قراءة الأديبة إقبال الشايب غانم لكتاب الأب مارون الحايك حول بطرس خواجة

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

قرأت كتاب الأب الجليل مارون الحايك حول الروائي بطرس خواجه واستمتعت بالتوثيق والتعليق. طويت آخر صفحاته وتساءلت قلبا “وقلما” بمن أبدأ، بالموثق والمعلق أم بصاحب النصوص؟

الكتاب جمع الكثير من أعمال الكاتب والروائي بطرس خواجه اما الكاتب الأب مارون الحايك صاحب هذا التوثيق الهام والجامع لكل شاردة وواردة من أعمال الكاتب فهو قمة الوفاء والعطاء للكلمة وأصحابها ولولاه والبعض القليل من أمثاله لَطَمستْ أقدام الأواخر وجوه الأوائل وأقلامهم وعطاءاتهم.

الأب مارون الحايك المحتفى به اليوم عن جدارة الذي يكرس حياته لطرق الدين الصحيحة لم ينس الدنيا. فهو التربوي الموجه والكاتب الغزير والمتعدد العطاءات المتعبد في محراب الكنيسة والكلمة وفي البدء كان الكلمة. أما الروائي بطرس خواجه والذي رحل عن هذه الدنيا في مقتبل الستينات من عمره يصح فيه قول “جان كوكتو” غايتي أن أنظم نفسي وأعتني بصحتي من أجل أن أضع كتباً تتغذى من مادتي ورويداً رويداً تقتلني”.

يقول الكاتب الأب في المقدمة حول الكاتب والكتاب: “فبعد أن جمعت من مؤلفات الكاتب والروائي والناقد والشاعر بطرس خواجه ما تيسر وثقتها بحسب التسلسل التاريخي وحللت رواياته الأربعة المطبوعة تحليلًا سيكولوجياً ورمزياً قدر استطاعتي بعد أن أوجزت كل رواية، فإذا بي أمام روائي متمكن من كتابة الرواية ومن طرح مختلف التساؤلات التي يطرحها العقل البشري حول الوجود والإيمان والشك والحياة والموت والجنة والنار والسعادة والحلم المصير وغيرها من المعضلات التي لا تزال تقض مضجع الإنسان منذ نطفته حتى رحيله عن الوجود الذي يعيش فيه”.

في هذا الإيجاز البليغ قبض الأب الحايك على الخيوط العامة لهذا الكتاب والتي أراد تفصيلها في محتوياته.

لا أستطيع أن استطرد في هذه العجالة في إعطاء الرجلين حقهما في الوصف فإن ما أديته من تعريف ليس إلا لمحات خاطفات توطئة للمرور من أطراف الكتاب إلى قلبه.

لنبدأ من المقالات التي كتبها بطرس خواجه والتي نشرت في صحف ومجلات عديدة كـ “الآداب” و”الحكمة” و”النهار” و”الانطلاق” و”الأنباء” والتي كتبت حول نتاجه. نلاحظ فيها اتساع الطيف الفكري والثقافي لدى الكاتب، تحاليل ودراسات حول كتب قيمة لكتّاب طبعوا عصرهم ببصمات لن تنسى أمثال شبلي الملاط، كمال اليازجي، أنسي الحاج، يوسف حبشي الأشقر، ودوستويفسكي وغيرهم.  طبعاً لن ننسى أمين الريحاني ونعيمة وجبران. وتوقفت ملياً عند دراسته القيمة التي جاءت في مقالات متتابعة حول “مصطفى” جبران و”مرداد” نعيمة تحت عنوان: “نبيان من لبنان”، فيها من العمق والتحليل والتجرد والجرأة العارفة والثقافة الشاملة ما يجعل القارئ يلتهمها بإعجاب حتى الثمالة. ويخلص خواجه في دراسته إلى تفضيل “مرداد” نعيمة لأن حياته كانت تجسد إلى حد بعيد فلسفة وتعاليم رسول المحبة “مرداد”.

