-مَسعُود، في الغَدِ سَنُرافِقُ المُعَلِّمَ وَهِيب إِلى الجُنَينَةِ لِتَخْمِينِ الدُّرَّاقِ وَالكَرَزِ، فَكُنْ حاضِرًا.
-حاضِرٌ يا أُمِّي. هَل أَعلَمَكِ عَن الأَسعارِ المُتَداوَلَةِ هذه السَّنَة؟
-كَلَّا. قالَ إِنَّ هذا رَهْنٌ بِجُودَةِ الثِّمار.
وفي جَمِيعِ الأَحوالِ، أَنا أَثِقُ بِهِ فهو مُستَقِيمٌ في المُعامَلَةِ، لا يَبتَغِي سِوَى الرِّبْحِ الحَلالِ، وهذا بِشَهادَةِ الجَمِيع.
-مَهما تَكُنِ الأَسعارُ الَّتي سَنَحظَى بِها، فَهي لَن تَحُلَّ المُشكِلَةَ، فَالأَرضُ المَحدُودَةُ الَّتي لا نَملِكُ سِواها لَن تَكوُنَ ضَمانًا لِمُستَقبَلٍ يُرضِينِي وَيُرضِيكِ.
أَنا ضائِعٌ، يا أُمَّاه، وَأَستَهدِي اللهَ حَلًّا، فَعَسَى أَن يَستَجِيب.
وَتَنَهَّدَ عَمِيقًا وَصَمَت.
-أَلِاتِّكالُ على اللهِ، يا بُنَيَّ، وهو لَن يَترُكَنا.
كان المَوسِمُ جَيِّدًا هذا العام.
نَسَّقَ مَسعُودُ سَلَّةً مَلأَى بِالثِّمارِ، انتَقاها واحِدَةً واحِدَةً، فَهيَ هَدِيَّةٌ لِعَمَّتِهِ، أَمَّا هَدَفُها الرَّئِيسُ فَكانَ ابنَتَها هُدَى الَّتي تَشغَلُ عَواطِفَهُ، وَلا يَرَى ضِياءَ الدُّنيا إِلَّا مِن خِلالِ عَينَيها. وَلكِنْ… وَزَفَرَ زَفْرَةً مَدِيدَةً، هِي لا تَعلَمُ مَدَى هُيامِي بِها، فَلَم أَبُحْ بِحُبِّي جَهارًا خَشيَةَ أَن تَصدِمَنِي بِرَفْضٍ ما يَكُونُ سَبَبًا لابتِعادِها عَنِّي، وَخَسارَةِ لِقاءَاتِي بِها.
وَقالَ لِأُمِّهِ: سَأَنزِلُ إِلى بَيرُوتَ غَدًا، أَزُورُ بَيتَ عَمَّتِي سَلوَى.
لاحَت على شَفَتَيِ الأُمِّ ابتِسامَةٌ شاحِبَةٌ، فَهيَ تَعلَمُ تَعَلُّقَ ابنِها بِهُدَى… وَلكِنْ أَنَّى لَهُ الوُصُولُ إِلَيها، وهي المُتَعَلِّمَةُ الرَّاتِعَةُ في البُحْبُوحَةِ، وهو المُعْدِمُ الَّذي تَوَقَّفَ عَن الدِّراسَة. آهٍ كَم يَحتَرِقُ قَلبِي كُلَّما رَأَيتُهُ يَمِيلُ أَكثَرَ إِلَيها.
***
كانَت عَمَّةُ مَسعُود مُهتَمَّةً أَشَدَّ الاهتِمامِ بِتَوفِيرِ عَمَلٍ لابنِ أَخِيها، فَهِيَ تَعلَمُ وَضْعَهُ المادِّيَّ بَعدَ مَقتَلِ والِدِه. وَكانَت لا تَفتَأُ تُلِحُّ على زَوجِها أَنْ يُفَتِّشَ لِلشَّابِّ عَن عَمَلٍ، فَكانَ يُبدِي كُلَّ تَجاوُبٍ، خُصُوصًا أَنَّهُ يَكُنُّ مَعَزَّةً صادِقَةً لِمَسعُودَ، لِما يَرَى مِن تَهذِيبِهِ، وَمَحَبَّتِهِ الخالِصَةِ لَهُم. وَلَمَّا تَعَسَّرَ سَعيُهُ المُتَواصِلُ في هذا الشَّأنِ طَلَبَ مِن صَدِيقِهِ “أَبِي هانِي” وهو تاجِرُ أَخشابٍ كَبِيرٌ بَينَ لُبنانَ وَنَيْجِيرِيا. وكانَ هذا لا يَرفُضُ طَلَبًا مِن صَدِيقِهِ لِما لِهذا الأَخِيرِ مِن أَيْدٍ بِيْضٍ عَلَيهِ في مُعامَلاتِهِ التِّجارِيَّةِ الَّتِي تَمُرُّ في دَوائِرِ مَرفَأ بَيرُوتَ حَيثُ لِأَبِي هُدَى مَركَزٌ مَرمُوق.
وهكذا تَمَّ اللِّقاءُ بَينَ أَبِي هانِي وَمَسعُودَ في مَنزِلِ عَمَّةِ هذا الأَخِير. سَأَلَ “أَبُو هانِي” الشَّابَّ، القَوِيَّ البُنيَةِ، إِذا كانَ يَرغَبُ بِالعَمَلِ مَعَهُ كَمُناظِرٍ على عُمَّالِهِ في نَيْجِيرِيا. صَمَتَ الشَّابُّ وَقَد فُوجِئَ بِالعَرْضِ، وَبَدَت الحَيْرَةُ على وَجهِهِ، فَتَدَخَّلَ زَوجُ عَمَّتِهِ مُشَجِّعًا إِيَّاهُ على قَبُولِ العَمَلِ الجَدِيد. وَجاءَهُ حَثٌّ مُماثِلٌ مِن عَمَّتِه. ثُمَّ قالَت هُدَى: وَلِمَ لا، يا ابْنَ خالِي، أَلَيسَ هذا أَفضَلَ مِن التَّسَكُّعِ في البَلدَةِ بِانتِظارِ مَوسِمِ الأَرضِ كُلَّ عام؟ وَماذا تَنتَظِرُ هُنا مِن تَقَدُّمٍ؟
وافَقَ مَسعُودُ، شاكِرًا لِأَبِي هانِي اهتِمامَهُ، فَوَعَدَهُ هذا بِإِتمامِ جَمِيعِ مُعامَلاتِ السَّفَرِ، وَعَلَيهِ هو أَن يَتَهَيَّأَ لِلمَوعِدِ الآتِي في غُضُونِ شَهرٍ تَقرِيبًا.
في طَرِيقِهِ إِلى القَريَةِ، راحَتِ الأَفكارُ تَتَجاذَبُهُ، مِنها ما يَرسُمُ ابتِسامَةَ رِضًى خَفِيَّةً على فَمِهِ، وَمِنها ما يُعِيدُ لَهُ الانقِباض. فَهَل شَجَّعَتهُ هُدَى على السَّفَرِ أَمَلًا بِبِناءِ مُستَقبَلٍ مُشتَرَكٍ لَهُما، أَم تُراها أَرادَتِ التَّخَلُّصَ مِن الحَرَجِ الَّذي يَنتابُها حِيالَهُ، وهي مُلزَمَةٌ بِلِقائِهِ، وَالتَّرحِيبِ بِهِ، بِحُكْمِ القَرابَة؟!
