سُنبُلَةٌ مَلْأَى، وَرَيْحانُ مَقال!   

    

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

(حَولَ كِتابِ “سَنابِلُ الغُرُوب”، لِلأَدِيبِ الدّكتُور مُنِيف مُوسَى الصَّادِرِ عام 2018)

مُنِيف مُوسَى سُنبُلَةٌ مَلْأَى، وَرَيْحانُ مَقال(1)!

تَقرَأُهُ فَيَسبِيكَ سِحْرُ بَيانِه المُعْجِزِ، وتَأخُذُكَ بَلاغَتُهُ الضَّافِيَةُ إِلى عالَمِ الكَلِمَةِ الخالِصِ، المُنَزَّهِ عن الشَّوائِب.

بِأُسلُوبِهِ السَّهْلِ فَهْمًا، العاصِي تَقلِيدًا وبَزًّا في مَيْدانِهِ، استَحَقَّ هذا المارِدُ الأَسمَرُ أَن يَستَوِيَ في رُكْنِ عَمالِقَتِنا الَّذِين تَرَكُوا بَصَماتِهِمِ مُضِيئَةً على أَستارِ كَعْبَةِ الإِبداع.

وهو النَّاقِدُ الَّذي يَعرِفُ جَيِّدًا “كَيفَ تُوْرَدُ الإِبِلُ”، فَيُعطِي “ما لِقَيصَرَ لِقَيصَرَ”، وَيَتَناوَلُ المَوضُوعَةَ بِمَحَبَّةٍ صافِيَةٍ مِن دُونِ أَن يَقْصُرَ المُعالَجَةَ على الإِطراءِ البَخْسِ الفارِغ.

فَأَن تَتَناوَلَهُ بِدِراسَةٍ عَجْلَى، إِنَّهُ، لَعَمرِيَ، أَمْرٌ جَلَل…

هذا المُبدِعُ بَحْرٌ واسِعٌ استَغرَقَ جُلَّ شُؤُونِ اللُّغَةِ، الفِكْرِ، الأَدَبِ والشِّعْرِ، فَخَرَجَت مِن شَقِّ يَراعِهِ إِبداعاتٌ ثَخِينَةٌ، تَستَدعِي الواحِدَةُ مِنها تَكَرُّسًا لِلإِحاطَةِ بِما تَختَزِنُهُ مِن فَوائِدَ وبَياناتٍ تَتَخَطَّى المُتَداوَلَ في أَحيانٍ كَثِيرَةٍ، وَجُهْدًا، لِأَنَّ السَّيرَ في مَعِيَّةِ هذا المُتَبَحِّرِ يَتَطَلَّبُ الوُقُوفَ في كُلِّ مَحَطَّةٍ لِلتَّمَعُّنِ والتَّبَصُّرِ العَمِيق.

لِذا سَنَقصُرُ كَلِمَتَنا على مَولُودِهِ الأَخِيرِ “سَنابِلُ الغُرُوب”.

هذا العُنوانُ، بِسَنابِلِهِ الَّتِي تَحمِلُكَ إِلى الحُقُولِ الذَّهَبِ، وانسِراحاتِ الرِّيحِ، وبِغُرُوبِهِ على القِرْمِزِ الذَّاوِي، وجُلَّنارِ الأُفُقِ، هو، بِذاتِهِ، مِنَ القَصائِدِ القِصار. أَلَيسَ فِيهِ تَكثِيفُ الشِّعرِ، وتَحرِيكُ الخَيالِ، والصُّورَةُ المُتَأَلِّقَةُ، والنَّغَمُ المُلازِمُ لَفظَتَيه؟!

