الشّمس تتوصوص من خلف التّلال، على بعضٍ من الدّرب الّتي تقلّني إلى مركز عملي، بخفرٍ، من خلف الآكام صباحًا… وأنا أجتازها بهمّةٍ ونشاطٍ، قصد ملاقاة طليعة بواكير مواسم المعرفة. أمّا الأهل وأبناؤهم، فيجترّونها بخطىً متثاقلةٍ متأبطين هموم انطلاق عامٍ دراسيٍّ جديدٍ في يومٍ من أواسط أيلول، مخبأ الأطياب والمؤن، استعدادًا لمواجهة فصل شتاءٍ، يأتينا بطلائع طبل الرّعود وزمر الرّياح ما دام طرفه بالشّتاء مبلولٌ، ليغلق على الأجساد المنافذَ، مُطلقًا الأرواح والمخيّلات خلف اقتناص الأحلام والرّؤى بمواسم حصاد الأحلام: دفق خيورٍ بكرٍ في الأعدال والخزائن والأقبية، حيث تتوالى حكاية العطاء على تراكم السّنين، مع ما تبقى في بلدتنا من الوجوه السُّمر وأصحاب السّواعد المفتولة الّذين يروون أرزاقهم، إضافةً إلى الماء الزّلال ببعضٍ من الحُباب الحلال يتساقط من جباههم العالية، فيُندّي أرزاقهم عافيةً ومروءةً وهمَّةً وشكرانًا، رغم أنف الزّمن الّذي نحيا!
…وأنا على هذه الحال، يصطدم اندفاعي نحو العمل بمشهد أحد رجال القوى الأمنيّة منطرحًا أرضًا يئنُ والدمّاء منه تسيل… بعد أن لفظته دراجته النّارية الخاصّة، الّتي كان يستقلّها للوصول إلى مقرّ خدمته، حيث ارتطم شخصيًّا ببعض حجارةٍ على منعطفٍ في الطّريق، دون أن يكون من مسبّبات الحادث عنصرٌ بشريٌّ آخر… وقد تحلّق حوله جمعٌ من أبناء البلدة محاولين إعانته على التخلّص من أوجاعه ولملمة الآمه والجراح، لِما فطروا عليه من نخوةٍ في النّفس وهمّةٍ في السّاعد، اندفاعًا خلف إغاثة المحتاج… الكلّ مستعدٌّ للاتصال بالصّليب الأحمر ليحمله وإصاباته من خدوشٍ وكسور باتّجاه مستشفى في المدينة، والكلّ يرفع عقيرته بضرورة نقله مُلحًّا للإسراع بذلك ولو بواسطة السّيارات الخاصّة، لأنّ وضعه يستدعي ذلك، لإسعافه إسعافًا طبّيًا متخصِّصا، بعد أن كُنّا قد تشاركنا في تقديم العون له بِما تيسّر من مقدرةٍ ومعرفةٍ… ولكنَّ الجميع سهى عن بالهم أنّ المصاب هو «ابن دولة»، ولا يجوز الإهتمام به والعمل على انقاذه على مستوى العمل الإنساني، إلاّ بعد وقوف أُمّه على حاله! والّتي هي وحدُها المولجة أمر لملمة أوجاعه وجراحه ودمائه… وحتّى الّذي ما زال مكتوبًا من عمره في دفتر حسابات ربّه… لأنَّ ما تنصّ عليه القوانين يتعارض وسننَ التّربية المنزليّة والوطنيّة في بلدنا! وجميعنا نعرف أنّ خُطى «والدته» بطيئةٌ متثاقلةٌ كنقلة العدالة عندها…
بعد أخذٍ وردٍّ، كان لي من القضيّة موقفٌ ورأي، مفادهما أنّه يجب الإتصال بمركز عمله قبل الإندفاع والتّهور، لأن دون ذلك مسؤولية جزائيّة! فلنضع إنسانيّتنا جانبًا قليلاً ولنتصرّف بِما يمليه العقل والواجب في آنٍ معًا. وصحا الجميع من غفلتهم وبهتوا لبرهةٍ، بدأت بعدها الإتصالات، مثنى وثُلاث، ليأمر الرّفاق قي المركز المصابَ نهايةً، بضرورة البقاء حيث هو حتّى يصل إليه مسعفون، رفاقٌ له، لأنّه من الضروري الـمُلح، فتح محضرٍ بحيثيات الحادث والإدلاء بإفادته الشّخصيّة قبل الإنتقال لأيّ مكانٍ أو الشّروع بأيّ عملٍ طبّي! والمسكين يردُّ عليهم بالإيجاب وأنينه يتوالى ويتصاعد حيث آلامه وكسوره والجراح تُلحُّ على جسده الّذي تكوّم على قارعة الدّرب! طال الإنتظار لساعةٍ من الوقت وأكثر حتّى وصلت الأُم الحنون بعديدها وعتادها… فأجرت واجباتها القانونيّة قبل الإلتفات إلى حالة المصاب وما تتوجّبه حالته الإنسانيّة من إسعافٍ ومداراةٍ ومداواة… فدارت الأُمّ بذلك وجع العدالة في وطننا على ما نصّ عليه قانونٌ لا يتأوّه ولا يموت، غافلةً عن صراخ ابنها الّذي يبذل حياته في سبيل حمايتها وحماية إخوته، وتركته يئن صارخًا تحت ضربات الألم الـمبرّ، الّذي كان ربّما سيودي بحياته لسببٍ تافهٍ، يمكن تلافيه ووضع الأمور في نصابها، دون أن تعرِّضه لدفع الدّية غاليًا!
كلُّ هذا يجري والشّعب يحوطُ بالمصاب مستنكرًا مُتسائلاً، بعيونٍ تضج ذهولاً: كيف أن سيل الحبر في وطننا، تبقى مخالفته أشد وقعًا على ضمير العدالة من دفق دم إنسان وإهراقه على قارعة الدرب من غير طائلٍ، خارج دوائر المجد ودون مراتب الخلود؟ وعلى الشّعب، التزام عدم الحراك إزاءه، غير مبالٍ ومن غير امتعاضٍ؟! ألا ترون معي أنه على القانون أن يكون في خدمة الإنسان في وطني ،بدل أن يجتر المواطنُ العمرَ وقوفًا بباب أُمّه العجوز؟!