سعي إلى المطلق ونبذ التقوقع والمحدوديّة
وتثبيت للخصوصية اللبنانية
كلود أبو شقرا
في كتابه “مبادئ الأمّة اللبنانيّة في فكر سعيد عقل” الصادر حديثًا عن دار سائر المشرق، يحاول د. نعمه نعمه الإحاطة بأفكار سعيد عقل عن الأمّة اللبنانية من خلال براهين وحجج وأسانيد علمية وتاريخية، ويتناول المفكرين الذين تأثر بهم سعيد عقل وتفاصيل أمويّته ومسارها التاريخي، وتمايزها عن غيرها من العمارات الفكريّة الأمويّة.
بث سعيد عقل أفكاره من خلال المحاضرات ونظم الشعر وتأسيس حركات سياسية وفكرية خدمة للأمة اللبنانية، فأثر في الفكر اللبناني وطبع عصرًا بكامله بشخصه وفكره وأنشأ جائزتين باسمه خدمة لهذه الأمّة اللبنانية، كما ورد في تمهيد المؤلف لكتابه، فأثارت أفكاره جدلا جعلت القراء والمتابعين يتفاعلون معها ومع شخصه سلبًا أو إيجابًا.
ينقسم الكتاب إلى قسمين: القسم الأول “المبادئ النظرية للقوميّة في لبنان عامة وعند سعيد عقل خاصة” يتناول ظهور الأفكار القومية في لبنان على اختلاف أنواعها ، والأمويّة عند سعيد عقل ومبادئها وأسسها. أما القسم الثاني “العمليّة التطبيقية في مفاهيم الأمّة اللبنانيّة عند سعيد عقل” فيتناول قومية سعيد عقل من العامّ إلى الخاص، وتجسيد أمويّة سعيد عقل في الحياة العمليّة اللبنانيّة.
المبادئ النظرية للقوميّة في لبنان
في القسم الأول يدرس المؤلف بدايات الأفكار القومية التي عرفها لبنان، بخاصة تلك التي تأثر بها سعيد عقل ، وبدايات الحركات القومية في الشرق الأوسط ولبنان وتأثير لبنان بالأفكار القومية في المشرق العربي وصولا إلى سعيد عقل وفكره القومي اللبناني، ويتوقف عند الأوائل الذين تكلموا على مفهوم القومية بالمطلق من بينهم المعلم بطرس البستاني (1819- 1883)، وأديب اسحق (1856- 1885) الذي كان أول من تكلم على “مفهوم الوطن”.
يوضح المؤلف أن الأفكار القومية تغزو لبنان منذ ما قبل الحرب الكونية الأولى من محض لبنانية إلى سورية وعربيّة وإسلاميّة، وتمايزت في ما بينها وظهرت مدارس قومية لعدد من المفكرين. أما القومية اللبنانية فشغلت المفكرين اللبنانيين وتنوعت نظرتهم إليها بتنوع ثقافاتهم واتجاهاتهم الفكرية والسياسية، وتعددت الركائز من بينها: التصور الجغرافي ومن أهم من كتب في هذا المجال جواد بولس. عنصر التاريخ ومن أهم من كتب في هذا المجال يوسف السودا وكمال الصليبي وشارل قرم. الجمع بين العروبة والإسلام، بعد الحرب العالمية الثانية، وتمسّك المسلم اللبناني باللغة العربية كتعبير عن تشبثه بالأمة العربية التي اعتبرها رابطًا عضويًّا بالعالم العربي والمسلم.
يشير المؤلف إلى أنه في مطلع القرن العشرين اعتبر كثيرون أن للبنان رسالة حضارية دائمة، وأبرز من عبر عن هذه الفلسفة شارل مالك الذي نقل لبنان من قضية اجتماعية- سياسية إلى قضية غائية. وثمة من تكلم على دور لبنان في الليبرالية الفكرية وكتحصيل حاصل الليبرالية الاقتصادية، وأول من تكلّم على هذا السند كان ميشال شيحا رائد الإيديولوجيّة الليبرالية اللبنانية بأبعادها السياسية والأخلاقية والمجتمعية والاقتصادية الماليّة والثقافيّة، فيما اعتبر كمال يوسف الحاج أنه لا يمكن للوجدان أن يعبّر عن ذاته إلا بلغة واحدة هي اللغة الأم. أما أنطون سعادة فكان من المفكرين اللبنانيين الذين أثروا في الأفكار القوميّة في المشرق العربي وكان للحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أسسه سنة 1932 امتدادات خارج لبنان.
