ديوان ” أكثر من عكازة للقلب الوحيد ” محمَّلٌ حبرُه شجنًا دفينًا وحَزنًا شديدا على بلد جريحٍ هو العراقُ :
“ينْشِدُونَ الحُلمَ تِلْوَ الحُلْمِ تِلْوَ الوَهْمِ تِلْوَ المَوتِ
فِي ذِكْرَى وَطَنٍ هَزِيلٍ يَنَامُ على رَصِيفِ قَهْرْ ..
كُلُّهُمْ نَشَروا خِيَامَ الحُبِّ تَشْرِيدَا فِي عُوَاءَاتٍ
وَاسْتَأْنَسوا جُنُونَ النَّارِ فِي وَدَاعِ العَازِفِينَ”
ما بين شعور بالغربة ووجع طافح ثمل بالحزن ، تعددت الآلام وتعددت معها شهقاتُ الحروف وزفرات الدلالات ، لكنها ما انكسرت شظايا بل علتِ القصائد ما يعلن كرامتها بقلم جسور، وإن نالها النصَبُ من خيبات الخيانات ، لكنها ما زالت تقاوم بقوة شاعرية شعرية تغلغل بها الاحتمال فكانت رصينة الشِّعر بصياغات مصاغة بفلسفة دفينة بقلق إنسانيّ كينونيّ وجودي:
“كُلُّهُمْ كَذَبُوا على خُبْزِيَ الحَارّ وَدَمْعِيَ الفَقِيرِ
وَرَائِحَتِي التِي تُشْبِهُ عُزْلَتِي البَارِدَةَ
عِنْدَ لَقَالِقِ الهِجْرَاتِ وَدَمْعِ القُبَّرَاتْ”
بالديوان تشبُّع شديد بحالات كثيرة متعددة من تجارب عميقة بجراحها وبندوبها ؛ هذا الذي يجعل القارئ كلما توغّل قراءة إلا واستشف شفافية مشكّلة من حضور للسياب ولبودلير
لغة باشتعالات دلالية شعرية، يهندسها الشاعر بلغة دقيقة ورقيقة الملا مح باعثا فيها حركية وتجددا، وكما يقول هو نفسه ” إنّ الشّعر حياة إضافية ”
عنوان الديوان ” أكثر من عكازة للقلب الوحيد ” يشير إلى تعدد المكاشفات والاعترافات ما بين بوح القلب الجريح وصدمة الخيبات المتتاليات بواقع معيشي يحمل في ثناياه حين صاغه الشاعر كثيرا من جمالية لغة بها شجن دفين لكنه شفيف الحبر
كانت أول القصائد ” مَزَامِير” لتكون القصيدة السادسة والأربعون ” حُزْنُ قَلبِي الجَمِيِلْ ” فما بينهما لغة مضمخة بقلق شعريٍّ شاعريٍّ رافض العنفَ والاستسلام والانصياع للخذلان ؛ بل سعى الشاعر من خلال قصائده إلى طرح جمله الشعرية على إيقاع موسيقي شجيٍّ حزين بنبرات لها حركياتها اللامنفعلة اللامتوترة ، فقد جمّلَها بقيم انسانية عميقة بدلالاتٍ تحيل عليها ، فكانت “مزامير”
اسم نكرة غير معرّف للإشارة إلى تعدُّد الأنّاتِ بالروح بلغ بها نصَبُها ما يعيد للذاكرة قول ” ويبير ” :
” حقا يا مولاي إن خير شهادة نرفعها إليك
هي هذه الزفرة الحارة
التي تنتقل من جيل إلى جيل
لتموت على شاطئ أبديتك “
فهذه الدلالات قد تمّ الاشتغال عليها اشتغالا لتحاكي جرح الانسان العراقي مانحا بذلك قصائده رؤى إنسانية وشعرية رصينة ابداعية في نفس الآن ، وهذه الصياغة الشعرية بشقيها اللغوي والدلالي كانت إيجابية جدا من حيث البحث عن حقائق كامنة بعيدا عن المباشرة بالوصف رغم محاكاتها للقلق الوجودي ووصفا لملامحه المثقلة بهموم الوطن:
“سيَفهَمُنِي سيَفهَمُنِي مَنْ جَرَّبَ:
خَوض حروب الذِئَابِ مِثلِي وَحِيِدَا
بِغيرِ دَلِيلٍ وَلاَ زَمْزَمِيَّةِ مَاء.! “
قصائد هذا الديوان تشرئب منها نفحات صوفية بهية وأخرى فلسفية لتنضاف إليها رمزية لا يشوبها الغموض، وبذلك تشكلت نظرة صياغية ورؤية للشعر بعيدا عن كل تكلف وتقوقع حول الذات ، بل ، سعت للانعتاق من كل غلو وغموض نحو تحرر ، فتعددت العواطف غير متعارضة ، ليدفع القارئ المتبصر إلى التساؤل لإدراك ماهية ما وراء القصيدة بهذا الواقع الشاسع المتشاسع بخيباته بحروبه وباستنزافاته.
