بقلم: الباحث خالد غزال
يقدم الوضع اللبناني مشهداً مروعاً من الانهيار المتمادي الذي تسير إليه البلاد، بل المآل الذي وصلت اليه، على جميع المستويات. فهو يعيش حالاً من التفكك لم يعد ينجو منه ميدان، على الصعيد السياسي والنسيج الاجتماعي والوضع الاقتصادي والشرذمة الوطنية العامة، إضافة إلى الأوضاع الأمنية والقلق الوجودي الذي بات كل فرد يسأل فيه عن مصيره.
أصبح الحديث عاماً وعلى كل شفة ولسان أن البلاد قد انتهت ولم يعد هناك ما يربط الحاضر بالماضي أو المستقبل. اذا كان الذهاب إلى إعدام البلاد كما هو سائد، لا يقع في حيز الواقع التاريخي، إلا أن السؤال عما إذا كان هذا الانهيار اللبناني العام قد يصل بنا الى المجهول في الأشهر المقبلة، يبقى سؤالاً في محله.
في النظر إلى حال المؤسسات السياسية، تبدو السمة الغالبة عليها التفكك والفشل في التكوين والفعالية. إذا كان موقع رئاسة الجمهورية لا يزال، حتى اليوم، في حال من الفعالية والممارسة، بالقدر المحدود الذي يسمح له به دوره وسط الشلل السائد، فإن هذا الموقع سائر إلى الفراغ خلال أشهر، وهو فراغ يعطل الدولة بالكامل ويهدد مصير الجمهورية بالوجود. لا يبدو منذ الآن أن انتخابات الرئاسة سائرة إلى التحقق في ظل الوضع السياسي والأمني السائد، وإصرار قوى معينة على الهيمنة على هذا الموقع في سياق الهيمنة التي تسعى إلى تحقيقها على مجمل البلاد، وقد تحقق الكثير منها.
في المقابل، دخلت الحكومة المستقيلة شهرها التاسع، ودخل تكليف رئيس للوزراء المدة نفسها، من دون أي أمل في إمكان التوصل إلى تأليف حكومة، حتى ولو كانت حكومة تكنوقراط تؤمّن تسيير شؤون الناس. يُستكمل هذا الفراغ بشلل مجلس النواب وعدم انعقاد جلساته، في ظل خلاف قد يكون في الشكل غير ذي معنى حول ما يناقشه المجلس في ظل حكومة مستقيلة، لكنه في الواقع يضمر تخطيطاً لاستبدال دور الحكومة لصالح مجلس النواب، بما يؤشر للسير نحو نظام مجلسي يغلّب موقع طائفة معينة ضمن المعادلة السياسية القائمة في اتفاق الطائف.
تسير القوى السياسية، بتواطؤ خفي أو معلن، نحو تكريس الفراغ في مؤسسات البلد السياسية، في مراهنة لكل طرف على انعكاسات الأوضاع الاقليمية على موقعها سلباً أو إيجاباً.
في ظل هذا الفراغ على المستوى السياسي، من الطبيعي أن ينعكس على مستوى المؤسسات الإدارية، حيث يزدهر الفساد وتتعطل شؤون المواطن، وتنحدر الخدمات العامة إلى أدنى مستواها. لم يعد الفساد يمارَس في السر، فها هم وزراء في الحكومة الحالية المفترض أنها متجانسة، يتقاذفون الاتهامات بعضهم للبعض الآخر بسرقة المال العام ونهب أموال الدولة، وهم محقّون كلياً في اتهام كلٍّ منهم للآخر، وهي اتهامات يكفل اتهام واحد منها الزج بهذا الوزير او بذاك في غياهب السجون، لو أن في البلاد مؤسسات قادرة على المحاسبة.
يظلل هذا الانهيار المتمادي خطاب طوائفي يشترك فيه أهل الطوائف، من ممثليها السياسيين والدينيين إلى وسائلها الإعلامية، إلى مثقفيها ومؤدلجيها. كلها ترطن بخطاب تحريضي قائم على التخوين والعمالة للخارج وتكفير الآخر، عبر استخدام لغة سوقية ومن سقط المتاع، تراكم مداميك من بناء الكراهية بين المواطنين. تصاعدت نبرة هذا الخطاب بعد اندلاع الانتفاضة السورية والمواقف المتخذة في شأنها، بحيث يرافق الخطاب تهديد بتصفية الآخر، ليس فقط سياسياً وانما جسدياً أيضاً.
يعبّر هذا الخطاب عن المستوى الضخم في تفسخ النسيج الاجتماعي، وفي حال الابتعاد الهائل بين مكوّنات المجتمع اللبناني وإمكان تلاقيها في حوار حول الحد الأدنى من القواسم المشتركة التي يمكنها أن تبقي لبنان، وطناً وكياناً ونظاماً، مما يجعل السؤال أيضاً أكثر من مشروع، حول كيفية إعادة اللبنانيين بعضهم إلى البعض الآخر بعدما أعمل الخطاب والممارسة المرافقة له على تكوين خطّين متلازمين يستحيل أن يلتقيا إلى ما لانهاية.
في ظل هذا الواقع المتردي، جاءت الانتفاضة السورية لتصبّ الزيت على نار الانقسامات الطائفية والمذهبية في لبنان، وخصوصا بعد قرار “حزب الله”، وقوى اخرى مناهضة له، الانخراط في الحرب الأهلية السورية، وربط مصير لبنان بهذه الحرب. هذا الربط للبنان كلياً بالخارج، وجعله جزءاً من الصراع الدولي والإقليمي السائد اليوم في المنطقة، يشكل اليوم أقصر الطرق التي تهدد المصير اللبناني واستحالة التلاقي بين طوائفه وفئاته الاجتماعية، وخصوصا بعدما اتخذت الحرب الأهلية السورية طابعاً مذهبياً شبه صاف، ودخول أحزاب لبنانية في هذا الصراع وإرسال قوى عسكرية تحت حجة الدفاع عن مقدسات معينة.
ما جرت الإشارة إليه يشكل عيّنة من المسار الذي يتجه إليه لبنان، وهو مسار تتراكم مقوّماته منذ سنين، وبعضه من نتائج الحرب الأهلية اللبنانية التي لم تنته فصولها أصلاً. يسأل اللبناني اليوم عن القدر المحتوم الذي ينتظره في الأشهر المقبلة، ويعلل النفس بإمكان ولادة أهلية لبنانية تسعى إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أجل ألاّ يقع المحظور، فتنعدم فرص التلاقي، وتصبح الدعوة إلى تقسيم البلاد ذات مشروعية، وخصوصاً أن هذا الحلم لم يفارق الكثير منذ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية قبل أربعة عقود.