معايشة شخصية
د. عبد الرؤوف سنّو
(الجامعة اللبنانية/ قسم التاريخ)
على عكس ما هدف إليه “اتفاق الطائف” في تعزيز الانصهار الوطني والانتماء والانفتاح بين اللبنانيين، عبر التربية والتعليم وعبر توحيد الكتاب في مادتي التاريخ والتربية الوطنية”، أشار استطلاع أُجري العام 2007، أي بعد محاولتين فاشلتين لوضع كتاب تاريخ مدرسي موحّد من قبل وزارة التربية، وقبل سنوات ثلاث من محاولة ثالثة فاشلة العام 2010، إلى أنّ نسبة (63.5%) من تلامذة مستطلَعةٍ آراؤُهم في 161 مدرسة ثانوية يشعرون بانتمائهم إلى العائلة أو إلى الطائفة الدينية، وإنّ الانتماء إلى الوطن في المدارس الرسمية بلغ نسبة (27%)، وفي المدارس العَلمانية (17%)، وفي المدارس الإسلامية (13%)، وفي المدارس المسيحية (12%).
وبعد عامين على الاستطلاع المذكور، أي العام 2009، قامت قناة “الجزيرة” بعرض فيلم وثائقي حول تدريس مادّة التاريخ في مدارس لبنان، وكان السؤال الموجّه إلى التلاميذ يدور حول استقلال لبنان. فجاءت الإجابات وفق انتماءات التلاميذ الطائفية والمذهبية، إذ اعتبر المسلمون السُنّة أنّ لبنان أصبح مستقلاًّ يوم جلا الفرنسيّون المسيحيون عنه، في حين أجاب زملاؤهم في المدارس المسيحية بأنّ الاستقلال تحقّق عندما انسحب السوريون المسلمون من لبنان العام 2005. وأجاب تلامذة في مدارس شيعية أنّ الاستقلال تحقّق يوم تحرر جنوب لبنان العام 2000 على يد المقاومة الشيعة. وعن الزعماء التاريخيّين كانت الإجابات كما يأتي: المسيحيون: نابوليون بونابرت والأمير بشير الثاني وبشارة الخوري وبشير الجميّل، والسُنّة: جمال عبد الناصر ورياض الصلح وصائب سلام، بينما اختار التلاميذ الشيعة الإمام الخميني وحسن نصر الله.
نستنتج من هذ التقديم أنه بعد مرور أكثر من عقدين على اتفاق الطائف، لا يزال انتماء الفرد والانتماء في البيت وفي المدرسة وفي العمل إلى الطائفة وإلى المذهب يتفوّق على الانتماء إلى الوطن. وهذا منطقي في ألا تُنتج مواطنة وتُزرع في الناشئة، في ظلّ دولة تقوم على نظام طائفي، وطوائف متناحرة تسعى لتمجيد تاريخها وخصوصياتها، ترك الدستور لها حرّية فوضوية في ممارسة التربية والتعليم.
تقوم الفرضية في هذه المداخل على أن مجتمعًا منقسمًا على نفسه لا يمكن أنْ يوحده كتاب تاريخ مفعم بالتعبئة الإيديولوجية والانغلاق وتضخيم الخصوصيات، في حين إنّ مجتمعًا متماسكاً وراء فكرة الوطن والدولة، في الحي وفي المدرسة والجامعة وسوق العمل وفي الحزب، هو الذي ينتج كتاب تاريخ موحّد، أو على الأقل منهجًا يُتفق عليه، ويكون التأليف مفتوحًا لمن يشاء ضمن ضوابط وطنية.
اولى محاولات صياغة كتاب تاريخ موحّد بعد توقيع “اتفاق الطائف” جرت في عهد وزير التربية بطرس حرب العام 1992. يومها وضعت لجنة مسودة لكتاب تاريخ تمّت عرقلته من بعض أعضاء الحكومة التابعين لسلطة دولة الوصاية سورية. وفي العام 2000، صدر جزءان من سلسلة “نافذتي على المستقبل” لمرحلة التعليم الاساسي. ثم أوقف العمل بها بأمر من وزير التربية عبد الرحيم مراد، بعدما تعرّض الكتابان لانتقادات سياسية. أعقب ذلك تشكيل لجنة من عشرة مؤرخين العام 2002 من قبل الوزير نفسه لوضع منهاج جديد. وما أنْ انتهت اللجنة من عملها بعد سنوات ثلاث حتى جرى “إطلاق النار” عليها من قبل الإعلام، بأنها قامت بأسلمة كتاب التاريخ وراعت الوصاية السورية على لبنان. فتوقف تنفيذ التأليف بأمر من وزير التربية الجديد سامي منقارة في أواخر العام 2004.