يرى المؤلف أن سعيد عقل حرر الأموية من أن تبقى رهينة المعايير القومية الرائجة ضمن منهج العلوم السياسية، وأخرج النقاش من مستواه الاجتماعي السياسي إلى مستواه اللاهوتي- الفلسفي. وجنّد طاقاته الإبداعية في الفن والفلسفة واللاهوت وغيره في خدمة لبنان وإبراز الذاتية اللبنانيّة، وسعى إلى التمرّد على مفهوم الجغرافيا.
في فكره يستحيل الفصل بين اللاهوت ولبنان الذي منذ أن خلق كان لبنان العظيم. تغنى بأمجاد لبنان عبر التاريخ ومبدعيه معتبرًا أن مجد لبنان واحد وأي مجد لأي لبناني هو لكل لبنان. لا يرى لبنان سوى كد وعمل وإنتاج وإبداع. لم يرغب فيه أمة كسائر الأمم تكتفي بالوجود الكمّي، بل يطلب الجودوي للبنان الشريك في الحضارة وفي العطاء، ومنارة من منارات الفكر والعلم في العالم على الدوام وليس في حقبة معينة. لم يكتفِ بأن دعّم تاريخ لبنان بالمجد الإبداعي الأبدي بل نسب إليه فكرة وراثة العقل والإبداعات وجعله حاضنة للعقل. اعتبر أن تذويب لبنان في قومية محلية أو إقليمية منفصلة عن الجوهر الإنساني يذوّبه بالفعل عن جوهر وجوده وعلّته، بينما التذويب في الإنسانية العالمية تثبيت لجوهره الإنساني العالمي. من هنا يمكن القول إن سعيد عقل سعى إلى المطلق ونبذ التقوقع والمحدوديّة.
يشير المؤلف إلى أن سعيد عقل ركز على الإنسان اللبناني في المطلق كعنصر للنخبة، وهذه النخبة ليست متقوقعة ضمن جغرافيا أو عرق معين بل هدفها كل إنسان على الأرض وما وراء الأرض إذا أمكن… لم يكتف سعيد عقل بتحديد لبنان بذاته ولذاته بل خلق له علة وجود ألا وهي ضرورة وجوده من أجل محيطه الأقرب والأبعد… كذلك اعتبر اللغة عنصرًا أساسيًّا من عناصر الأمّة، فاللغة أداة العقل ومن هنا أهميتها في بناء الفكر الأموي والصورة الذاتيّة عند جماعة معيّنة.
“العمليّة التطبيقية في مفاهيم الأمّة اللبنانيّة عند سعيد عقل”
في هذا القسم يعرض المؤلف العملية التطبيقية في الأموية اللبنانية معتبرًا أن سعيد عقل أوجد أمويّة خاصة به وبلبنان استمد أساساتها من تكوين لبنان المميز وتاريخه الحضاري وعمل على أمويّة لبنانية صافية ومنفتحة في الوقت نفسه ولربما سبق في خمسينيات القرن العشرين الأمم المتحدة في مبادئها الكونيّة السمحة المنفتحة المعطاءة.
لم يشذ سعيد عقل في مبادئه الأمويّة عن المبادئ العالمية في مدرسة العلوم السياسية بل احترمها وتوقف عندها مليًا وحاول إعطاءها بعدًا آخر هو بعد العلاقة مع الله والإبداع، مع الماوراء المادة أو الجبل أو البحر وأراد الديمومة لأفكاره فاعتمد العلم والكونيّة.