وَكُلَّما طَرَدَ أَفكارَهُ السُّودَ كانَت تَعُودُ بِزَخْمٍ أَكبَرَ فَتَملَأُ رَأسَهُ بِالهَواجِس. فَراحَ يُشَتِّتُها بِتَذَكُّرِ أَيَّامِ الطُّفُولَةِ والمُراهَقَةِ، حِينَ كانا صَغِيرَينِ يَقضِيانِ مُعظَمَ أَوقاتِهِما في اللَّهْوِ مَعًا. فَهُما مِن مَوالِيدِ العامِ 1940، وَتَجمَعُهُما آصِرَةُ القَرابَةِ، وَتُوَفِّرُ لَهُما مُتَّسَعًا وافِيًا لِلِّقاءِ، وَفُسْحَةً رَحْبَةً مِن الحُرِّيَّة. تَعَلَّقَ بِها وَباتَت مادَّةَ أَحلامِهِ، وهي كانَت تَأْنَسُ لِقُربِهِ، وَتَسأَلُ عَنهُ حِينَ يَغِيب.
وَكانَ يَومٌ مَنكُودٌ، حِينَ انتَقَلَ سَكَنُ الحَبِيبَةِ إِلى بَيرُوتَ، فَقَد تَسَلَّمَ والِدُها وَظِيفَةً مُحتَرَمَةً في مَرفَأ المَدِينَة. لَم يَستَطِعِ الفَتَى العاشِقُ تَحَمُّلَ الفِراقِ، في يَومِهِ الأَوَّلِ، فَانتَبَذَ زاوِيَةً وَراحَ يَبكِي حَتَّى تَبَلَّلَت ثِيابُهُ بِالدَّمْع. وَمُذْ ذاكَ ما عادَ يَطُوقُ مَشَقَّةَ الدَّوامِ المَدرَسِيِّ، وَفُرُوضِهِ القاسِيَةِ. فَباتَ، جُلَّ وَقتِهِ، ذاهِلًا شارِدًا، وَتَراجَعَ عَن مُستَوَى رِفاقِهِ، وَباءَت مُحاوَلاتُ أَهلِهِ لِحَثِّهِ على الدَّرْسِ والاجتِهادِ، بَينَ تَرغِيبٍ وَتَرهِيبٍ، بِالفَشَلِ الذَّرِيع. فَأَيقَنَ والِداهُ، أَخِيرًا، أَنَّ ابنَهُما لَم يُخْلَقْ لِلدَّرْسِ والاجتِهادِ، وَأَنَّهُ لَن يَكُونَ لَهُ مُستَقبَلٌ حَيثُ المُتَعَلِّمُون.
وَلَكَم راوَدَهُ هاجِسُ أَن تَكُونَ هُدَى قَد تَعَلَّقَت بِفَتًى آخَرَ في بِيئَتِها الجَدِيدَةِ المُرَفَّهَةِ، فَتُصِيبُهُ رِعْشَةٌ، وانقِباضٌ شَدِيدٌ، فَيُحاوِلُ الهَرَبَ مِن ظُنُونِهِ السُّوْدِ، وَمِن كُلِّ ما يَتَلَمَّسُ فِيهِ ابتِعادُها عَنهُ. وَكانَ شُعُورُهُ بِعَدَمِ اكتِراثِها بِهِ، يُثِيرُ في نَفسِهِ الهَلَعَ الشَّدِيد.
***
فاجَأَ مَسعُودُ والِدَتَهُ بِعَزمِهِ على السَّفَرِ، فَسَأَلَتهُ بِلَهفَة:
-إِلى أَينَ يا بُنَيَّ؟ أَتَترُكُنِي وَحدِي هُنا؟ وَمِن أَينَ أَتَيتَنا بِهذا القَرارِ المُفاجِئ؟
لا تَكُنْ عَنِيدًا كَما كانَ والِدُكَ، رَحِمَهُ الله. كَم رَجَوتُهُ أَن لا يَلتَحِقَ بِهَؤُلاءِ الشُّبَّانِ المُتَهَوِّرِينَ، فَلَم يُعِرْ تَوَسُّلاتِي انتِباهًا. وماذا كانتِ النَّتِيجَة؟ لَقَد قُتِلَ، وَهُم عادُوا إِلى أَهلِهِم سالِمِين. وَيُعَزُّونَنا بِتَردادِهِم: كانَ بَطَلًا، وَاستُشهِدَ في سَبِيلِ الوَطَن. أَلَا تَبًّا لَهُم، وَلِوَطَنِهِم، وَلِمَقُولاتِهِم. ما زالُوا وَراءَهُ، حَتَّى أَهلَكُوهُ، فَهَل يَحمِلُونَ مَعَنا العِبْءَ الَّذي تَرَكَهُ عَلَينا بِمَوتِه؟!
-أُمَّاه. أَنَظَلُّ في هذه الدُّوَّامَة. أَما آنَ لَكِ أَن تَدفُنِي الماضِيَ لِتَرتاحِي؟
أَغمَضَتِ الأُمُّ عَينَيها وَراحَت تَهُزُّ رَأسَها في صَمتٍ مُطْبِقٍ، وَتُبَربِرُ لِنَفسِها، شاخِصَةً إِلى السَّماءِ، مُتَمتِمَةً: ماذا فَعَلتُ، يا رَبِّي، لِكَي يُلقَى على كاهِلِي الضَّعِيفِ هذا الحِمْلُ المُضنِي؟!
تَرَكَها ابنُها وَدَخَلَ المَنزِلَ مَهمُومًا، مُقَطَّبَ الجَبِين. صَحِيحٌ أَنَّ رَأيَهُ قَرَّ على السَّفَرِ، وَسَيُعِدُّ العُدَّةَ لذلك، ولكِنَّهُ، في قَرارَةِ نَفسِهِ، مُتَوَجِّسٌ مِنَ المَجهُول.
كَيفَ سَيَترُكُ أُمَّهُ وَحِيدَةً عَلَيها العِنايَةُ بِأَرضِهِم، والقِيامُ بِأَعبائِها الكَثِيرَة؟
كَيفَ سَيَبعُدُ عَن هُدَى، وَمَن يَدرِي ما يَخْلُقُ القَدَرُ، وهي الفَتاةُ الجَمِيلَةُ، المُهَذَّبَةُ، المُتَعَلِّمَةُ، الوَحِيدَةُ لِأَهلٍ أَنعَمَ عَلَيهِم اللهُ بِاليُسْرِ الفائِض؟
وَمِن ِجهَةٍ أُخرَى فَإِنَّ النُّكُوصَ عَن هذه المُغامَرَةِ يَعنِي الفَقرَ الَّذي يُنَفِّرُ الحَبِيبَةَ، وَلا يَسمَحُ لَهُ بِمُجَرَّدِ الأَمَلِ في مُستَقبَلٍ يَجمَعُهُما.
***
أَبُو مَسعُوُد لامَسَ الأَربَعِينَ مِن العُمرِ، عَضِلٌ، رِياضِيُّ الهَيكَلِ، شُجاعٌ حَتَّى التَّهَوُّرِ، على طِيبَةٍ في القَلبِ مَشهُودَةٍ لَهُ، مُتَعَلِّقٌ بِوَطَنِهِ لُبنانَ حَتَّى الذَّوَبان. كان رِفاقُهُ يُلَقِّبُونَهُ شَيْخَ شَبابِ قَريَتِهِ “كفَرْسَما”. انتَمَى إِلى “حِزْبِ الأَرْزِ”، وكانَ في عِدادِ أَفرادِهِ النِّظامِيِّينَ الحاضِرِينَ أَبَدًا لِحَملِ السِّلاحِ، والذَّوْدِ عَن مَبادِئِ الحِزْب. وَعِندَما اندَلَعَتِ الأَحداثُ الدَّامِيَةُ في العام 1958، كان حِزْبُهُ طَرَفًا فِيها، فَإِذا هُوَ مِنْ أَوائِلِ المُلتَحِقِينَ بِقُوَّاتِهِ المُسَلَّحَةِ المُسَمَّاةِ “لِواء الجَبَل”. وفي بِدايَةِ ما سُمِّيَ آنَذاكَ بِـ”الثَّوْرَة” تَعَرَّضَ مَعَ بَعضِ رِفاقِهِ لِكَمِينٍ لَيلِيٍّ مُسَلَّحٍ في شارِعٍ مُتَفَرِّعٍ مِن “ساحَةِ البُرْج” في قَلْبِ العاصِمَةِ بَيرُوت. وكانَت إِصابَتُهُ قاتِلَة.