لَقَد بَدَأَ السُّكْرُ ولَمَّا نَزَلْ في العَتَبَةِ، فَهَيَّا بِنا إِلى الدَّاخِلِ، فَالجِمارُ المُتَوَهِّجَةُ على أَشُدِّها، والنَّبِيذُ يَنبُضُ بِشَوقِ اللِّقاء!

mounif moussa

***

كِتابَتُهُ تُغنِي القارِئَ بِما تُزَوِّدُهُ مِنَ المَعلُوماتِ القَيِّمَةِ، وَالإِيحاءَاتِ الذَّكِيَّةِ الَّتي تَحُثُّ المُتَلَقِّي إِلى السَّعْيِ أَكثَرَ في المَظانِّ القَرِيبَةِ وَالبَعِيدَة. إِلى الاستِشهاداتِ تَأتِي في أَماكِنِها الدَّقِيقَةِ إِثْراءً لِلنَّصِّ، وتَدعِيمًا لِلرَّأْيِ المَطْرُوحِ، وإِنارَةً لِلحَلَكِ الغائِمِ في فَضاءِ الآراءِ المُتَضارِبَةِ، أَو المُتَذَبْذِبَة. ناهِيكَ مِن طَرائِفِ النَّظَرِيَّاتِ الَّتي تَمَخَّضَت عَنها عَبقَرِيَّاتُ الأَجيال.

على عادَتِهِ في قَوْلِ الحَقِّ “وَلَو كَرِهَ الكارِهُونَ”، وبِصَراحَتِهِ المَعهُودَةِ الَّتِي قَد يَراها مُتَطَفِّلُو الأَدَبِ، ودُعاةِ الحَداثَةِ المَغْلُوطَةِ، وَقاحَةً، وتَقصِيرًا عَن مَوكِبِ التَّطَوُّرِ السَّائِرِ قُدُمًا، فَإِنَّ لِهذا الأَدِيبِ المُتَمَيِّزِ مَواقِفَ حَسْمٍ، ورَأْيًا قاطِعًا في ما يُسَمُّونَهُ “الشِّعْر المَنْثُور” – وفي ذا التَّسْمِيَةِ ما فِيها مِنَ الغَرابَةِ – وهو، في مُعظَمِ ما قَرَأْنا، كَلِماتٌ مَذْرُورَةٌ كَأَنْ بِفِعْلِ رِيحٍ هَوْجاءَ، لا تَأْتَلِفُ في نِظامٍ، ولا تَنضَوِي في دَلالِيَّةٍ، ولا تَتَرَنَّحُ في غِنائِيَّة. يَقُول: “وَهَل ما يُكتَبُ اليَومَ في غَمْرِ النَّشْرِ والنَّشْرِ؛ وما يُدَّعَى أَنَّهُ شِعرٌ وتَحدِيثٌ؛ أَو حَداثَةٌ وتَغيِيرٌ، هو، في الشِّعْرِ شَيْء؟ أَلَا، إِنَّ الشَّيْءَ هذا، هو، لا شَيْء” (ص 11).

ألحَداثَةُ، على رَأْيِ صاحِبِنا، “ضَرُورَةُ تَطَوُّرٍ شَرْطَ الأَصالَةِ، وشَرْطَ الفَرادَةِ، وشَرْطَ مَعرِفَةِ اللُّغَةِ وأَدواتِها وأَسالِيبِها” (ص 14).

ولَقَد أَصابَ في قَوْلِه: “فَالكَلِماتُ المَعزُولَةُ وَحدَها، أَو الَّتِي لا يَرتَبِطُ بَعضُها بِبَعضٍ، كَما لَو كانَت مُستَخرَجَةً مِن حَقِيبَةٍ، لا يُمكِنُ أَن تَصنَعَ قَصِيدَة” (ص 12). كَما أَنَّ “قِيمَةَ الكَلِمَةِ تَكُونُ في نَغَمِها وصَوتِها وإِيحاءاتِها وإِشعاعاتِها المُوسِيقِيَّةِ والمَعنَوِيَّةِ الَّتي تَنبَعِثُ مِن جَرْسِها قَبلَ أَن تَكُونَ في مَعناها أَو فِكرَتِها أَو مَضمُونِها” (ص 68).

وقالَها مارُون عَبُّود: “آفَةُ الشِّعْرِ أَن يَطْمُوَ فِيهِ النَّثْر؛ والشِّعرُ الَّذي هو كَالنَّثرِ الجَيِّدِ لَيسَ بِشِعْر”(2).

