بين أمير الطرب محمد عبد الوهاب وأمير الشعراء أحمد شوقي يكتمل الفنّ والشعر. فقصائد شوقي المغناة من أجمل ما غنى عبد الوهاب. ولعبد الوهاب عدّة ألقاب من بينها كروان الشرق، ومطرب النيل، والبلبل، ومطرب الصبا والجمال، وموسيقار العرب وغيرها من الألقاب.
وقد غنى محمد عبد الوهاب للعديد من رموز الشعر العربي سواء في الشعر العربي الفصيح أو الشعر العامي كصفي الدين الحلي، وخليل مطران، وإيليا أبي ماضي، وإبراهيم ناجي، ونزار قباني، وأحمد رامي، وبشارة الخوري، وبيرم التونسي، وسيد درويش، وجورج جرداق، وحسين السيد، والأخوين رحباني، ومأمون الشناوي، ومحمود حسن إسماعيل وغيرهم من الشعراء المرموقين.
لكن علاقة محمد عبد الوهاب بأمير الشعراء أحمد شوقي كان لها كبير الأثر على حياته الفنية. فقد كان شوقي بمثابة الأب الروحي لمحمد عبد الوهاب. إذ فتح له أبواب الشهرة. وكان شوقي “يعامله كولد من أولاده، لا يبخل عليه بالنصيحة والرعاية والاهتمام، حتى إنه خصّص له غرفة في بيته، عدا عن أنه كان يرافقه في بعض الأحيان ليحضر بعض البروفات وإذا حصل فراق كان “شوقي” يمرّ بعربته على بيت “محمد” في العباسيّة ليصحبه معه إلى مكتبه، ثم يذهبان إلى مقهى “سولت” المفضّل لدى شوقي حيث يجتمع كبار الكتّاب والشعراء والصحافيين وأهل الفنّ أمثال: محمد حسين هيكل، وحافظ إبراهيم، وعبد العزيز بشري وغيرهم.” وقد عمل شوقي على تعليم محمد عبد الوهاب أصول الموسيقى والغناء، وتلقينه اللغة الفرنسية للتواصل مع أبناء الطبقة الراقية. كما اصطحبه معه إلى العديد من البلدان حيث تعرّف شوقي بالعديد من رجال الفكر والأدب. وكان شوقي صديقاً لكبار الملحنين والمطربين كعبده الحمولي، وسلامة حجازي، وعبد الحي حلمي وبشارة الخوري وغيرهم.
وقد اعترف محمد عبد الوهاب بذلك حين قال: “تعلّمت من أحمد شوقي أنّ من يعطي الفنّ يأخذ منه، وقد عوّدت نفسي أن أحبّ فنّي، وأعامله تماماً كما يعامل المحبّ الولهان حبيبته. وهذا الحبّ لفنّي لم تنطفئ جذوته منذ شبابي وحتّى شيخوختي، بل ازداد عمقاً، فأنا اليوم أشدّ رغبة في الاختلاء بفنّي لأطوّره وأجعله يعيش كلّ الأحاسيس والعواطف والأفكار الجديدة.” خاصة وأن شوقي كان عاشقاً للموسيقى ويمتاز بذوق رفيع.
ومن أجل ما عنّى محمد عبد الوهاب لأحمد شوقي قصيدته الشهيرة “مضناك جفاه مرقده” وهي معارضة لقصيدة أبي الحسن علي بن عبد الغني الحصري القيرواني (1029–1095م) “يا ليل الصبّ متى غده”. وقد قدّم شوقي هذه المعارضة تحية للحصري ولجمال إبداعه في هذه القصيدة التي تعددت معارضاتها في المشرق والمغرب العربي. وقد وُلد بالقيروان وهاجر إلى بلاد الأندلس ثم رجع إلى طنجة، حيث وافته المنية.