عِندَما وَصَلَ الخَبَرُ إِلى “كفَرْسَما”، أُصِيبَ النَّاسُ بِالذُّهُولِ، وَتَجَمَّعَ الأَنصارُ في مَركَزِ الحِزْبِ يَتَداوَلُونَ الأَخبارَ الوافِدَةَ مِنَ العاصِمَةِ، ثُمَّ ذَهَبَ وَفْدٌ مِنهُم إِلى مَنزِلِ أَبِي مَسعُود، فَكانَت صَدْمَةُ الخَبَرِ قاصِمَةً على الزَّوجَةِ المَنكُودَةِ، فَأُصِيبَت بِما يُشبِهُ الخَبَلَ، وَدَخَلَت في مَوْجَةٍ عارِمَةٍ مِنَ “البُكاءِ وَالعَوِيلِ. وَلا تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى، لأَنَّ زوجها ليس بِمَوجُود”(2).
وَكَيفَ لَها ذلك وَيَنتَظِرُها مُستَقبَلٌ غامِضٌ، وَمَسؤُولِيَّاتٌ جِسامٌ ما اعتادَت قَبْلُ على حَمْلِها.
لَقَد تَرَكَها رَفِيقُ العُمرِ وَحِيدَةً بِإِمكاناتٍ مادِّيَّةٍ مَحدُودَةٍ، تُعِيلُ ابنًا يافِعًا بِأَمَسِّ الحاجَةِ إِلى رَقابَةِ الأَبِ وَهَيْبَتِهِ، وَتَوجِيهِهِ، لِأَنَّهُ يَمقُتُ العِلمَ والمَدرَسَةَ، وَيَجْنَحُ إِلى العِصيان.
وَمَسعُود… هذا الطَّرِيُّ العُوْدِ، فَقَد دَخَل في حالَةٍ مِن شُرُودِ الذِّهْنِ، يَسمَعُ القَومَ يُعَزُّونَهُ، وَيَشُدُّونَ أَزْرَهُ، فَلا يُجِيبُ بِكَلِمَةٍ، حَتَّى لَيَحسِبَهُ النَّاظِرُ أَبْلَهًا. كان البَلاءُ أَكبَرَ مِن قُدرَتِهِ على الاستِيعابِ، فَلَفَّهُ صَمتٌ قاتِلٌ كَصَمتِ القُبُور.
مَرَّتِ الأَيَّامُ ثَقِيلَةً على العائِلَةِ الصَّغِيرَةِ الَّتي تَتَخَبَّطُ في الضَّياعِ، وَبَدَأَ يَنكَفِئُ عَنها المُؤَاسُونَ تِباعًا، وَيَترُكُونَها لِمُجابَهَةِ القَدَرِ الغامِض. وكانت راحِيلُ، في فَوْراتِ اليَأسِ الَّتي تَنتابُها، بَينَ حِينٍ وَآخَرَ، تَلجَأُ إِلى رَبِّها تَبُثُّهُ شَكواها، وَتَتَضَرَّعُ لَهُ مِن قَلبٍ مَفْطُور.
كان زَوجُها بارِعًا في الشُّؤُونِ الزِّراعِيَّةِ، ما جَعَلَهُ مَرجَعًا لِأَهلِ بَلدَتِهِ، يَسأَلُونَهُ العَوْنَ والاهتِمامَ بِأَرزاقِهِم، وَلا يَبخُلُونَ عَلَيهِ بِالأَجْرِ المُحتَرَمِ، وَكانُوا يَتَنافَسُونَ عَلَيهِ، فَيَكادُ لا يَستَطِيعُ تَلبِيَةَ طَلَباتِهِم جَمِيعًا، فَالكُلُّ يُرِيدُهُ لِما كان يَتَمَتَّعُ بِهِ مِن صِدْقٍ وَإِخلاصٍ وَحَذاقَة. فَكانَ يَدُرُّ على عائِلَتِهِ مالًا كافِيًا لِلعَيشِ بِيُسْرٍ مَضبُوط. وَاليَومَ، جَفَّ هذا المَنْهَلُ، وَلا سَبِيلَ إِلى تَعوِيضِه. وَلَم يَبْقَ لَها إِلَّا البُكاءُ مُتَنَفَّسًا، وَالصَّلاةُ مَلاذًا، وَأَرضٌ زِراعِيَّةٌ مَحدُودَةٌ تَكادُ لا تَفِي بِالأَوَدِ المَطلُوب.
***
لَم تُجْدِ جُهُودُ الأُمِّ وَتَوَسُّلاتُها في ثَنْيِ الشَّابِّ عَن السَّفَرِ، وَمَرَّ الشَّهرُ، وكان كُلُّ شَيءٍ قَد أُعِدَّ لِلرَّحِيلِ، فَنَزَلَ مَسعُودُ إِلى بَيرُوتَ لِيُوَدِّعَ عائِلَةَ عَمَّتِهِ، وَيُزَوِّدَ نَظَرَهُ مِن فَتاةِ أَحلامِهِ، وَقَد وَطَّدَ العَزْمَ على مُصارَحَتِها بِحُبِّه.
استَقبَلَتهُ عَمَّتُهُ بِتَرحابٍ، وَراحَت تُشَجِّعُهُ، وَتُغدِقُ عَلَيهِ النُّصْحَ بِأَن يَكُونَ رَجُلًا قَوِيًّا فَلا يُخَيِّبُ آمالَ أُمِّهِ وَمَن يُحِبُّوهُ وَيَنتَظِرُوا عَودَتَهُ بِشَوق. وَلا بُدَّ أَن يُوَفِّقَهُ الله.
كانت هُدَى في المَنزِلِ، ولكِنَّها سَتَترُكُ بَعدَ ساعَةٍ لِتَلتَحِقَ بِجامِعَتِها، فَاختَلَى بِها، وَبَعدَ كَلامٍ نَمَطِيٍّ مُفتَعَلٍ، حَدَّقَ إِلَيها وقال:
- هُدَى، هَل لِي بِمَعرِفَةِ حَقِيقَةِ شُعُورِكِ تُجاهِي. أَنتِ ذَكِيَّةٌ، وَلا بُدَّ أَنَّكِ تُدرِكِينَ حُبِّي لَكِ، وَلَو لَم أَبُحْ بِهِ صَراحَة. سَأُسافِرُ بَعدَ يَومَينِ، وَسَتَبقَينَ في بالِي، تَملَئِينَ وُجُودِي، وَإِنْ شاءَ اللهُ سَأَبنِي مُستَقبَلًا زاهِرًا، وَأَعُودُ إِلَيكِ لِأَنَّكِ أَمَلِي الوَحِيدُ في الحَياة. ثُمَّ صَمَتَ، مُستَرسِلًا في أَحلامِهِ، وهي مُطَأْطَأَةُ الرَّأسِ، صامِتَةٌ كَحَجَر. وَبَعدَ بُرهَةٍ وَجِيزَةٍ سَأَلَها عَن مَغْزَى سُكُوتِها العَمِيقِ، فَقالَت: مَسعُود… أَنتَ تَعلَمُ مَكانَتَكَ في بَيتِنا، وَأَنتَ ابنُ خالِي، وَرَفِيقُ طُفُولَتِي، وَتَجمَعُنا مَوَدَّةٌ أَقوَى مِن القَرابَةِ، وَذِكرَياتٌ حَمِيمَةٌ مِن زَمَنٍ جَمِيلٍ، وَأَنا أَعتَبِرُكَ أَخِي الَّذي لَم تَهَبْنِي إِيَّاهُ الحَياة. وَلكِنْ… أَرجُوكَ أَن لا تَذهَبَ في تَفكِيرِكَ أَبعَدَ مِن هذا، فَأَنا في غَيرِ مَكان.