  شاعِرُنا أَصِيلٌ بِكُلِّ ما خَطَّ، وأَصالَتُهُ الأَصالَةُ الحَقَّةُ، ودَعْوَتُهُ مُبِينَةٌ صارِمَة: “أَلكلاسِيكِيَّةُ، لَيسَت إِلى انتِهاءٍ، هي حُضُورٌ دائِمٌ في الذَّاكِرَةِ الفَنِّيَّةِ، وفي التُّراثِ العالَمِيّ” (ص 13). ولا يَرمِي الرَّجُلُ كَلامَهُ على عَواهِنِهِ، فهو القَلَمُ المَسؤُولُ، يَعرِفُ جَيِّدًا وَقْعَ رَأيِهِ في السَّاحَةِ الأَدَبِيَّةِ، وكَم مِنَ المُتَتَبِّعِينَ لِما يَكتُبُ، إِمَّا تَشَوُّفًا إِلى مَعرِفَةٍ أَوسَعَ، أَو تَرَبُّصًا لاقتِناصِ ضَعْفٍ وقد فاتَهُم أَنَّهُ “لا يُزاحَمُ في المَضِيقِ” على حَدِّ قَوْلِ أَدِيبِنا الكَبِيرِ مارُون عَبُّود.

نَعَمْ… هو لَيسَ مِمَّن يَعبُرُونَ وَلا مَنْ يَأْبَهُ، بَل هو الرِّيحُ تُحَرِّكُ في مُرُورِها الحَقْلَ سَنابِلَهُ ودَوْحَهُ والغُدْران. وهو الأُستاذُ الكَبِيرُ الواعِي كُلَّ الوَعْيِ قَوْلَ الجاحِظِ: “الجاهِلُ مَعذُورٌ، والعالِمُ مَحجُوج”!

وفي أَيَّامِنا هذه حيثُ يُرَوِّجُ بَعْضٌ مِمَّن فاتَتهُم آفاقُ الشِّعرِ وذُراهُ مَوتَهُ وانِقِراضَهُ واعتِبارَهُ بِضاعَةً كاسِدَةً، وراحُوا يُسَوِّقُونَ عُزُوفَ الذَّائِقَةِ العَصْرِيَّةِ عَن تَخيِيلاتِهِ، يَضَعُهُ صاحِبُنا في أَسمَى المَراتِبِ، فَيَرفَعُهُ سامِيًا عن تَخَرُّصاتِهِمُ الوَضِيعَةِ، وَيَبُزُّ بِهِ مُجْمَلَ الفُنُونِ وضُرُوبِ الفِكْرِ، فَقال: “أَلشِّعرُ فَنٌّ صَعْبٌ، ونَوعٌ أَدَبِيٌّ جَلِيلٌ […] والشِّعْرُ عَقْلٌ وحِكْمَةٌ وفَلسَفَةٌ وفِكْرٌ وعاطِفَةٌ ووِجدانٌ وصُورَةٌ وكَلِمَةٌ ورَمْزٌ وإِيحاءٌ وخَيالٌ وصِناعَةٌ  […] ومَعرِفَةٌ وإِبداعٌ، وتارِيخٌ، وَخَلْق” (ص ص 285، 143، 199).

***

في “بانُورامِيَّتِهِ”، (ص 17)، عَنِ المَشهَدِ الشِّعرِيِّ في لُبنانَ، يُكَثِّفُ مُوسَى عُقُودًا طِوالًا في صَفَحاتٍ مَعدُوداتٍ، وما ذلك عَن عَجْزٍ مِنهُ أَو ضَنٍّ، بَل لِأَنَّها مُحاضَرَةٌ مَحكُومَةٌ بِوَقتٍ مُحَدَّدٍ، وجُمهُورٍ على المُحاضِرِ أَن يُراعِيَ التَّفاوُتَ بَينَ شَرائِحِهِ ومُستَوَياتِه. وَلَم يُضِرَّ التَّكثِيفُ بِالرُّؤْيَةِ العامَّةِ، فَصاحِبُنا ابْنُ بَجْدَتِها، وهو الأَكادِيمِيُّ المُخَضْرَمُ، والبَحَّاثَةُ الحَصِيفُ، الَّذي تَفَيَّأَت بِدَوْحَهُ أَجيالٌ مِنَ المُتَلَقِّنِينَ، يَحفَظُونَ عَنهُ أَعطَرَ الذِّكرَى، وأَطيَبَ الجَنَى. كما لَم يَترُكْ – التَّكثِيفُ  – شُرُوخًا تُشَوِّهُ المَشهَدَ، ولا استَدْرَجَ المُؤَلِّفَ إِلى استِنسابِيَّةٍ تُجْحِفُ بِبَعضِ مَن طَوَتهُمُ الحِقْبَةُ المَدرُوسَة. فَإِنَّهُ حَيثُ رَأَى السُّرعَةَ ضَرُورَةً مَرَّ كَهَبِّ نَسِيمٍ ناقِلًا أَرَجَ الدَّرْبِ على جَناحِهِ، وَحَيثُ استَدعَتِ الحالُ إِطالَةَ المَقالِ ما قَصَّرَ مُثَبِّتًا رَأيَهُ بِشَواهِدَ وأَمثِلَةٍ، فَإِذا قارِئُهُ في هَناءَةِ بالٍ، وخاطِرٍ مُطَيَّب.

