قراءة في ” الموائد المفتوحة” للأديب شربل شربل

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

يعتمد الكثيرون في مجتمعاتنا الشرقيّة عمومًا، والعربيّة واللبنانيّة خصوصًا، على الموائد كوسيلة لإقامة ارتباط بين أشخاص أو مجموعات أو جمعيّات. فهذه الوسيلة التي تمرّ عبر البطن، تسهّل، بلا شكّ، التبادل على أنواعه بفضل الرضى الذي تتركهلدى المدعوّين من أصحاب المال، وأصحاب الفكر، الذين سيبذلون ما لديهم، أو بعضه، مقابل هذا الرضى.

وليس خافيًا أيضًا أنّ الموائد التي تفتح الشهيّة على الأكل، تفتح الشهيّة كذلك على أشياءأخرى. لذلك يبذل منظّموها الكثير في سبيل الإغناء طمعًا في الإغواء.

ومقدّمة حديثنا هذه تقودنا إلى كتاب الأديب شربل شربل :” الموائد المفتوحة”، وتطرح أمامنا دعوته هذه. فما هذه الموائد المفتوحة؟ وما تأثيرها؟

أسارع إلى القول أنّ مقاربتي هذه ليست بحثًا فلسفيًّا في مضمون ” الموائد”، ولا معالجة ألسنيّة تتقصّد الصناعة، وإنّما هي تعبير عن انطباعاتي إزاء قراءتي هذا الكتاب.

تناولت الكتاب، وحملت شهيّتي وقصدت الفهرس، فإذا الكلمات تقول لي : هيّا بنا في رحلة تذوّق حرّة، متنوّعة الأطباق. وفي جولة واسعة، وسع الكون، وقعت في حالتين، كلتيهما على قدر كبير من المتعة؛ واحترت في أمري: أللأولى أستسلم أم للثانية؟

في الأولى، ترود “موائد” شربل فيأسرك أسلوبه، وتروح تنتقل من مقطع إلى آخر بسلاسة ومتعة، وترى الصفحات تكرج تحت نظرك. ذلك ما حدث لي، فلم أملك حيلة أمام تسارع الصفحات، وصرت أستمهل الكلمات والسطور، وأعيد وأستعيد قراءتها، تمامًا كما يستزيد من ذابت في حلقه لقمة لذيذة، فأحبّ إطالة طعمها أو تجديده قبل الانتقال إلى سواها.

والحالة الثانية تحملك على جناح الفِكَرِ، وتطير بك إلى آفاق العقل في طرقات محدّدة، سهلة القيادة، واضحة المعالم، سديدة الحجّة. وهنا أيضًا كان يعجبني الوضوح فأستمرئه وأعود أدراجي، وأزور الأطباق من جديد، أو أملأ كأسي مرّة أخرى ومرّات، لأحتسي وأمزّ خمرة مميّزة لا يجوز إهانتها بكرعة واحدة. وخمرة شربل معتّقة تستأهل أن تطيل ارتشافها من كأس بلّوريّة، لا تعرف المعطوبيّة.

610

بكلّ هذه المتع، وجدت “الموائد المفتوحة” مفتوحة فعلًا على الجغرافيا. كنت وأنا أقرأها مسافرًا بين فرنسا( معBeregovoyPierre) ولبنان. وبين أميركا وكينيا وجنوب أفريقيا والحبشة، مع أوباما ومانديلا وعنترة، في اختبارات إنسانيّة يتماثل فيها الإنسان أينما كان. وكنت أستعيد في مخيّلتي بعض مناطق لبنان، بين الجنوب وكسروان، وربطًا بها، مناطق شوفيّة وشماليّة، إمّا لتشابه الخبرة، وظروف المائدة الممدودة، وإمّا لتناسب بعض المناظر أو المآكل أو النوازل.