صَعَقَهُ كَلامُها، أَغمَضَ عَينَيهِ، فَبَدا كَأَنَّهُ في سُباتٍ عَمِيقٍ، لا يَعرِفُ ماذا يَقُول. استَمَرَّا على هذهِ الحالِ لَحَظاتٍ طِوالًا، ثُمَّ قامَ فَوَدَّعَها، وَدَخَلَ المَطبَخَ فَوَدَّعَ عَمَّتَهُ، وَقَفَلَ عائِدًا إِلى قَريَتِهِ، وَظَلامٌ يَلُفُّ كِيانَهُ كُلَّه.
مَرَّت أَيَّامٌ وهو في ذُهُولٍ مُطَّرِدٍ، مُتَدَرِّجًا مِن الإِحباطِ إِلى إِحساسٍ بِاليَأس. وكانَت تَعتَرِيهِ هُنَيهاتٌ يُخالِطُهُ فِيها ما يُشبِهُ الحِقْدَ على مَن كانَت، لِأَيَّامٍ، نُوْرَ حَياتِهِ، فَيَنفُضُ رَأسَهُ بِقُوَّةٍ لِيَجلُوَ عَنهُ هذهِ الأَفكارَ القاتِمَة. لَقَد كَبُرَ الأَمرُ في نَفسِهِ، وَرَأَى أَنَّها تَنظُرُ إِلَيهِ مِنْ عَلُ، وَأَنَّ مَوَدَّتَها لَهُ إِنْ هِي إِلَّا إِشفاقٌ على قَرِيبٍ طَيِّبِ القَلبِ، ولكِنَّهُ دُونَ مُستَواها على كُلِّ الصُّعُد.
جَمَّعَ أَصابِعَهُ، وَعَصَرَ قَبضَتَهُ، وقال في نَفسِه: سَأُسافِرُ وَأَفعَلُ المُستَحِيلَ لِأَعُودَ بِثَروَةٍ، وَسَأَجعَلُ هُدَى وَأَهلَها يَسعُونَ إِلَيَّ بِتَقدِيرٍ واحتِرام.
***
وَصَلَ مَسعُودُ إِلى مَطارِ لاغُوس (Lagos) في أَواخِرِ العامِ 1959، وكانَ في انتِظارِهِ الشَّابُّ النَّيجِيرِيُّ أَلِيكْس أُولادِيبُو الَّذي يَنتَمِي إِلى قَبِيلَةِ الإِيبُو (Igbo) وهي إِحدَى كُبرَياتِ القَبائِلِ هُناك. وقد أَرسَلَهُ أَبُو هانِي، وهو مِن عُمَّالِهِ المُخلِصِينَ، وَيَتَكَلَّمُ الإِنجلِيزِيَّةَ جَيِّدًا. بَيْدَ أَنَّ هذا لَم يُجْدِ فَتِيلًا فَمَسعُودُ لا يَفهَمُ مِنَ الإِنكلِيزِيَّةِ حَرفًا واحِدًا، لِذا كان تَفاهُمُهُما عَسِيرًا، عِمادُهُ الإِشاراتُ وَالتَّصوِيرُ بِالأَصابِع.
استَقَرَّ مَسعُودُ في مُجَمَّعٍ لِلعُمَّالِ تابِعٍ لِشَرِكَةِ (Hani group for woods)، وكانَ أَلِيكْس مُدَرِّبَهُ وَمُوَجِّهَهُ في العَمَل. تَقَدَّمَ مَسعُودُ سَرِيعًا في تَعَلُّمِ الإِنجلِيزِيَّةِ بِقَدْرٍ سَمَحَ لَهُ بِالتَّفاهُمِ اليَسِيرِ مع صَدِيقِهِ المُدَرِّبِ، وَزُمَلائِه.
تَوَطَّدَت صَداقَةٌ مَتِينَةٌ بَينَ الشَّابَّينِ، رُغمَ أَنَّ أَلِيكْس يَكبُرُ مَسعُودًا بِسِتِّ سَنَوات. فَقَد جَمَعَتهُما آراءٌ مُشتَرَكَةٌ في الحَياةِ، وَصِدقٌ في المَحَبَّةِ، وَنَقاءٌ في السُّلُوكِ، على نَوايا صافِيَةٍ، وَتَضحِيَةٍ مُتَبادَلَة. فَتَعاهَدا أَن يَتَرافَقا إِلى لُبنانَ يَومًا.
يَعِيشُ أَلِيكْس مع والِدَتِهِ، فَوالِدُهُ تُوُفِّيَ مِن سَنَواتٍ بَعدَ مُعاناةٍ مع مَرَضٍ رِئَوِيّ. وَلَهُ أُختٌ مُتَزَوِّجَةٌ تَزُورُهُم في فَتَراتٍ مُتَباعِدَةٍ إِذ كان سَكَنُها في مَدِينَةٍ نائِيَةٍ عَنهُم. كان أَلِيكْس يَدعُو صَدِيقَهُ إِلى أَكلَةِ البامِيَةِ بِزَيتِ النَّخِيلِ الأَحمَرِ، وَحَساءِ الفُلفُلِ، تُعِدُّها والِدَةُ أَلِيكْس خِصِّيصًا لِمَسعُودَ بَعدَ أَن أَظهَرَ استِطابَتَها.
لاحَظَ مَسعُودُ أَنَّ صَدِيقَهُ يَتَرَدَّدُ إِلى اجتِماعاتٍ سِرِّيَّةٍ تُعقَدُ في أَماكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ، مُرافِقًا ابْنَ عَمِّهِ كَلِيتْش الضَّابِطَ في القُوَّاتِ المُسَلَّحَةِ المَحَلِّيَّة. وَلَكَم سَمِعَ مِنهُ كَلامًا نارِيًّا حَولَ حاجَةِ البِلادِ إِلى التَّحَرُّرِ مِن الاستِعمارِ الإِنجلِيزِيّ. فَسَأَلَهُ يَومًا عَن الأَمرِ، فَأَخبَرَهُ أَنَّهُ عُضْوٌ في مُنَظَّمَةٍ سِرِّيَّةٍ تَعمَلُ لِنَيْلِ الاستِقلالِ، وَلكِنَّ طُمُوحاتِها تَتَعَدَّى هذا الأَمرَ إِلى استِلامِ الحُكْمِ الجَدِيدِ، وَإِقامَةِ دَولَةٍ دِيمُوقراطِيَّةٍ حَدِيثَة.
أَكبَرَ مَسعُودُ في صَدِيقِهِ هذا الاندِفاعَ، والوَطَنِيَّةَ الصَّافِيَةَ، ولكِنَّهُ أَلَحَّ عَلَيهِ بِالانتِباهِ الزَّائِدِ، فَفِي لُعبَةٍ كهذه يَكُونُ الخَطَرُ كَبِيرًا وَجاسِمًا في كُلِّ لَحظَة.