وقد طَغَى التَّأْرِيخُ على مَشهَدِيَّتِهِ، وغابَ النَّقدُ، فَلَم يُدْلِ صاحِبُنا بِدَلْوِهِ في أَيَّةِ ظاهِرَةٍ أَدَبِيَّةٍ أَو شِعرِيَّةٍ نَبَتَت في رُبُوعِنا، وسارَ في رِكابِها رُوَّادٌ كُثُر.

وَلِأَدِيبِنا، في خِتامِ عَرضِهِ، رَأْيٌ قَيِّمٌ في الشِّعْرِ قَد لا يَرُوقُ لِأَصحابِ نَظَرِيَّةِ “الأَدَبِ المُلتَزِمِ”، فَيَقُول: “إِنَّ الشِّعْرَ الأَبقَى هو شِعرُ الحُبِّ، الشِّعرُ الإِنسانِيُّ، شِعرُ الإِنسانِ في كُلِّ زَمانٍ ومَكان” (ص 35).

وَلا يَترُكُنا شاعِرُنا نُنهِي رِحلَتَنا الشَّيِّقَةَ مع قَلَمِهِ السَّيَّالِ إِلَّا وقد زَوَّدَنا بِصُورَةٍ كالِحَةٍ سَوداءَ عن واقِعِ الشِّعْرِ والأَدَبِ في أَيَّامِنا هذه حَيثُ “الشِّعْرُ في وادٍ والنَّاسُ في وادٍ آخَر. إِلى هُبُوطٍ في الذَّوْقِ العامِّ، وتَرَبُّعِ الخُلَّبِيَّةِ قاعِدَةً، والشَّاذِّ أَصالَة” (ص 34). على أَنَّنا نُبَرِّئُهُ مِن مَسؤُولِيَّةِ تَكدِيرِ مِزاجِنا، فَالواقِعُ المَرِيرُ حَلَّ مَحَلَّ الأَيَّامِ المُضِيئَةِ، فَحَتَّمَ على مَن تَهَجَّدُوا لِلكَلِمَةِ أَن يَقِفُوا على أَطلالِها كاسِفِين. ويَعُودُ فَيَنتَفِضُ، مُنتَصِرًا لِلشِّعرِ “فَهوُ قادِرٌ على إِنقاذِنا” (ص 34)، “وَلا خَلاصَ إِلَّا بِهِ” (ص 35).

ونَحنُ نُثَنِّي على رَأْيِهِ ما دامَت خَمائِرُ الخَيرِ مَوجُودَةً في المَعاجِن.

وحَتَّى لَو ضاقَت عن قَلَمِهِ مِساحَةُ الكَرِّ والفَرِّ، فَإِنَّهُ قادِرٌ، في العُجالَةِ المُتاحَةِ، أَن يُوَفِّيَ مَوضُوعَتَهُ حَقَّها وَلَو كانَت فَيْحاءَ مُتَشَعِّبَةَ المَداخِلِ، كَما فَعَلَ في تَناوُلِهِ لِشاعِرِ القُطْرَينِ خَلِيل مُطران، مِثالًا.