ومع أني شاركت في عمل اللجنة تلك وفي اللجنة الثالثة التي شكلها الوزير حسن منيمنة العام 2010، فسوف يقتصر مقالي على تجربتي في اللجنة الأخيرة، التي شُكلت، عن عمد، من مؤرخين حزبيين وبعض المستقلّين. إنّ وجود حزبيين في اللجنة كان أول مسمار دُقّ في نعش منهاج التاريخ، على عكس ما اعتقده الوزير منيمنة من أنّه سوف يُسهّل مرور المنهاج في مجلس الوزراء اللبناني. هذا الاعتقاد، بُني على أساس أنّ حكومة سعد الحريري باقية في السلطة، وإن الأحزاب والقوى الطائفية المتنافسة على الأرض وفي المؤسّسات الدستورية التي سمّت المؤرخين الحزبيين في اللجنة جادة في وضع كتاب تاريخ موحّد.
وعلى الرغم من بعض التباينات السياسية بين أعضاء اللجنة، فقد تمّ التوافق على منهاج موحّد يشمل كلّ السنوات حتى السنة الثامنة الأساسية. ولما كانت رغبة الوزير منذ البداية هي كتابة تاريخ لبنان حتى العام 2010، وأنْ يتضمّن الحرب الداخلية بين العامين 1975 و1990 وتداعياتها، والاحتلال الإسرائيلي للجنوب ومقاومة اللبنانيين له، كما مرحلة الاستفراد السوري بلبنان، والمقاومة المسيحية له، والخلافات الداخلية حول سلاح “حزب الله”، ثم اغتيال الرئيس رفيق الحريري العام 2005، و”ثورة الأرز”، وتداعيات الحرب الإسرائيلية على لبنان العام 2006، وأحداث أيار 2008، فقد ظهرت بوضوح الخلافات بين أعضاء اللجنة الحزبيّين عند وضع منهج السنة التاسعة الأساسية الذي يتناول تاريخ لبنان المعاصر حتى العام 2010.
من ناحية المنهجية وبغض النظر عن النوايا، لا يمكن تقديم كتاب تاريخ يغطي مسائل وقضايا آنية غير محسومة كانت لا تزال تتفاعل بين الأعوام 2005 و2010. كما أنّ التأريخ لأحداث آنية، كانت لا تزال تتفاعل، شكّل قنبلة قابلة للانفجار. وقد رفض الوزير اقتراح بعض أعضاء اللجنة المستقلين، ومنهم واضع المقال، ألا يتجاوز المنهاج المنتظر العام 1990، أي حتى “اتفاق الطائف” الذي توافق عليه معظم اللبنانيين، وأنْ تقتصر مرحلة حرب لبنان على أخذ العبر والدروس منها.
وعلى الرغم من أنّ الوزير منيمنة ينتمي إلى “تيار المستقبل”، وبالتالي إلى قوى 14 آذار، فقد تمكّن حينذاك من حسم الخلافات عبر تسويةٍ تنسجم مع مصالح قوى المعارضة (14 شباط)، علمًا أنه كان هناك تنسيق داخل اللجنة بين حزب الله وحركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي والحزب القومي السوري الاجتماعي. صحيح إنّ كل أعضاء اللجنة وقّعوا في النهاية على المنهاج، إلاّ أنّ البعض قال في ما بعد إنّ توقيعه عليه كان لعدم إفشال الوزير في مسعاه لتوحيد كتاب التاريخ المدرسي، خصوصًا أنه وعد بأنْ يقوم مجلس الوزراء بنفسه بتصويب الاختلالات التي سيجري لفتُ انتباهه إليها، وأُحيل المشروع إلى مجلس الوزراء بتاريخ 10 آب 2010، بعد أنْ مرّ عبر “مجلس شورى الدولة”.
دارت أبرز نقاط الخلاف داخل اللجنة حول مصطلح “المقاومة”. فحزب الله وحلفاؤه رأوا أنها لا تنطبق سوى على المقاومة ضدّ إسرائيل، بينما رأى أعضاءٌ قِلّة أنّ مناهضة المسيحيّين الوجود الفلسطيني والوصاية السورية على لبنان وأحداث الفيّاضية والأشرفية وزحلة خلال العامين 1978 و1981، وأحداث العدلية وغيرها العام 2000، هي بدورها تستحق أنْ تُوصف بأنها “مقاومة”، نظرًا إلى ما قدّمته من تضحياتٍ. ومن أجل تمرير المنهاج، وبدلًا من ذكر الحقائق والوقائع التاريخية كما هي، تحوّل المؤرخون الحزبيون في اللجنة تحت إشراف الوزير إلى قضاة يحكمون على الأحداث التاريخية، أو يحذفون عبارات ومصطلحات من هنا وهناك على أساس الوصول إلى تسوية. فلم يعد هناك مقاومة مسيحية للهيمنة الفلسطينية، ولا مقاومة للوصاية السورية، ولا شهداء من جانب مَن سقط من الميليشيات المسيحية. وبرأيي، لا يمكن لطائفة أنْ تحدّد لطائفة أخرى من هم شهداؤها أو رموزها.