***
وَكانَ يَومُ اثنَينِ، لَم يَأْتِ أَلِيكْس إِلى العَمَل. لَم يَرَهُ مَسعُودُ مُنذُ ما بَعدَ نَهارِ السَّبتِ السَّابِق. فَما تُراهُ قَد حَصَل؟
انتابَهُ قَلَقٌ غامِضٌ، وَلَم يَنتَهِ دَوامُ عَمَلِهِ حَتَّى خَفَّ إِلى مَنزِلِ صَدِيقِهِ فَوَجَدَ أُمَّهُ ساهِمَةً، والضَّابِطَ قَرِيبَهُ عابِسَ الوَجه. سَأَلَ الأُمَّ عَن أَلِيكْس فَأَخَذَهُ الضَّابِطُ ناحِيَةً وَأَخبَرَهُ أَنَّ صاحِبَهُ مُحتَجَزٌ عِندَ الشُّرطَة. لَقَد كانُوا لَيلًا في اجتِماعٍ سِرِّيٍّ حِينَ داهَمَهُمُ البَولِيسُ، فَفَرُّوا جَمِيعًا مِن مَخرَجٍ خَلفِيٍّ مُعَدٍّ لِهذهِ الأَحوالِ، ولكِنَّ أَلِيكْس فُوجِئَ بِشُرطِيٍّ حاوَلَ شَهْرَ مُسَدَّسِهِ فَعاجَلَهُ بِضَربَةِ عَصًا على رَأسِهِ سَقَطَ جَرَّاءَها أَرضًا، وَحاوَلَ الهَرَبَ ولكِنَّهُ حُوْصِرَ مِن أَربَعَةٍ مِن رِجالِ الأَمنِ، فَاعتَقَلُوه. وَكانَ مِن حُسْنِ طالِعِهِ أَنَّ الشُّرطِيَّ الجَرِيحَ لَم يَمُت.
حُكِمَ على أَلِيكْس بِشَهرَي سِجْن. فَطَلَبَ مَسعُودُ مِن صاحِبِ العَمَلِ “أَبِي هانِي” السَّماحَ لَهُ بِأَن يَقُومَ بِالمَهامِّ المُوكَلَةِ إِلى صَدِيقِهِ السَّجِينِ، وَأَكَّدَ لَهُ أَنَّهُ لَن يَرَى أَيَّ نَقْص. وَنَظَرًا لِمَنزِلَةِ مَسعُودَ عِندَ رَبِّ العَمَلِ، بِناءً على انضِباطِهِ وَتَفانِيهِ وَتَضحِياتِهِ المُتَكَرِّرَةِ، فَقَد استَجابَ لِطَلَبِه. فَغَدا كَالنَّحلَةِ الَّتي لا تَهدَأُ، وَكَم مِنَ الأَيَّامِ كانَ يُلازِمُ عَمَلَهُ حَتَّى وَقتٍ مُتَأَخِّرٍ مِنَ اللَّيلِ، لِتَجهِيزِ الوَثائِقِ وَالجَداوِلِ المَطلُوبَةِ في الغَدِ، وَحَتَّى يَتِمَّ كُلُّ شَيءٍ في أَوانِه.
وهكذا فَإِنَّهُ كانَ يَعمَلُ بِشَكلٍ مُتَواصِلٍ حَتَّى الإِنهاكِ، ويَتَناوَلُ طَعامَهُ وهو يَقُومُ بِبَعضِ مَهامِّهِ، خَشيَةَ أَنْ يَظهَرَ أَيُّ تَقصِيرٍ في العَمَل.
كان مَسعُودُ يَتَلَقَّى الأَجْرَ المُتَوَجِّبَ لِصَدِيقِهِ، وَيُعطِيهِ لِوالِدَتِهِ الَّتي كانَ يَتَفَقَّدُها يَومِيًا بَعدَ عَمَلِهِ، وَيُؤَمِّنُ لَها احتِياجاتِها، حَتَّى إِنَّها مازَحَتهُ يَومًا، وهي تَضحَكُ، بِقَولِها: بِاللهِ عَلَيكَ، دَرِّبْ صَدِيقَكَ على القِيامِ بِواجِبِهِ بِهذِهِ الدِّقَّة. يا بُنَيَّ، أَنتَ أَوْفَى النَّاسِ لابْنِي، وأَنا أُصَلِّي كَي يَكُونَ الله إِلَى جانِبِكَ، وَيَحفَظَكَ لِأُمِّك.
خَرَجَ أَلِيكْس مِنَ السِّجنِ، وَعِندَما وَصَلَ إِلى بَيتِهِ بِرُفقَةِ بَعضِ أَقارِبِهِ وَجَدَ مَسعُودَ هُناكَ، فَعانَقَهُ طَوِيلًا، شاكِرًا لَهُ ما قامَ بِهِ، فَمازَحَهُ هذا، مُخَفِّفًا عَنهُ عِبْءَ الجَمِيل: لا ضَرُورَةَ لِلشُّكر. سَأَجعَلُكَ تَدفَعُ الثَّمَنَ غالِيًا، فاَنتَظِرْ، وَرَبُّكَ كَرِيم. وَنَظَرَ فَرَأَى شَيئًا يَلتَمِعُ في عَينَي صَدِيقِه.
***
في عام 1960 نالَت نَيجِيرِيا استِقلالًا جُزْئِيًّا في فِيدِيرالِيَّةٍ مَحدُودَةٍ تَحتَ رِقابَةِ الحُكْمِ الإِنكلِيزِيّ. وَبَقِيَت النَّشاطاتُ السِّرِّيَّةُ لِلمَجمُوعاتِ الوَطَنِيَّةِ المُتَفَرِّقَةِ قائِمَة. وَزادَ حَماسُ أَلِيكْس واندِفاعُهُ، بِالرُّغْمِ مِن نَصائِحِ صَدِيقِهِ مَسعُود أَنْ يُخَفِّفَ مِن غُلَوائِهِ، مُرَدِّدًا أَمامَهُ بِالعَرَبِيَّةِ المَثَلَ “مُشْ كُلّْ مَرَّة بتِسْلَمْ الجَرَّة”، فَيَضحَكانِ عِندَما يُحاوِلُ أَلِيكْس إِعادَةَ لَفظِهِ بِعَرَبِيَّةٍ مَكتُومَةِ المَخارِجِ، رَخْوَةِ المَفاصِلِ، مُحَطَّمَةِ الزَّوايا.
***
كانَ مَسعُودُ يُرسِلُ إِلى أُمِّهِ ما يَتَوَفَّرُ لَهُ مِنَ المالِ مع أَبِي هانِي في بَعضِ زِياراتِهِ إِلى الوَطَنِ، وَيَسأَلُهُ عَن أَحوالِ بَيتِ عَمَّتِهِ مِن دُونِ أَن يَخُصَّ هُدَى بِالذِّكْرِ كَي لا يُثِيرَ في نَفسِهِ رِيبَة.