إنه وجع الوطن من خيانات ينشغل به العقل قَلقًا ، والساكن بالذات الشاعرة فألهبها بالحرف الموجوع :
“تَحَدَّيَاتْ:
أَنَا جَرَّاحُ القَصائِدِ السرْمَدِيَّةِ
التِي تَحْتَضرُ عِندَ نَاصيَاتِ الخِيَانَةِ
لَمْ تُطَبِّبني المَشافِي حِيِنَ قُلتُ بِمِلءِ دَمِ المَاءِ:
أمُوُتُ بِحَتفِ الموتِ الَّذِي لاَ يَمُوتُ فِي المُستَنقَعَاتْ.! “
بالديوان حقول دلالية متنوعة ما بين خير وشكر ، أسفٍ ورفضٍ، ذكرٌ للموت وإصرار على الحياة للحياة ، رغم أن الشاعر توقف عند آخر قصيدة عند القلب الذي بح بوحا لكنه ما زال يناضل ثقة في لغة الشعر لكي يتمكن من قول ما يدل على شدو مزامير الجرح الغاضب :
عَلىَ مَدَىَ خُوذِ السنِيِنِ الهَزِيلَة
كُلُّ هَذَا وَ أنَا أُرِيدُ أَنْ أدفِنَ رُوحِي القَدِيمَةَ
بِقَصائِد النثْرِ التِي صبَغَتْ حَيَاتِي
بِوْردَةِ التَّعَبِ وَالأَحْلاَمِ وَالقُبَّعَاتِ
بِعِطْرِ التساؤُلاَتِ عَنْ الحفرِيَاتِ المُضاعَةِ
فِي المَزَامِير التِي سكَتَتْ دُوُنَ شجْو
فِي عَرَبَةِ الرّمُوز التِي نَطَقَتْ بِكُلِّ صوتْ
فِي عُكَّازَاتِ المَوتِ وَالجَنَّةِ.. وَقَبلَهمَا الحَيِاةِ
فِي دَوَرَانِ رَحَى الحُبِّ عَلىَ قَلبِي الوَحِيِدْ
ذات حوار عن ديوانه هذا في تقديمه عنه قال الشاعر فهمي الصالح :
“ديوان (أكثر من عكازة للقلب الوحيد) جاءت قصائده لتحاكي الواقع الشاسع بمختلف عللهِ الكبيرة، وجمالياته المأمولة، وبرؤية حديثة وأفكار تجريبية مُعمقة ذاتيًا وفلسفياً، كما ينزع إليها العقل الإبداعي في الكتابة والتعبير عن مثل تلك الظروف التي عليها حياتنا المعاصرة، دون إغفال الرؤية التقييمية لذلك التراث الفكري ومعطياته السلوكية الممكنة”.
هي قولة لها رسوخها الدلالي الدال على عشق الوطن بنظرة شاعر اتخذ الشعر له مطية ومنبرا ليبرز أهمية الكلمة ودور الشاعر في اماطة اللثام عن جراح معلنا أن الشعر رسالة قوية حين ينبع صادقا معلنا عن رفضه لكل أشكال الاستنزاف للإنسان بلغة تنم عن جمالية القيم الإنسانية.