صحافيّ شاعر… اسكندر الأدب

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

اسكندر داغر، الرجل العروف، الذي جاء الكتابة: كاتبًا وشاعرًا وصحافيًّا، زبّب قبل أنْ يُحصرم، لأنّه دخل صناعة الكلمة وهو على ثقة من نفسه بأنّه لها. فامتشق القلم وجمع الأوراق، وراح يدبّج ما تمليه عليه أفكاره وأحاسيسه وتطلّعاته ومرائيه، فأتقن اللعبة، وقد تلمذ لشيوخ المهنة آنذاك وجهابذة الأدب من أمثال: عبدالله حشيمه وجورج مصروعة، فأفاد في العام والخاص، حتى إذا استقامت له العدّة اكتملت لديه مقوّمات صناعة الكتابة، واقتحم ميدانها وهو بين الواقع والمتخيّل يقف على حدّ التفكّر بين المنطق والتجربة والمؤكَّد.

وقد أرأى (أي صار ذا رأي وعقل) فتبيّنت عنده الجواهر من الزيوف، فكان تحبيره كلمات سُوْد تبيضّ منها الطّروس في ألق الكتابة. والموضوعات مهمّة. فإذا أقبلت على قراءته شدّك وترُ النغم في ترقيم الكلام وترقينه، فلا تدري- وأنت بين الأناقة والبساطة- أيًّا منهما تسابق أختها لتدوين الفِكَر بأزين ما يمكن من بهجة للعين والأذن والعقل في تعادليّة السَّبْك مبنًى ومعنًى. ذاك أنّ اسكندر داغر قد دخل ردهة اللغة الكبرى وهو يعي مسؤوليّة الكلمة في إيراد المعنى من أجل الوصول إلى المتعة والفائدة في آن معًا.

عرفت هذا الرجل مصادفة في إحدى الندوات. وتواصلت -ثمّ- اللقاءات والجلسات والرحلات الثقافية في لبنان والخارج، فكنت أرى إليه القلم المسؤول: الشّفيف العنيف، الغضوب الهادئ، الحارّ البارد. وفي الأحوال هذه، لا يخرج عن طوره، لا يسفّ أو يتعهّر، لأنه يدرك أنّ للكلمة حرمتها، ومن الواجب الأدبيّ وخُلقيّته، أن يصون عفافها… وكان كذلك في كلّ مساره ومسيرته منذ العام 1959 حتى اليوم! وقد عركته الأيام فعركها، ووقف على ظواهرها وخفاياها، فاطمأنت إليه وارتاح معها، فكان له سِلْكه المميّز ومسلكه. قال: طريقته في جادّة البحث والحوار والنقاش والمساءلة على دربة ودراية، فلانت له “مهنة المتاعب”، إذ غدا من سادتها الأفذاذ على تعقّل ورويّة. وهو يدرك تمام الإدراك أن الكتابة متعة وفنّ وتفهيم وإفهام، على تَرف وعِلْميّة. لا أُلهيّة هي ولا عبثيّة، بل حَفْر وتنزيل في تقييد الحقيقة بمنطق فعل الكتابة الأداة… بل الغاية المُثلى في التعبير والتجويد!

iskandar-dagher

الأديب اسكندر داغر

يوم كَتَبَ عن كتابي “مزامير الورد”، استحضر الشاعر الأرمنيّ الكبير “سايات نوﭬا” (1713- 1795)، أحد أئمة الكتابة الموسيقيّة في تاريخ الشّعْر، وقد كتب باللغات: الأرمنيّة، والجيورجيّة، والأذربيجانيّة، ونُقل بعض شعره إلى اللغة العربيّة. وكان يلحّن ويعزف على الكمان. فقال اسكندر: “إنّ كلًّا من الشاعرين (سايات نوﭬا ومنيف موسى) كتبا أروع أناشيد الحُبّ والعُشق، (فكان عشوقَيْن) و”العشوق” كلمة تطلق في الأرمنيّة على مَنْ شقيَ بحبّه وراح كمن يتلهّى بشقائه ينظم عليه الشّعْر… بحسب تعبير لسعيد عقل. والفرق بين منيف وسايات، يقول اسكندر داغر، إنّ شعر سايات نوﭬا تشوبه مسحة من الحزن الجميل، بينما شِعر منيف موسى بلغ ذروة الفرح في “مزامير الورد”. الأول يعتبر نفسه غريبًا… أمّا الثاني فقد بهرته حبيبته وعالمها المسحور. وما جمعهما، أن كلا منهما “صاغ القصيدة صياغة لا من حجارة كريمة بل من شجون كريمة”.