وفي تَناوُلِهِ الأَدِيبَ أَمِين نَخلَة مع بَعضِ الذِّكرَياتِ مَعَهُ (ص 59)، يُسَلسِلُ الجَمالَ عِباراتٍ مَسكُوبَةً مِن لُجَيْنٍ، مُحبُوكَةً حَبْكَ الزَّرَدِ، تَحمِلُ مُوسِيقاها في تَآلُفِ أَلفاظِها، وغَناءِ مَدلُولاتِها، لَكَأَنَّهُ استَعارَ مِن شاعِرِ الجَمالِيَّةِ المُرهَفَةِ، وأَمِيرِ الصِّناعَتَينِ، مِدادَهُ لِيَكتُبَ فِيهِ، فهو الأَنِيقُ الأَرِستُقراطِيُّ الحَقِيقُ بِالاحتِفالِ مَتَى حُشِرَتِ الأَقلامُ إِلى المِيزان.

مُنِيف مُوسَى يُدرِكُ جَيِّدًا كَيفَ يُلْبِسُ الحالَةَ لَبُوسَها الزَّاهِيَ المُتَناسِقَ مع شَأْوِها ومَنزِلَتِها والأَلوان.

ويُعَرِّجُ على بُولُس سَلامَة وسَعِيد عَقْل (ص71)، فَيَقتُلُ مَوضُوعَهُ بَحْثًا، واستِقصاءً، واستِخراجَ دُرّ. وفي بَراعَةٍ، يُشْهَدُ لَهُ بِها، يَسِيرُ في تَوازٍ مَضْبُوطٍ على جادَّتَي هذَينِ العِملاقَينِ، “فَيُوفِي المِكيَالَ والمِيزانَ بِالقِسْطِ ولَا يَبخَسُهُما جَهْدَهُما”(3). كَما يُشبِعُ القارِئَ مِن طَرِيفِ قَولِهِ، وشَهِيِّ قُطُوفِه. إِنَّهُ المُنَقِّبُ الماهِرُ، والنَّقَّادُ البَصِيرُ، يَعرِفُ، بِالبَحْثِ والسَّلِيقَةِ، مَناجِمَ الماسِ، ومَنابِعَ الكَوْثَر.

لَقَد أَجادَ كُلَّ الإِجادَةِ في تَكثِيفِ النَّواحِي الَّتي تَعَرَّضَ لَها عند شَاعِرَينا الجَلِيلَينِ، فَبَرَزَ قامَةً سامِقَةً في النَّقْدِ والتَّحْلِيلِ، فَعِلْمُهُ ثاقِبٌ، وانطِباعُهُ لا يُخطِئُ سَواءَ السَّبِيل.

ويَطُولُ الكَلامُ على أَئِمَّةِ الكَلامِ عِندَ كاتِبِنا، فَلا يَنسَى، في تَجوالِهِ، شاعِرَ الأَرزِ شِبْلِي المَلَّاط، شاعِرَ غَلْواءَ الياس أَبُو شَبَكَة، شاعِرَ “مَواعِيد” صَلاح لَبَكِي، الشَّيخَ العَلَّامَةَ ابراهِيم المُنْذِر، ناسِكَ الشّخْرُوبِ مِيخائِيل نُعَيمَة، شاعِرَ العِراقِ الأَكْبَرَ مُحَمَّد مَهْدِي الجَواهِرِي، أَدِيبَةَ الصّالُونِ الأَدَبِيِّ الأَشهَرِ مَيّ زيادَة، قِيثارَةَ لُبنانَ “الأَخَوان رَحبانِي”، أَمِيرَ العِزَّةِ اللُّبنانِيَّةِ فَخْر الدِّين المَعنِيِّ الثَّانِي، صاحِبَ “الرَّغِيفِ” تَوفِيق يُوسُف عَوَّاد، وغَيرَهُم وغَيرَهُم، يَرُودُ أَصقاعَهُم بِرِيشَتِهِ المِبْضَعِ، مِن دُونِ أَن يُكَرِّرَ في أَحَدِهِم ما سَطَّرَهُ في الآخَر. وكَيفَ لا… وهو الغَدِيرُ الجارِي، لا يَأْسُنُ فِيهِ ماءٌ، أَو تُستَعادُ مَوْجَة. فَكانَ كِتابُهُ، بِحَقٍّ، مَجْمَعَ مَعرِفَةٍ وتارِيخٍ وجَمال.