استَمَرَّ في عَمَلِهِ “راضِيًا مَرْضِيًّا”(3) حَتَّى العامِ 1967. حِينَها استَعَرَت حَربٌ أَهلِيَّةٌ مَزَّقَتِ البِلاد. فَضَمُرَت نَشاطاتُ الشَّرِكَةِ، فَتَرَكَها، وَدَخَلَ في أَعمالٍ يَلُفُّها الغُمُوضُ مع صَدِيقِهِ أَلِيكْس وَقَرِيبِهِ الضَّابِط. كانُوا يُتاجِرُونَ بِالمَوادِّ الغِذائِيَّةِ عَلانِيَةً، وَمِن وَرائِها، في الخُفْيَةِ، بِالأَسلِحَةِ المُتَنَوِّعَةِ يَمُدُّهُم بِها مُهَرِّبُونَ يَتَسَلَّلُونَ مِن التّشاد إِلى نَيجِيرِيا عَبْرَ مَسالِكَ وَعِرَةٍ عِندَ حُدُودِها الشَّرقِيَّة.
في البِدايَةِ تَمَنَّعَ مَسعُودُ قَطْعًا عَن الضُّلُوعِ في تِجارَةِ الأَسلِحَةِ، فَراحَ صَدِيقُهُ يُقنِعُهُ بِأَنَّ السِّلاحَ الَّذي يَشتَرُونَهُ لا يَبِيعُونَهُ إِلَّا إِلى جَماعَتِهِم الَّتي تُحارِبُ في سَبِيلِ تَحرِيرِ البِلادِ مِن الطُّغَمِ الفاسِدَةِ الَّتي تَستَهلِكُ مَصالِحَ النَّاسِ وَحَياتَهُم، وَتُسَعِّرُ القِتالَ بَينَ الفِئاتِ لِتُحافِظَ على مَصالِحِها المَشبُوهَةِ، وَتَحُولَ دُونَ قِيامِ الدَّولَةِ العَصرِيَّة. اقتَنَعَ مَسعُودُ بِحُجَجِ رَفِيقِهِ ولكِنْ على مَضَضٍ، وَباتُوا يَعمَلُونَ بِزَخْم. وَلَكَم كانَت تَمُرُّ عَلَيهِم لَيالٍ يَبِيتُونَ في العَراءِ، وَالخَطَرُ مُحْدِقٌ بِهِم مِن كُلِّ جانِب. بَيْدَ أَنَّ ضَناهُم هذا كان يُغدِقُ عَلَيهِمِ الأَموالَ الطَّائِلَة. وَفي المُقابِلِ كانا يَقُومانِ بِإِعالَةِ كَثِيرٍ مِن المُحتاجِينَ “لِوَجهِ اللَّهِ لا يُرِيدُونَ مِنهُم جَزاءً ولا شُكُورا”(4).
استَمَرَّا على هذا المِنوالِ حَتَّى انتِهاءِ الحَربِ الأَهلِيَّةِ في أَوائِلِ العامِ 1970. آنَئِذٍ أَسَّسُوا شَرِكَةً لِتَصدِيرِ القَصْدِيرِ، بِدَعْمٍ مِن مَسؤُولٍ عَسكَرِيٍّ كَبِيرٍ كانَ كَلِيتْش مِن مُرافِقِيهِ المَوثُوقِ بِهِم.
فَتَحَ مَسعُودُ حِسابا مَصرِفِيًّا في بَيرُوتَ، وَراحَ يُغَذِّيهِ بِاستِمرارٍ، فَتَوَفَّرَ لَهُ رَصِيدٌ مُكتَنِزٌ جَعَلَهُ مِنَ الأَثرِياءِ المُتَوَسِّطِينَ، فَاشتَرَى مَنزِلًا فَخْمًا في بَيرُوتَ، وَأَثَّثَهُ بِأَجوَدِ الرِّياش. وَرَغِبَ إِلى أُمِّهِ أَن تَقضِي فيه فُصُولَ الشِّتاءِ بَعِيدًا عن ثُلُوجِ الجَبَلِ وَبَردِهِ القارِس. ولكِنَّ الأُمَّ تَمَنَّعَت بِشَكلٍ قاطِعٍ، قائِلَةً لابنِها: لا أُطِيقُ السَّكَنَ خارِجَ بَيتِي الَّذي عِشتُ فِيهِ كُلَّ حَياتِي، وَبَعِيدًا عَن صاحِباتِي وَبَلدَتِي، وَإِذا أَلحَحْتَ عَلَيَّ فَكَأَنَّكَ تَدعُونِي إِلى الشَّقاءِ، كَي لا أَقُولَ المَوت. فَكَفَّ عَن طَلَبِهِ، وَتَرَكَها تَفعَلُ ما يَحلُو لَها، وَيُرِيحُها.
لَم يُقَصِّرْ مَسعُودُ إِزاءَ بَلدَتِهِ، فَدَرَجَ على تَقدِيمِ العَونِ، بِسخاءٍ، إِلى جَمعِيَّاتِها الرِّياضِيَّةِ وَالثَّقافِيَّةِ وَالخَيرِيَّةِ، حَتَّى باتَ حَدِيثَ النَّاسِ هُناك، يَتَكَلَّمُونَ عَن نَخْوَتِهِ، وَيُرَدِّدُونَ: هو، حَقًّا، الشِّبْلُ ابْنُ ذاكَ الأَسَد!
***
تَخَرَّجَت هُدَى مِن الجامِعَةِ في العامِ 1963، حامِلَةً شَهادَةً في إِدارَةِ الأَعمال. وَسُرعانَ ما وَجَدَت لها عَمَلًا في شَرِكَةِ (BOM / Beyrouth Outre – Mer) لِلتِّجارَةِ الخارِجِيَّةِ، وذلك بِتَدبِيرٍ مِن والِدِها الَّذي يَتَمَتَّعُ بِمَركَزٍ مَرمُوقٍ في إِدارَةِ المَرفَأ. وَهُناكَ تَعَرَّفَت على سَمِير، زَمِيلِها في العَمَلِ، وَنَشَأَت بَينَهُما عَلاقَةٌ أَدَّت إِلى زَواجِهِما في العامِ 1966، وَرُزِقا ابنَةً أَطلَقا عَلَيها اسمَ دارِين.
تُوُفِّيَ سَمِير في العامِ 1972 نَتِيجَةَ مَرَضٍ عُضالٍ أَصابَهُ، ما أَحالَ حَياةَ هُدَى يَأسًا كادَ يُحَطِّمُها، فَتَرَكَت مَنزِلَها المُستَأجَرَ، وانتَقَلَت لِلسَّكَنِ مَعَ أَهلِها، بَعدَ إِلحاحِهِما.
بَعدَ عامٍ تُوُفِّيَت والِدَتُها بِشَكلٍ مُفاجِئٍ غَيرِ مُتَوَقَّعٍ، فَلَم تَكُن تَشكُو مِن أَيِّ مَرَضٍ خَطِر. وَرَجَّحَ الطَّبِيبُ أَن تَكُونَ أُصِيبَت بِسَكتَةٍ دِماغِيَّة.
كانَ عَسِيرًا جِدًّا على هُدَى تَقَبُّلُ هذَينِ المُصابَينِ المُتَتابِعَينِ في فَترَةٍ قَصِيرَةٍ مِن الزَّمَنِ، فاجتاحَتها مَوجَةُ حُزنٍ مَرِيرٍ دَفَعَت بِها إِلى اكتِئابٍ عَكَّرَ مِزاجَها بِانقِباضٍ حادٍّ، وانفِعالِيَّةٍ غَيرِ مُبَرَّرَةٍ في أَغلَبِ الأَحيان. وَأَظلَمَتِ الدُّنيا في عَينَيها لِفَترَةٍ طَوِيلَةٍ، حَتَّى استَعادَت طَوْرَها بَعدَ أَن أَدرَكَت أَنَّ حالَتَها سَتَنعَكِسُ سُوءًا على ابنَتِها وَوالِدِها.