وموائد شربل مفتوحة أيضًا على الزمن، فأنت تنطلق من اليوم لاستطلاع ذكريات عمرها بضع عشرات السنين، بين أيّام الدراسة وأيّام النضوج؛ أو بضع مئات السنين، فتستعيد أيّام الجاهليّة في بلاد العرب، أو عصر الفروسيّة في القرون الوسطى الأوروبيّة، مربوطًا بأيّامنا الحديثة، أو سوق الرقيق في بعض أزمان لاحقة. وتشعر بذلك أنّك تستسيغ موائد غنيّة حملت إليك كنوزًا شتّى، لا سبيل أمامك إلى رفض أيّ طعم منها حتّى ولو كان على شيء من المرارة.

ثمّ يشوقك صوت الما وراء، وهو منطقة عصيّة على الفكر، فإذا المقابلة مع جبران تثير موضوعات شائكة، منها الحرب والعدالة، والسلم والظلم، وسواها.

حقًّا، إنّها موائد مفتوحة على الأبديّة، تستنطقها حكمة، لعلّ فيها ما يريح تعجّب المفكّروتحيّره أمام ما يحدث له في حياته.

ترى في هذه الموائد انفتاحًا على الإنسانيّة كلّها ومشاكلها ومشاغلها؛ بدءًا بأصول الإنسان ومشكلة الترقّي، مرورًا بالأبحاث الأدبيّة والفنّيّة، وصولًا إلى ” قيمة الإنسان” إبّان عمله أو في مرحلة تقاعده.

غير أنّ الأستاذ شربل لم يُغفل بشكل خاصّ محطّة مهمّة في اصطراع الفِكَر، وهي ما أسماه” حوار طرشان”. ويقع هذا الحوار في الصفحة 77، أي في حوالي ثلث الطريق بين أوّل مائدة وآخر مائدة. وقد شعرت بأنّ هذا الحوار يختصر معاناة طويلة خبرها شربل طوال عمره المهنيّ وغير المهنيّ؛ وربّما كان حوار الطرشان هذا، من أكثر ما يتقنه اللبنانيّون أنفسهم في مختلف فئاتهم ومشاربهم. أرى أنّ موقع هذا الحوار من الكتاب موقع مركزيّ يدلّ على همّ مستمرّ لدى أديبنا، وهو همّ إيجاد نقطة تلاقٍ على شيء ما يصلح لوثبة نحو المستقبل.

وفي خضمّ هذه الحالة السلبيّة، أو في استعراض الحالات الإنسانيّة كالعبوديّة والظلم، والانتحار والإعدام، والفساد والاغتراب وسواها، يجد شربل سبيلًا إلى اقتحام الفرح لينشره على كلّ من يشارك في موائده. إنّه التحلية (le dessert) فكما أنّ الموائد تختتم عادة بالتحلية، هكذا موائد شربل.

إنّها القاعدة، ولا يجوز خرقها. غير أنّ شربل لا يصطنع شيئًا، إنّه يتقن فنّ تقديم الأطباق، وتتكفّل روحه المرحة بتأمين هذه الحصّة. فكّلما ثقل طبق على الهضم أو كاد، سارع شربل إلى تأمين جرعة من الظرف أو السخرية، تبدّد الثقل، وتنقل المتذوّق إلى ارتياح يعيد فتح الشهيّة من أجل المتابعة، مثل نهاية قصّة “زنود الستّ” أو ماء النخالة في ” الموائد المفتوحة” أو اقتراح وضع صورة القرد على العملة، وكثيرة هي هذه الجرعات.

وأختم فأقول إنّ شربل نجح في إغوائي بموائده، وأنصحكم بألّا تحجموا عن هذه الغواية، لأنّكم ما أن تبدأوا بزيارة موائده حتّى تأتوا على كلّ ما فيها، بدون غصّة أو حاجة إلى شربة ماء، وبدون أيّ إحساس بعسر الهضم. فقد تكفّل هو بسهل الكلام وسلس التعابير لإرضاء الروّاد.

هنيئًا لكلّ المدعوّين إلى الموائد المفتوحة. وشكرًا شربل شربل.

3\3\2019

****

(*) “الموائد المفتوحة” نثريّات – شربل شربل.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك رد