واليوم، وقد أصدر اسكندر داغر كتابَيْه: “من العتمة إلى الضوء- شعراء لبنان من جيل إلى آخر”، و”فرسان القلم في لبنان” رفدهما بإهداء أخجلني، وحمّلني مسؤوليات جديدة في “حرمة الأدب” فكتب: “صديقي الأعزّ، رفيق العمر، الدكتور منيف موسى، صاحب الكلمة المضيئة والقلم الحرّ، الكبير في الشّعْر والنقد والبحث، والكبير في الأخلاق والإبداع…”

شكرًا، يا أخي اسكندر، أقول له، لعلّني أكون عند حسن ظنّك بي. وثق بأنّ كلماتك، عندي، ستكون كما كانت. في أعزّ مقام. وأرفع مكان. وهي بيننا حُوريَّات كتابة في شرف الإنابة.

iskandar--guilaff

وقد قرأتُ كتابَيْكَ في الشّعراء والناثرين الأثيرين. فاستمتعتُ  بهما، أسلوبًا ومبنًى ومعنًى وسَبك حوار.وأنت بجدة الحرفة. وقد أدركتكَ أصالة لا تقليدًا أو امتهانًا. فلم تكن مدّعيًا ولا معتديًا. لكأنّكَ وُلدتَ والقلم في يدك، والصحيفة فراشك، لا لعبة أو غزّارة خلّبية، ليست هي سقيمة النّبْت، ولا ركيكة البنية والقوام، بل هي كالرمح الثقيف، والقناة المقوّمة. بُريتَ من نُبل وغُمّست بالشمم. وأنت مع شعرائك والناثرين، تقف ندًّا في رمي “جريد الأدب” في مضمار البيان، ومنطق اللغة وعقل الإبداع. وقد سجّلتَ للتأريخ فصولًا من أدب لبنان، علّ أجيال اليوم- وأقولها حَذِرًا- تهتدي إليها من أجل صون المعرفة في هذا الوطن- فنردّ للهُويّة بعض ما تفقده! إن لم تكن قد…

لقد أحييتَ، يا صديقي هؤلاء الشّعراء والناثرين وأعدتهم إلى زمن أغرّ، يوم كان الشّعْر والنّثر فَرَسيْ الرّهان على المنابر وفي المجالس وحلقات الأحاديث والتنادر في فنّ القول وصناعة البيان وصياغته. وقت كُنّا في السّوانح السعيدات نطرب من نغم كَلِم، أو نشهق لعبارة لقية جاءت على آنق فصاحة في أبلغ كلام!

كتاباك، يا اسكندر، وثيقتان أدبيّتان لحركة متقنة في مسيرة الأدب- عندنا في لبنان- وسجلّان ذهبيان في صناعة الكتابة، وقد صرنا في زمن طغى فيه السخيف على الشّريف، والدخيل على الأصيل، والتشدّق على التّفقّه، والادِّعاء على العِلْم، فبات أصحاب “الدّمقس والأرجوان” في غربة عن المكان، ومنتحلو الصفات يعزفون على البيات، ويعزفون عن الثبات… والأدب في معمان السوقة إلى كساد. رحم الله الجاحظ وعبد الحميد الكاتب وابن المقفّع وابن العميد. فهات السوط والنبُّوت، تستقيم للأدب أموره وتسلم حرماته، فتستريح!

iskandar-guilaf-11

كتاباك، يا أخي، يبشران بعافية الأدب عند أربابه وكاتبيه. وأُردّد مع الناقد “ماثيو أرنولد”: “إنّ مستقبل الشْعر لعظيم”. اليوم كما بالأمس، والنثر الراقي ديوان البلاغة هو، من قَبلُ، والآن، ومن بَعدُ. وسنظلّ نكتب إلى قيام الساعة. وأقول: “أدّبني ربّي فأحسن تأديبي”…

سلِم قلمك … ولك السلام!

المنيف

اترك رد