يوضح المؤلف في هذا السياق أن سعيد عقل أقام معادلة بين ذاتيته (خصوصيّته) وشموليّته (إنسانيته)، فاعتبر أن خصوصيّة لبنان هي أنه إنسانيّ عالمي متحد ومتّصل بالإنسان الفرد والعالم الجماعة أو المجال الرحب، فلبنان يختلف عن دول الشرق الأوسط في أنه بلد اتصال لا بلد انفصال…
تكلّم سعيد عقل على كونيّة الإنسان اللبناني بالتالي الأمّة اللبنانيّة، ولم ينظرإلى الإنسان اللبناني كرجل حرب وصراعات وقتال وموت ودمار، بل كإنسان مغامر ومطوّع للمادة الصماء… لم ينبش الماضي والتاريخ ليستخرج منه دعائم للقوميّة، بقدر ما رسم سياسة وخريطة طريق للمستقبل، وهذه ميزته عن غيره من المنظرين للقوميّات. سعى سعيد عقل إلى الكونيّة لكنه ظل محافظّا على الروح اللبنانيّة في تطبيقاته اليوميّة لمبادئه الأمويّة، من هنا وقوفه في وجه الوجود الفلسطيني الذي اعتبره خطرًا على الروح اللبنانيّة.
حول تجسيد أمويّة سعيد عقل في الحياة العمليّة اللبنانيّة، يتوقف المؤلف عند تأسيس سعيد عقل حركات طلابيّة أو حزبية إلى أن وصل إلى حزب حرّاس الأرز وكان ملهمه وسكب فيه معظم أفكاره، بقيت علاقة سعيد عقل مع هذا الحزب عند هذا الحد الفكري فقط. في مجال الكتابة، جسد سعيد عقل مبادئ الأمة اللبنانية من خلال كتاباته الصحافية وكانت جريدة “لبنان” لسان حالها من ألفها إلى يائها، بث فيها معظم أفكاره بدءًا باللاهوت وصولا إلى مجالات الفكر كافة.
كذلك أثر سعيد عقل في الكثير من مفكّري لبنان والدول المجاورة في الشعر والأدب والفكر والفلسفة واللاهوت والسياسة، ويتوقف المؤلف في هذا السياق عند تأثير سعيد عقل في فن الأخوين رحباني وسبر غور الرابط بين هذا الفن وفكرة الأمّة اللبنانيّة، لافتًا إلى أن الرحابنة أطلقوا لقب “المعلّم” على سعيد عقل دلالة على عمق تأثيره ودالته على الأخوين المبدعين وبالتالي على أعمالهما.
أيضًا يتناول المؤلف تأثير سعيد عقل من خلال جائزتيه في الكتّاب والمبدعين اللبنانيين والأجانب في رفع شأن لبنان والبحث عن “الكلمة الملكة” التي قيلت عن لبنان، وبطبيعة الحال كل ذلك كان دعمًا للأمة اللبنانية، وكانت الجائزة التي حملت اسمه رعاية للموجة الثقافية في البلاد.
يستنتج المؤلف في نهاية كتابه أن سعيد عقل يؤمن بأن الكيان اللبناني لم ينشأ مصادفة، ولا هو مصطنع، ولا هو جزء من اي بلد عربي آخر، لأن الدول العربية كلها نشأت حديثًا كدول مستقلّة، علمًا بأن مفهوم الدولة نفسه هو حديث في المنطقة العربية، بينما لبنان عرف في تاريخه صيغة استقلالية ذاتية ضمن الإمبراطورية العثمانية، أولا عبر نظام الإمارة (1516- 1842)، ثم عبر المتصرّفية (1861- 1915) الذي انشأ نظامّا للحكم الذاتي ، في وقت كان فيه الجميع يخضعون لنظام الولاية. من هنا نراه يسخّر كل ما يملك من عمر وفكر ومال من اجل هذه الأمة اللبنانية. كان كاهنًا على مذبح لبنان أمضى حياته في الدفاع عنه ناظمًا فيه الشعر، مبشّرًا به في المدارس والجامعات. جال في العديد من البلدان معليً الصوت وممجدًا الله والعقل ولبنان.