 خواجه يعتقد كما قال : التعاليم النظرية لا تحيا ولا تخلد حتى ولا قيمة لها ما لم تقرن بالعمل وتطبق، وما من فيلسوف أو مفكر أو حكيم له في الحياة فلسفة أو مذهب أو عقيدة إلا يحاول أن يعيش مخلصاً لفلسفته ولمذهبه أو لعقيدته. ويعتبر أن جبران عجز عن ذلك بسبب الازدواجية التي عرفها في حياته بين التعاليم والمسلك، ومن عرفه عن كثب يتعجب من أن يكون هو نفسه صاحب تعاليم النبي.

وفي دراسته للمدينة الفاضلة بين فلسفة أفلاطون والفارابي وابن تيمية يخلص إلى القول: “إن الرئيس عند أفلاطون فيلسوف. الرئيس عند الفارابي هو نبي أو شبه نبي، بينما عند ابن تيمية هو الشخص الذي تتوفر فيه الشروط الإسلامية ومصدرها الوحيد الشرع”.

لا نستطيع الاستفاضة أكثر في هذا النمط أعني المقال، لكن الملاحظ فيه أنه واسع الاطلاع، غني الفكر والثقافة. وقد تناول كل ذلك بأسلوب بعيد كل البعد عن لغة المعاجم والطلاسم. كتب ببساطة حلوة ومتألقة نافذة إلى قلوب ومدارك القراء.

في قصصه القصيرة يعالج قضايا اجتماعية إنسانية نفسية فلسفية، وهو يقول إن القصاص الحقيقي يجب أن يكون ملماً بأكثر المبادئ العلمية، كنظريات علم النفس، علم الحياة، علم الاجتماع، علم الحقوق وحتى علم الطب، طبعاً بالإضافة إلى الموهبة والأصالة، لأن كاتب القصة يتعرض لعملية الخلق كما لا احد سواه. عليه أن يخلق نفسه باستمرار وعملية الخلق صعبة وقاسية، وتحتاج إلى الكثير من المهارة والكثير من التفوق. والملاحظ في القصص التي وثقها الأب الحايك أنها تجسد آراءه وتوجهاته التي اعتنقها وقد كتبت بلغة أدبية راقية أقرب إلى الشعر أو النثر الشعري.

إذا انتقلنا إلى الرواية للكاتب بطرس خواجه أربع روايات هي: “الله والسرطان”، “عقدة الشيطان”، “المنديل الأسود”، “جنة الأحزان”،  وقد أوجزها الأب الحايك وعلق على كل منها.

لا شك أن روايته حملت في طياتها قضايا اجتماعية إنسانية ومشكلات يعاني منها المجتمع اللبناني، أي أنها لصيقة بهموم الناس ومعاناتهم، لكن سنركز على رواية “عقدة الشيطان” والتي تناول فيها الصراع الأبدي بين الخير والشر، بين الفضيلة والخطيئة، بين اعتناق تعاليم المسيح أو مغريات الشيطان، والروائي خواجه كما قال الأب الحايك متمكن من روافد ثقافته الإيمانية بالله الذي عبده في حياته ومطلع ضليع في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد والقرآن.

تركز الرواية على شخصيتين رئيستين هما الأب بولس وابن أخيه الطبيب طوني الصالحاني والصراع بينهما إلى حد القطيعة بين الأب الورع المؤمن والخادم المحبوب من كل أبناء رعيته، وابن أخيه المتفلت من كل الروابط الدينية مشككاً بالمسيح وتعاليمه ومتحالفاً بشكل أو بآخر مع الشيطان. شخصيات أخرى ثانوية في الرواية أيضاً تتنازعها تلك الجدلية الثنائية منها: المدرّسة لينا اسكندراني التي تحمل خارج إطار الزواج من مهندس روسي ملحد ثم تجهض ثم تقع في حب الطبيب ثم تصاب بالجنون.

