أولغا ولورا وأليكسا في زمن الميلاد

بقلم: الأديب مازن عبود

راحت “أولغا” تنظر كيف يخرج الحطب من المدفئة أطيافًا نارية تتراقص على وقع الريح التي تحمله رمادًا، ودخان ينتصب حتى السماء.  ثمّ راحت تتأمل mazen-1في الشجرة التي هي مصدر الحطب.  وقد تسلقتها وهي طفلة.  وأكلت ثمارها وهي فتاة.  وجلست تحت أفيائها كهلة.  وها هي تذوب اليوم نورًا ونارًا كي تدفئها.  أحست بامتنان شديد تجاهها، وهي قد أسكنت في ربوعها الطيور التي هي فرح الربيع. فعلت الشجرة كلّ ذلك دون كلمة عتاب واحدة.  لا بل سمعت أناشيدهها لحظة احتكاكها بالنار.  جميلة الطبيعة.

 قبعت “أولغا” اليوم في منزلها بانتظار “اليكسا” الروسية التي صارت أيضًا “يورغو” اليوناني.  اختلفوا على جنسها وهي هي.   والأصعب من العواصف كان انتظارها.  المهم أنّ العاصفة أقعدت جارتها “لور” في منزلها.  وحرمت الجارة متعة التحري والاستقصاء عن أخبار العباد في قرية “كفرنسيان”.  ومن ثمّ سكبها أطباقًا تتغير وفق مقتضيات البيوت التي تزورها.

 والجارة قدمت نفسها لمحيطها كوسيطة لدى “سيدة الشاغورة” التي كانت تقول إنها “تلبي كل طلباتها”.  ومن أقوالها: “إنّ الحياة حتى في القداسة أخذ ورد. فأنا أجود على مقام السيدة العذراء بمالي، والكلية الطهر تحصّل لي من الله ما اشتهيه.  محسوبتكم “لور”  ربها بكل شي، في الغرام والانتقام والروحانيات”.  وكانت تمارس الابتزاز على الناس بتسويق دالتها على “العذراء مريم” التي تقول إنها كانت ترفع لها عند كل صباح لائحة مطالب.  وكانت “لور” تكذب والناس يعرفون ذلك.  وكانوا يحبون كذبها.  فقد أضحى بشر تلك البقعة مدمنين على الأخبار والقصص خوفًا من الفراغ الذي كان سيد الموقف.

 إلا أنّ قدوم العاصفة “اليكسا” شكل مناسبة للقاء “أولغا” بنفسها.  فتتأمل عميقًا في زمن “عمانوئيل”.   أخذتها أطياف النار التي كانت تلامس الأرض دون أن تطأها إلى عوالم سحرية.  خالت أنّ شجرة الميلاد في زاوية منزلها تمتد إلى السماء.  رأت ملائكة تنزل وتطلع عليها كأنها سلم.   إلا أنها ما أحست بالطمأنينة، فقد شعرت أنّ هيرودس مازال يبحث عن المجوس.  يبحث عنه.  يبحث عن الطفل كي يقتله.  فتختفي الشمس إلى الأبد.  ما شعرت بكل ذلك القلق قبلا.  فهي لم تدرك عالمًا بمثل هذا التخبط.

ما أقلقها كانت رسالة حفيدتها إلى “بابا نويل” التي كانت قالت إنها تحبه حتى أكثر من الطفل الالهي.  فالطفلة لقنت أن تحب الهدايا والأساطير.  أحست “أولغا” أنّ آلهة الغابات قد استفاقت.  استفاقت المادية.  واستفاقت الفردية في أقمصة حرية وشمّرت عن أنياب العبودية كي تلتهم الإنسان في البشري.  كرهت الكهلة “بابا نويل” على قدر محبتها للناصري. وأسفت من تعميم ثقافة الأخذ على حساب ثقافة العطاء.  سمعت تقول: “من قال إنّ العيد للاستهلاك؟؟ ومن قال إنّ العيد هو غربة للفقير عن ربه وعن أناسه؟؟

  تفقد الحياة جودتها إذا ما فقدت معناها.  ومن يعيش لنفسه، يفقد سرّ وغاية ووجوده.  فتضحي حياته بلا معنى.  تقوده الملذات واللهو إلى ساحات التعاسة والفراغ.  وسرعان ما تمضي اللذة ويوافي الألم والموت.  يبحث عن السعادة ولا يعرف أنّ السعادة هي البحث عن الهدف وعن معنى للوجود”.

 راحت “أليكسا” تنشر برودتها بصمت.  وبرودتها كانت أيضًا غربة معلولا عن أناسها وغربة أولاد أم “غسّان” عن بلادهم، وغربة العيد عن معانيه، وغربة الناس عن قيمهم.  راحت “أولغا” تنظر إلى النار، وتحلم بعالم أقل بردًا ونيرانًا وأكثر دفئًا.  حلمت بميلاد أكثر رجاء.  إلا أنّ النار في موقدها كانت تلتهم كل شيء حتى الأحلام.

 وسرعان ما نشرت “لورا” غسيلها من الثياب الداخلية على السطح.  فعرفت “أولغا” أنّ “اليكسا” ولّت.  وبرودتها ما زالت في قلبها عتمة لا يزيلها إلا رجاء الطفل القادم إليها من بعيد.

اترك رد