وقبل أنْ يبحث مجلس الوزراء اللبناني المنهاج الجديد، سقطت حكومة الحريري في كانون الثاني 2011، وشكّل نجيب ميقاتي حكومته الجديدة من المعارضة السابقة لقوى 14 آذار، وحلّ الوزير حسّان دياب محلّ منيمنة. وعهِد مجلس الوزراء الجديد إلى لجنة وزارية دَرْس المنهاج؛ فوضعت تعديلاتٍ جذرية عليه من دون العودة إلى لجنة التاريخ المختصّة.
وعلى ما يبدو، لم تكتف القوى السياسية الحاكمة بما تحقّق في اللجنة التاريخية، بل أرادت المزيد من الانجازات. فتقدّم وزير التنمية الإدارية محمد فنيش (من قيادات حزب الله) باقتراحات لإضافة سبعٍ وعشرين قرية شيعية وسبعَ عشْرة شخصية شيعية إلى المنهاج، وجرى حذف “ثورة الأرز” ومرحلة اعتصام حزبه في وسط بيروت التجاري، وأحداث 7 أيار 2008 وتداعياتها، في حين أراد وزير الدولة علي قانصو إدخال بعض التعديلات التي تجعل أسباب حرب لبنان داخلية فحسب، وفي الوقت نفسه إبراز نضال حزبه “القومي السوري الاجتماعي” ضدّ إسرائيل في بيروت العام 1982.
وفي ضوء التجاذبات الطائفية والمذهبية والخلافات السياسية وما أكثرها خلال العام 2010، فإنّ وضع كلّ طائفة شخصيّاتِها ورموزها ومُدنها وقراها في المنهاج بشكل كيدي، بالحجم الذي أراده الوزير فنيش، كان سيخلّ بمعايير تربوية وبحجم كتاب التاريخ، ولا يؤدّي إلى ظهور كتاب وطني. فعندما تريد كلّ طائفة أنْ ترى نفسها في كتاب التاريخ الموحّد، فعندئذ تنتفي الغاية منه، ويصبح الكتاب المنشود “تاريخ الطوائف”.
وما أنْ تسرّب موضوع التعديلات الوزارية، حتى بدأ “إطلاق النار” عليها من قبل المعارضة الجديدة (14 آذار). فاعتبر النائب سامي الجميّل أنّ كتاب التاريخ هو محاولة جديدة لإلغاء “الآخر”، وتشويه تاريخ المسيحيّين وشهدائهم. وفي السياق نفسه، تظاهر طلاّب حزبَي الكتائب والأحرار ضدّ المنهاج، واشتبكوا مع رجال الأمن، ما حَدَا برئيسَي الجمهورية ومجلس الوزراء إلى طلب التريُّث في موضوع كتاب التاريخ. ولا يزال الأمر على حاله حتى اليوم.
خلاصة القول: لا يمكن في ظروف الانقسامات السياسية والطائفية التي يمرّ فيها لبنان وضع كتاب تاريخ موحّد، منهجًا وتأليًفً. لكن ترك الطوائف تدرّس في كتبها الخاصّة يزيد من حدّة المسألة الطائفية وعداء “الأنا” لـ “لأخر”. وقد أثبتت التجارب أنّ الدولة اللبنانية غير جادة وغير قادرة في موضوع كتاب تاريخ وطني موحّد، كذلك القوى الطائفية السياسية، لأنها لا تزال تختلف على الرؤية إلى الماضي، وتختلف وتتنازع أكثر على الهوية وعلى الحاضر والمستقبل، رغم التعديلات الأساسية التي لحظت هوية لبنان.
مقترحات:
لا يمكن وضع كتاب تاريخ موحّد في ظلّ التجاذبات السياسية القائمة في الوقت الراهن، ومحاولة كلّ فريق طائفي أنْ يجعل من كتاب تاريخ وطني كتابًا يعبّر عن طائفته ومصالحها التاريخية والآنيّة.
إذا كان لا بد من كتاب تاريخ رسمي موحّد، فيجب ألا يتجاوز حدوده الزمني “اتفاق الطائف” وعودة السلام إلى لبنان العام 1990. فاتقاق الطائف أجمع عليه غالبية اللبنانيين، وشكّل محطّة وفاق.
وجوب أنْ تبقى مرحلة حرب لبنان، الشديدة الخطوة على التعايش والسلم الأهلي، ضمن المنهاج، ولكن أنْ تقتصر معالجتها على أخذ العبر والدروس منها، بأنْ الحروب الأهلية تسبّب الدمار للاقتصاد وللبنى التحتية وتقضي على التعايش والتواصل المجتمعي. هذا هو المهم، وليس الدخول في تفاصيل الحرب والقتل والتهجير.
****
(*) مداخلة أُلقيت في المؤتمر السنوي الأول لـ “منتدى لبنان للتعليم”
بيروت، أوتيل الدون، 10 و11 أيار 2014.