***
في 13 نَيسان مِن العامِ 1975 اندَلَعَت حَربٌ أَهلِيَّةٌ في لُبنانَ، فَقُسِّمَتِ العاصِمَةُ بَيرُوتُ قِسمَينِ، بَيرُوتُ الشَّرقِيَّةُ وَبَيرُوتُ الغَربِيَّةُ، بِفاصِلٍ بَينَهُما سُمِّيَ خُطُوطَ التَّماسِّ، حَيثُ تَمَركَزَ المُسَلَّحُونَ مِن كُلِّ الفِئَاتِ، وَسادَت شَرِيعَةُ الغابِ، وَعَمَّ الخَطْفُ والقَتْلُ على الهُوِيَّةِ، وَأَضحَى قَنْصُ الأَبرِياءِ مِن مَكامِنَ على السُّطُوحِ العالِيَةِ مِن يَومِيَّاتِ النَّاسِ المُغلُوبِينَ على أَمرِهِم.
تَعَطَّلَتِ الحَياةُ في مَرافِقَ كَثِيرَةٍ مِن العاصِمَةِ، وَأَقفَلَتِ المَدارِسُ القَرِيبَةُ مِن خُطُوطِ النَّارِ أَبوابَها، وَباتَ الوُصُولُ إِلى المَرفَأ مُغامَرَةً يَتَحاشاها والِدُ هُدَى بِارتِيادِ طُرُقٍ فَرعِيَّةٍ ضَيِّقَةٍ مُلتَوِيَةٍ تَحجُبُ المَنازِلُ على جانِبَيها العابِرِينَ عَن أَعيُنِ القَنَّاصَةِ المُتَرَبِّصِين.
وَلكِنَّ “الحَذَرَ لا يَقِي مِنَ القَدَرِ”، فَفِي أَواخِرِ الشَّهرِ الأَخِيرِ مِنَ العامِ 1975، خَرَجَ والِدُ هُدَى مِن عَمَلِهِ، استَقَلَّ سَيَّارَتَهُ قاصِدًا مَنزِلَهُ، وفي شارِعٍ جانِبِيٍّ اعتادَ المُرُورَ فِيهِ كُلَّ يَومٍ في ذَهابِهِ وَإِيابِهِ، سَقَطَت قَذِيفَةُ مِدْفَعٍ بِالقُربِ مِن سَيَّارَتِهِ، فَأُصِيبَ بِشَظِيَّةٍ في رَأسِهِ قَتَلَتهُ على الفَوْر.
لَم تَقْوَ هُدَى على تَحَمُّلِ الصَّدمَةِ، وَالْتَمَّ بِها جِيرانُها، وكانَ مِن بَينِهِم طَبِيبٌ أَنعَشَها بِوَسائِلِهِ الطِّبِّيَّةِ بَعدَ أَن أُغمِيَ عَلَيها.
مِن سُخرِيَةِ الزَّمَنِ أَنَّ الحَربَ كادَت أَن تُصبِحَ نَمَطَ عَيشٍ يَعتادُ النَّاسُ عَلَيهِ، وَشُلَّتِ الحَياةُ العامَّةُ جُزْئِيًّا، وَأَقفَلَتِ الشَّرِكَةُ الَّتي تَعمَلُ فِيها هُدَى أَبوابَها، وَسَرَّحَت مُوَظَّفِيها، وَنَقَلَت مَركَزَ عَمَلِها إِلى جَزِيرَةِ قُبْرُص.
وَجَدَت هُدَى نَفسَها مِن دُونِ عَمَلٍ يَدُرُّ عَلَيها ما يَقُومُ بِمَصارِيفِ العَيشِ المُتَزايِدَةِ، وَبَدَأت مُدَّخَراتُها وَما تَوَفَّرَ لَها مِن أَبِيها بِالنَّفادِ رُوَيدًا رُوَيدًا. فَانتَظَرَت نِهايَةَ العامِ الدِّراسِيِّ، فَباعَتِ المَنزِلَ الَّذي وَرِثَتهُ عَن أَهلِها، وَوَضَعت ثَمَنَهُ في حِسابٍ مَصرِفِيٍّ يَمُدُّها بِفائِدَةٍ شَهرِيَّةٍ تَكفِيها بِضَبْطِ النَّفْسِ واختِصارِ النَّفَقاتِ، وَعادَت إِلى بَلدَتِها الجَبَلِيَّةِ، فَاستَقَرَّت هُناكَ في مَنزِلِ أَهلِها، وَسَجَّلَت ابنَتَها في مَدرَسَةِ البَلدَة.
بَعدَ فَترَةٍ وَجِيزَةٍ مِن وُجُودِها في الجَبَلِ بَدَأَت تَتَعَرَّضُ لِمُضايَقاتٍ مِن “أَبِي اللَّيلِ” المَسؤُولِ العَسكَرِيِّ عَن مِيلِيشِيا “حِزبِ الأَرزِ” المُتَمَركِزَةِ هُناك. هو شابٌّ مُلْتَحٍ، فَظٌّ، غَرِيبٌ عَن المِنطَقَةِ، كانَ تَواجُدُهُ هُناكَ نَتِيجَةً لِلمَعارِكِ الَّتي اشتَعَلَت بَعدَ مُحاوَلَةِ مُسَلَّحِينَ مُعادِينَ الدُّخُولَ إِلى البَلدَة. وكانَ النَّاسُ يَهابُونَهُ، لِما عُرِفَ عَنهُ مِن البَطْشِ، وَقَد ذاعَ بَينَ النَّاسِ أَنَّهُ اختَطَفَ ثَلاثَةَ شُبَّانٍ مِن قَريَةٍ قَرِيبَةٍ، اتَّهَمَهُم بِالانتِماءِ إِلى حِزْبٍ مُعادٍ، فَقَتَلَهُم وَأَلقَى جُثَثَهُم في الوادِي الفاصِلِ بَينَ المِنطَقَتَينِ المُتَنازِعَتَين.
كان يَتَعَمَّدُ المُرُورَ بِقُربِها في سَيَّارَتِهِ العَسكَرِيَّةِ كُلَّما ذَهَبَت إِلى سُوقِ البَلدَةِ لِشراءِ شَيءٍ ما، فَيَعرِضُ عَلَيها خَدَماتِهِ، وَيَسأَلُها أَن تَطلُبَ مِنهُ ما تَشاءُ، فَكانَت تَشكُرُهُ بِاقتِضابٍ، وَتُكمِلُ سَيرَها، والخَوفُ يَنهَشُها. وكانَت تَكتُمُ الأَمرَ، وَتَخشَى أَن يَظُنَّ النَّاسُ بِها سُوءًا، خُصُوصًا أَنَّها أَرمَلَةٌ، وَالأَرامِلُ، في القُرَى، يُعانِينَ الضَّنْكَ في تَحاشِي أَلسِنَةِ النَّمَّامِينَ، وَتَخَرُّصاتِ الخُبَثاء.
إِلى أَن أَتَى يَومٌ كانَت في مَنزِلِها، وَإِذْ بِسَيَّارَتِهِ تَقِفُ في الباحَةِ، فَخَرَجَت لِتَمنَعَهُ مِنَ الدُّخُولِ، فَبَدَأَ بِعَرْضِ خَدَماتِهِ المَجَّانِيَّةِ، ثُمَّ قالَ لَها إِنَّهُ مُعجَبٌ بِها، يَحتَرِمُها، وَلا يُرِيدُ بِها شَرًّا، ولكِنَّهُ يَرغَبُ في صَداقَتِها. فَرَجَتهُ أَن يَكُفَّ عَن مُراقَبَتِها وَمُلاحَقَتِها، وَأَن يَترُكَها وَشَأنَها. فَوَقَفَ جامِدًا، صامِتًا، ثُمَّ هَزَّ رَأسَهُ، فَاعتَذَرَت إِلَيهِ، وَدَخَلَت وَأَغلَقَت وَراءَها الباب.