 المهم أن الأب بولس يعطي ابن أخيه مذكراته قبل وفاته وبعد رحيله يقرأ الطبيب المذكرات ويفاجأ بأن عمه الكاهن الراهب الورع أيضاً تنازعته تلك الشكوك وكان يهرب من أحابيل الشيطان بذكر اسم الله والثالوث المقدس. أسئلة كثيرة طرحت في الرواية منها: هل الإيمان الحقيقي يفرض نفسه على الإنسان؟ هل الفردوس المفقود هو حقيقة أم اسطورة؟ الموت، الدينونة، الخلود وغيرها من التساؤلات التي كانت وستبقى ملازمة لحياة الإنسان.

وفي تعليقه على الرواية يقول الأب الحايك: لا شك بأن المؤلف قد تضلع من تعاليم ديانته إنطلاقاً من الكتاب المقدس بعهديه ومتابعته  لتعاليم الكنيسة، في كتابات الباباوات والآباء اللاهوتيين والفلاسفة المسيحيين. ومن إطلاعه بما ورد في تعاليم الفلاسفة مثل هيغل وجان بول سارتر وهايدغير وجاك ماريتان وغيرهم في مسألة الموجود والمحسوس والمعقول وما بعد الوجود وغير المحسوس والميتافيزيقيا وغيرها من الفلسفات والإيدولوجيات.

ها قد مررنا خطفاً على أعمال الروائي بطرس خواجه حسبما وثقها مشكوراً الأب مارون الحايك . لاحظنا في هذا النتاج أن الخواجه لم يحاول إحداث فن أو اصطناع كلمة. بل كتب كل ما شعر به صادقاً ومخلصاً بلغة ناصعة نقية، وبأسلوب راق يتقاطع مع الشعر المنثور جمالًا وبثقافة موسوعية غنية وبعواطف مجردة من الزيوف، وقد ترفع في كل ما كتب عن المدح والتزلف. واللافت عدم وقوفه على كتابة نصوص المناسبات لأنه لا يحسن الطلاء. كتب بصدق وقناعة وإبداع كأنه يقول مع بول فاليري: “أنا أقتل نفسي إذا أريد إجباري على الكتابة”.

وأخيراً كلمة حق تقال إن كل صاحب قلم يحلم بأن يكون لديه إنسان مثقف مخلص للكلمة وحملتها من أمثال الأب الجليل مارون الحايك. ولا أكتم سراً إذ أقول إن معظمنا يذهب إلى نشر أعماله خوفاً عليها من النسيان أو الاندثار مهما كانت قيمتها، لأن ما يكتبه الإنسان يبقى جزءاً لصيقاً بكيانه ووجوده، ونرسيسية الكاتب تجعله يعتقد أنه بإنتاجه قد يغيّر العالم.

شكراً للموثق والمعلق ستقدره الأجيال لما أتاح لها من إمكانية الاطلاع على هذا التراث الأدبي الغني. أغنى المكتبة العربية بنتاج كاتب راحل توثيقاً وتحليلًا وإضاءة. ما قام به منفرداً كان يحتاج إلى لجنة أو مجموعة عمل.

فيا أيها الأب الجليل الذي بلغ به حب الكلمة إلى اقتطاع الوقت الثمين والجهد المبين ليس لكتابة نتاجه بل لجمع نتاج غيره…

 شكراً لك وقد وصلت في العطاء إلى قمته وفي عطر الوفاء إلى بردته…

شكراً لك على رؤيتك الصادقة وعزيمتك الماضية وضاعف الله من أمثالك…

****

(*) ألقيت في الندوة حول كتب الأب مارون الحايك الأنطوني، في إطار المهرجان اللبناني للكتاب السنة الثامنة والثلاثون 2019 دورة المعلم بطرس البستاني الجمعة 15 مارس 2019 في الحركة الثقافية- أنطلياس، دير مار الياس، مسرح الأخوين رحباني.

اترك رد