وقد كانت لَهُ، في مُطَوَّلَتِهِ عن “الأَخَوَين رَحبانِي” (ص 189)، جَولَةٌ مُنَخَّلَةٌ مُمَحَّصَةٌ في اللُّغَتَينِ الفُصحَى والعامِّيَّةِ، تُرضِي القارِئَ، على مُستَوَياتِهِ الثَّقافِيَّةِ المُتَفاوِتَةِ، بِخُلاصاتٍ مُكَثَّفَةِ الدِّيباجَةِ ثَرَّةِ المَضمُونِ تُغْنِي وتُمْتِعُ، وهو أَمْرٌ قَلَّما نَحظَى بِهِ في عُصاراتِ الأَقلامِ في عَصْرِنا الجافِّ الأَجْوَف.

وَلِلَّهِ دَرُّه… هو صاحِبُ الرِّيشَةِ العَذْبَةِ، إِنْ تَأَوَّهَ على صاحِبٍ فَالمِدادُ سَخِينٌ سُخُونَةَ الدَّمعِ، والأَلفاظُ كِنَّارَةٌ تُرَدِّدُ الحُزنَ في حَنايا السُّطُور. إِنَّهُ أَمِيرُ الوَفاءِ وإِلْفُهُ ونَجِيُّهُ، ما خَبا يَومًا في حَضْرَةِ الأَسَى، ولا انكَفَأَ أَمامَ جَبَرُوتِ الحُزْن. يَقُولُ في وَداعِ صَدِيقِهِ الشَّاعِرِ مُحَمَّد الفَيْتُورِي: “رَحِيلُكَ فاجِعَةٌ وفَجِيعَةٌ، وفَجْرُكَ دامِيًا كانَ، ونَهارُك! […] وَسِّدْ رَأسَكَ شِلْحَ أَرْزٍ، وَخُذِ الزَّنبَقَ كَفَنًا، ونَعْشكَ مِن أَوراقِ الشِّعْرِ، وَضَّاء” (ص ص 278، 281).

مُنِيف مُوسَى…

مُعَلِّمٌ كَبِيرٌ تُرفَعُ لِذِكْرِهِ الأَنخابُ، ويُقْصَدُ إِمَّا التَقَتِ الفَوارِسُ في حَلَباتِ الفِكْرِ والأَدَبِ والإِشراق.

***

يَقُولُ فَرنسِيس بِيكُون(4): “هُنَاكَ كُتُبٌ تَستَحِقُّ أَن يَذُوقَهَا القَارِئُ، وَكُتُبٌ تَستَحِقُّ أَن يَلتَهِمَهَا، وَكُتُبٌ تَستَحِقُّ أَن تُمْضَغَ وَتُهْضَم”.

“سَنابِلُ الغُرُوب” مِنَ الصِّنْفِ الأَخِير. فَإِلَيهِ يا عُشَّاقَ الكَلِمَةِ الرَّاقِيَةِ والفِكْرِ المَكنُوزِ، وَلَن تَعُودُوا مِنَ الرِّحلَةِ بِأَقَلَّ مِن سِلالِ الأَطايِبِ، وقُفْرانِ الشَّهْد!

لَقَد عَرَّى صاحِبُنا، بِمُصَنَّفِهِ هذا، كَثِيرًا مِنَ القَراطِيسِ تَغُصُّ بِها الرُّفُوفُ، وتَغُصُّ بِها الحُلُوقُ وجازَفَت بِالقِراءَة. فَأَلفاظُهُ الجَزْلَةُ، صُوَرُهُ الزَّاهِيَةُ، إِحالاتُهُ الذَّكِيَّةُ، أَناقَةُ الوَشْيِ في رَصْفِهِ وأُسلُوبِهِ، بَيانُهُ النَّقِيُّ، والتَّرابُطُ المُحْكَمُ في مَفاصِلِ نَصِّهِ، كُلُّها تَجعَلُ اللِّحاقَ بِهِ في حَلْبَةِ الكِتابَةِ مِن عَسِيرِ الأُمُورِ على السِّيقانِ الخَشَبِيَّةِ، والرُّؤَى الضَّامِرَةِ، وتَكشِفُ عَوْراتِ مَن يَتَلَطَّوْنَ وَراءَ الكَلامِ المُنَمَّقِ إِهابًا، الواهِي مَضْمُونًا، لِيُضَلِّلُوا الكَثِيرِين.

