ، الذكورة لها من فعال القوّة ما ليس للأنوثة من فعلها، ولها طاقةٌ فوق طاقة الجيدو!” إنّه يعتبرها من الجنس الآخر على ضوء البيولوجيا، التي تعرّف الرّجل من الحيوان المنويّ والمرأة من البويضة” “إذ قيلَ عنهُ أنّه ذَكَرٌ، فالتّذكيرُ فخرٌ للشّمسِ وللهلال.”
هي، ليست سوى “المرأة” كان يكفِي لو أخذ النّص أبعاده السّيكولوجيّة من هذا الوصف لحالة الزّوج، لكنّ ما يميّز الكتابة المثقّفة ويرفع من شأن النصّ هو التلميح إلى الكتب القديمة كالتوراة مثلًا وأحداث تاريخية أخرى”… “فتذكّر المرأة في القِمّة التي قَتَلَ قايين هابيل من أجلها، وحرّك سيدنا سليمان الجنّ من أجلها، وسُجِنَ سيّدنا يوسف بسببها، وحرق القيصر روما بسببها. أيّ شعور بالقنوط انتابه. ما هذا الإحساس الغريب بأنّه هابيلُ المقتول، والجنّ الممسوخ، ويوسف المسجون وروما المحروقة!” وأُلفِتُ نظر القارئ في طريقي الى وزن النصّ وكأنّه قصيدة!
يتمادى الجانب النّفسي للمسألة، إلى انفصام في الشّخصيّة تجسّده القصّة بمونولوغ، وحوار مدهش بين الزوج وذاته، ليعانق المنحى السيكولوجي، الأنطولوجيا وعلم الوجود بحد ذاته فيسأل الزوج نفسه:” أنا مَن أكون؟” …المجيب، وهو المجيب “أنتَ واهم” … ويتطوّر الحوار بين الاثنين الواحد، و”الذات اللابسة ذات الآخر” فتتسع رقعة التساؤلات الوجوديّة ليغدو البطل خيّالًا لا فرسًا بفعل الأمر البيولوجي، وزوجته لا تتعدّى قوتها ظاهرة لعبة الجيدو، لكن لا بدّ من خروج لهذا المأزق، الجورة! وهي جورة أخرى خارج إطار البيغال، إنّما في رأس رجلٍ مغرور، ذَكَر على شكل معظم الذكور! لن ينقذه من صراعه الذكوري ربما إلاّ زيارة فأرة مفاجأة للغرفة الزوجيّة، عندها أطلق كلّ من الزوج والكاتب عنان الفعل والوصف في لوحةٍ راقصة على أنغام زعيق الزوجة وقهقهة القارئ: “يسعى وراء الفأرة، يقاومها بعزّة غلباء… يتقدّم نحوها محترسًا كلّ الاحتراس خطوة.. خطوة .. تدور يصدر أمرا بتوقيفها قاطعًا عليها الطريق، ثمّ يُخلي سبيلها… يلوِّح على مدى ذراعه بفردة حذائه،… وتمجيدًا لرجولته يدقّ الأرض بقدميه كأنّه يقرع طبول الحرب… دونكيشوت يصارع طواحين الهواء إظهارًا أنّ صراعه ليس بالبسيط والهيّن… كأنّه يصارعُ عفريت بلقيس المفرطة قوّته.”
بعد القضاء على الفأرة بقي الزوج عارفا للجميل “فاغتيال هذا الحيوان الصغير امتصّ نكسة رجولته، واغتال عقدته! صالحته الفأرة مع نفسه”.
عاود صراعه الدّمويّ مع الفئران مرارًا وذهبت به الضرورة ذات يوم الى أبعد من الفأرة فرقّى معركته المثمرة بالنتائج النفسيّة الصالحة بل أكثر، إلى الجرذان، “صحب الجرذ الى خِدرِه وأنزله ميدان المعركة…” لكن كما يقول المثل العاميّ ليس كل مرّة تسلم الجرّة، هذه المرّة أتت الإصابة حتميّة، أترك الكتاب يفصّلها عني، ولا يسعني إلا القول إنّه سقط الخيّال في صميم ما يميّزه عن الفرس!
أخيرًا أختم هذا الانطباع غير العاديّ الذي أحدثه في نفسي هذا الكتاب، أنّ الأطايب تنقلب في الغالب مصائب من أطايب البيغال إلى أطايب البارون وصولًا إلى أطايب الفئران… بعد كلّ قطعة حلوى ندمٌ! كثرت الحلوى وقلّت الجُوَر! في كلّ مرّة كان هذا الكاتب المميّز خفيف الظلّ والدمّ، ممتلئ الرأس، بعيد المخيّلة، شفيفًا كموجة، شاسعًا كبحر ضحك وقهقهة ساقية، يجد باب النجدة في عباراته المرحة ووصفه الكثيف، لا يعكّر مزاج القارئ، ولا يجعله يملّ من سرده الهائج المائج، مرح عفويّ أنيق حتى في السّباب والشتيمة، قدّم طوال الصفحات صدورًا من الأطايب والحلوى الفاخرة والمأكولات الادبيّة المملحة المبهّرة المزيّنة بقلوبات الحِكَمِ والامثال الشعبيّة والصّور الشعريّة، المعدّة موائد أدبيّة عريقة وفخمة بمعايير ثقيلة، قلّت في يومنا بل شحّت!
كم نفتقر إلى هذا النوع من الأدب الكوميدي الرّفيع المستوى! لو كان ليكون لكان حال كتابنا بألف خير لا تقوى عليه شيخوخة ولا يهدّده زوال!
أختم بخاتمة المؤلّف: “فالشباب يبرح مكانه، وهو إلى طريق الشّيخوخة. والشّيخوخة تبرح مكانها، وهي الى طريق الموت والزّوال. لا يلتقي الإثنان إلا باِلتقاء الصّيف والشتاء على سطح واحد، وهيهات أن يلتقيا… وصَوتي لا يُسمَعُ مَن به صمَمٌ.”
(الخميس 9 نوار 2019)
****
(*) موقع MON LIBAN.