والقصيدة مدح لأبي عبد الرحمان محمد بن طاهر أمير مرسية. وهي تتألف من تسع وتسعين بيتاً، مطلعها ثلاث وعشرون بيتاً في الغزل، وستة وسبعون لمدح الأمير. وغنت المطربة فيروز مقاطع من هذه القصيدة الرائعة. يقول الحصري:
يا ليلُ الصبُّ متى غدُهُ أقيامُ الساعةِ موعدُهُ
رقدَ السّمّــــــــارُ فأرّقـــــــــــــــــــهُ أســـفٌ للبيــــنِ يــــردّدُهُ
فبكاهُ النجمُ ورقَّ لــــــــــــــــــهُ مما يرعاهُ ويرصــــــدُهُ
كلف بغزالٍ ذي هيـــــــــــفٍ خوفُ الواشينَ يشرّدُهُ
نصبتْ عينايَ لهُ شركـاً في النومِ فعزَّ تصيّدُهُ
وقد نالت هذه القصيدة شهرة واسعة في كل العالم العربي، وتمتاز القصيدة بجمالية المعنى وعذوبة اللفظ وروعة الموسيقى، فالقصيدة من بحر الخبب. لذلك لفتت أنظار المطربين والمنشدين وعشاق الطرب العربي الأصيل.
وغنى أيضاً لأحمد شوقي “قلب بوادي الحمى” و”دار البشاير” و”منك يا هاجر دائي” و”ليلة الوصل استنى” ومونولوج “اللي يحب الجمال” ومونولوج “شبكتي قلبي” ومونولوج “الليل بدموعه جاني” ومونولوج “في الليل لما خلي”. وغنى له كذلك “مقادير من جفنيكِ”، و”يا جارة الوادي”، و”ردّت الروح” و”يا ناعماً”، ومسرحية “قيس وليلى”، و”علّموه كيف يجفو”، و”سجى الليل”، و”دمشق”، و”جبل التوباد”، و”أنا أنطونيو وأنطونيو أنا”، و”خدعوها بقولهم حسناء” و”يا ناعما رقدت جفونه” وغيرها من الأغاني الخالدة. تقول أغنية عبد الوهاب “مضناك جفاه مرقده”:
مُضناك جفاهُ مَرْقَــــــــــــــــــــــــــدُه وبكــــــــــــــــاه ورَحَّـــــــــــــمَ عُوَّدُهُ
حيرانُ القلبِ مُعَذَّبُـــــــــــــــــــــــهُ مقروح الجفنِ مسهَّــــــــــــدُه
يستهوي الوُرْق تأوُّهـــــــــــــــــــه ويذيـــــــب الصخرَ تنهُّــدهُ
ويناجي النجمَ ويُتعبــــــــــــــــــه ويُقيم الليلَ ويُقْعِـــــــــــــــــــــــدهُ
الحسنُ حَلَفْتُ بيُوسُفِــــــــــــــــهِ والسُّورَة ِ أنـــــــــك مُفــــــــــرَدهُ
وتمنَّت كلٌّ مُقطَّعــــــــــــــــــــــــــةٍ يدَها لو تُبْعَث تَشهـــــــــــــدُهُ
جَحَدَتْ عَيْنَاك زَكِيَّ دَمِي أكذلك خدُّك يَجْحَـــــــــــــدُه؟
قد عزَّ شُهودي إذ رمَتــــــــا فأشرت لخدِّك أُشْهِــــــــــــدُهُ
بيني في الحبِّ وبينك مــا لا يَقْدِرُ واشٍ يُفْسِـــــــــــــــدُه
ما بالُ العاذِلِ يَفتح لـــــــــــي بابَ السُّلْوانِ وأُوصِــــدُه؟
ويقول: تكاد تُجنُّ بـــــــــــــــــــــه فأَقول: وأُوشِكُ أَعْبُــــــــــده
مَوْلايَ ورُوحِي في يَـــــــــــــــــدِه قد ضَيَّعها سَلِمتْ يَــــدُه
ناقوسُ القلبِ يـــدقُّ لـــــــــــــــــــــهُ وحنايا الأَضْلُعِ مَعْبَـــدُه
قسماً بثنايـــــــــــــــــا لؤلُئِهــــــــــــــــــــــــا قسم الياقوت منضـــــده
ما خنت هواك ، ولا خطرتْ سلوى بالقلب تبــــــــرده
***
(*) من كتاب “الشعر والغناء وترسيخ الثقافة الكونية”.