قال شاعِرٌ:

إِذا جاءَ مُوسَى وأَلقَى العَصَا          فَقَد بَطُلَ السِّحْرُ والسَّاحِرُ

لَقَد صَحَّ في “مُوْسانا” ما قُلتَهُ في “مُوْساكَ”، فَكَفَيْتَنا مَؤُونَةَ القِتال!

***

قالَ الشَّيْخُ الأَكْبَرُ مُحْيِي الدِّين بِنْ عَرَبِي: “قِيمَةُ العُمرِ ما يُكتَسَبُ فِيه”.   

مُنِيف مُوسَى…

وَلَو “تَرَهَّلَ جِسمُكَ، فَعَقلُكَ في رَيَعانٍ” (ص 147)، وعُمْرُكَ غالٍ وَقَد ناءَت قَوافِلُكَ بِأَحمالِها مِن خَيراتِ العُصُورِ الخَوالِي، ومُفَلَّذاتِ المُبدِعِين!

لَقَد أَعطَيتَ وأَجزَلتَ العَطاءَ، ورَفَدْتَ المَكتَبَةَ العَرَبِيَّةَ بِما يَبقَى ذُخْرًا نَعُودُ إِلَيهِ في ساعاتِ العَطَشِ المَعرِفِيِّ فَنَرْوَى، فهو النَّبْعُ المَعِينُ لا يَنْضُبُ ماؤُهُ ولا يُستَنْفَدُ، والأَنِيسُ الرَّافِدُ أَبَدًا لِكُلِّ خَيْرٍ.

دَعَوتَها، وَلِيدَتَكَ الأَخِيرَةَ، “سَنابِلُ الغُرُوب”… حَنانَيْك! هي سَنابِلُ حَبالَى بِحَبِّ الخَيْرِ، تَزِينُ حُقُولَ الكَلِمَةِ بِالنُّضارِ مُنْداحًا في المَدَى، وتُغازِلُ الأَنْسامَ فَالأُفْقُ ناياتٌ، والضُّحَى دِفْءٌ ونُوْرٌ وصُداح!

في نَفِيرِ الأَدَبِ والشِّعْرِ “أَلمَدعُوُّونَ كَثِيرُونَ، أَمَّا المُختَارُونَ فَقَلِيلُون”(5)، ولا نَراكَ إِلَّا في النُّخْبَة.

أَلَا دُمْتَ، ودامَ بَدْعُكَ… وَلَأَنتَ مِنَ “الَّذِينَ إِذَا أَلَمَّت مِنَ الأَيَّامِ مُظلِمَةٌ أَضَاؤُوا”(6)!   

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1): ورَيْحانُ الشَّبابِ يَعِيشُ يَومًا     ولَيسَ يَمُوتُ رَيْحانُ المَقالِ ‌ (عَبد الصَّمَد بنِ المُعَذَّل)

(2): – (مارُون عَبُّود، المَجمُوعَة الكامِلَة، المُجَلَّد 5، “دمَقْس وأُرجُوان”، ص 272)

   – (طَما الماءُ: ارتَفَعَ / طَما النَّبْتُ: طَالَ / طَمَا بِهِ الهَمُّ: اشتَدَّ)

(3): ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا المِكيَالَ وَالمِيزانَ بِالقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرضِ مُفسِدِينَ﴾

                                                          (القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ هُوْد، الآيَة 85)

(4): فَرنسِيس بِيكُون Francis Bacon، فَيلَسُوفٌ وَرَجُلُ دَولَةٍ إِنكلِيزِيٌّ، 1561 – 1626.

(5): “إِنَّ المَدعُوِّينَ كَثِيرُونَ، أَمَّا المُختَارُونَ فَقَلِيلُون”   (إِنجِيل مَتَّى 22/8-14)

(6): هُمُ القَومُ الَّذِينَ إِذَا أَلَمَّت        مِنَ الأَيَّامِ مُظلِمَةٌ أَضَاؤُوا (الحُطَيْئَة)

neaaaaaa

اترك رد