وَعِندَما غادَرَ بِسَيَّارَتِهِ، خَفَّت إِلى مَنزِلِ أُمِّ مَسعُود. وَهُناكَ، لاحَظَت قَرِيبَتُها تَوَتُّرَها الزَّائِدَ، وَشُرُودَها فَأَلَحَّت عَلَيها أَن تُخبِرَها ما بِها، فَانفَجَرَت في مَوْجَةِ بُكاءٍ، وَشَكَت أَمرَها في نَشِيجٍ مُتَواصِل.
لَم تَتَجاهَل راحِيلُ مُشكِلَتَها بَل دَأَبَت على زِيارَتِها بِاستِمرارٍ، وكانَت تَدعُوها لِقَضاءِ النَّهارِ عِندَها. وَهكذا كانَ، فَارتاحَت هُدَى مِن جُلِّ مُعاكَساتِ هذا الشَّابِّ الغَلِيظ.
***
مَرَّت أَعوامٌ وَمَسعُودُ لا يَأتِي إِلى لُبنانَ بِسَبَبِ الحَربِ الدَّائِرَةِ فِيهِ، وَلِأَنَّ أَعمالَهُ المُتَنامِيَةَ كانَت حائِلًا إِضافِيًّا دُونَ هذه العَودَة.
في صَيفِ العامِ 1977 تَلَقَّى رِسالَةً مِن والِدَتِهِ، تُخبِرُهُ كُلَّ ما في جَعْبَتِها، حَتَّى قَرَأَ الآتِي: “وَأُخبِرُكَ عَن هُدَى ابنَةِ عَمَّتِكَ، هذه المِسكِينَةُ الَّتي يُلاحِقُها القَدَرُ مِن مَوتِ زَوجِها إِلى مَوتِ والِدَيها، إِلى صَرْفِها مِن عَمَلِها، مَوْرِدِها شِبْهِ الوَحِيد. وَكَأَنَّ هذا لا يَكفِي، فَها هي اليَومَ عُرْضَةٌ لِمُعاكَساتٍ مُتَكَرِّرَةٍ مِن “أَبِي اللَّيلِ”، المَسؤُولِ العَسكَرِيِّ في مِنطَقَتِنا. على أَنَّنِي لَم أَترُكْها وَحِيدَةً أَمامَهُ، فَكُنتُ أَدعُوها فَتَقضِي مُعظَمَ وَقتِها في بَيتِنا، وأَحيانًا كُنتُ أَقضِي يَومِي عِندَها، وَنَطبُخُ سَوِيَّة. كَم هي طَيِّبَةٌ وَمُحِبَّةٌ، ولكِنَّ حَظَّها في الحَياةِ كانَ قَلِيلًا جِدًّا. فَماذا نَستَطِيعُ أَنْ نَعمَلَ، يا بُنَيَّ، وَهَؤُلاءِ المُسَلَّحُونَ لا يَعرِفُونَ الرَّحمَةَ، وَلا يَخافُونَ الله”.
أَكمَلَ القِراءَةَ، ولكِنَّ أَفكارَهُ كانَت في مَكانٍ آخَر. لَن يَترُكَ هُدَى وَحِيدَةً إِزاءَ مَشاكِلِها مَهما كانَت النَّتائِج.
لَم يَمُرَّ أُسبُوعانِ حَتَّى وَصَلَ مَسعُودُ إِلى لُبنانَ. كانَت رحِلَتُهُ مُضنِيَةً، فَالوُصُولُ إِلى مَطارِ بَيرُوتَ دُونَهُ المَخاطِرُ الجَمَّةُ، ما جَعَلَهُ يَقصِدُ جَزِيرَةِ قُبرُصَ جَوًّا، ومِنها استَقَلَّ قارِبًا إِلى مَدِينَةِ جُونِيَة اللُّبنانِيَّة، وَمِنها ذَهَبَ تَوًّا إِلى بَلدَتِه، فَوَصَلَها في العاشِرَةِ لَيلًا. لَم تُصَدِّقْ أُمُّهُ عَينَيها عِندَما دَخَلَ المَنزِلَ، فَرَسَمَت إِشارَةَ الصَّلِيبِ وَصَرَخَت: “يا عَدْرا دَخِيلِك”. ثُمَّ ضَمَّتهُ وَدُمُوعُها تَجرِي وهي تَسأَلُهُ هَل أَلَمَّ بِهِ مَكرُوهٌ ما، وَلِماذا أَتَى مِن دُونِ أَن يُعلِمَها قَبْلُ، فَلَو سَأَلَها لَنَصَحَتهُ بِالتَّرَيُّثِ فَالظُّرُوفُ سَيِّئَةٌ جِدًّا، وَالبَلَدُ يَتَأَرجَحُ بِرُمَّتِهِ على حافَّةِ الهاوِيَة.
طَمأَنَها أَنَّ جَمِيعَ أُمُورِهِ وَأَعمالِهِ بِخَيرٍ، وَقَد اضطُرَّ لِلمَجِيءِ بَغتَةً لِأَمرٍ ضَرُورِيٍّ يَتَعَلَّقُ بِتِجارَتِهِ، وَأَنَّهُ سَيَعُودُ بَعدَ عَشَرَةِ أَيَّام لِأَسبابٍ تَتَعَلَّقُ بِأَعمالِهِ في نَيجِيرِيا.
في الصَّباحِ قالَ لِأُمِّه: سَأَذهَبُ لِأُفاجِئَ هُدَى، وَأَشرَبَ قَهوَتِي عِندَها، وَسَنَعُودُ سَوِيَّةً لِتَناوُلِ الطَّعامِ هُنا، فَأَنا اشتَقتُ كَثِيرًا لِطَبخِكِ يا أُمِّي، وَعانَقَها طَوِيلًا، فَهَمَت عَيناها، وَنَظَرَت إِلى العَلاءِ وَقالَت: “الله يخَللِّيلِي ياكْ يا ابْنِي”.
لَم تَكُنِ المُفاجَأَةُ على هُدَى بِأَقَلَّ مِمَّا كانَت على راحِيلَ، فَعانَقَت ابنَ خالِها، وَراحَت تُغرِقُهُ بِالأَسئِلَةِ المُتَتابِعَة. مَضَت ساعَةٌ وَكَأَنَّها دَقِيقَةٌ، وَهُما يَتَحَدَّثانِ في كُلِّ شَيءٍ وَفِي لا شَيء. مِن مَآسِيها الَّتِي تَكَرَّرَت، إِلى ذِكرَياتِ الطُّفُولَةِ، إِلى حَياتِها اليَومِيَّةِ وَأَخبارِ ابنَتِها، ولكِنَّها لَم تَذكُرْ لَهُ مُشكِلَتَها مع المِيلِيشِياوِيِّ الأَرْعَن. وكانَ خَدَّاها بِلَونِ الخَمْرِ، وَبَدَت في عَينَيها غِبطَةٌ لَم تَستَطِعْ إِخفاءَها.
صارَحَها بِأنَّهُ يُتابِعُ كُلَّ أَخبارِها في الرَّسائِلِ الَّتي تَرِدُهُ مِن أُمِّهِ، وَأَنَّهُ أَتَى خِصِّيصًا بَعدَ أَن عَلِمَ بِمُعاكَساتِ الأَوباشِ المُسَلَّحِينَ لَها. ثُمَّ ابتَسَم وقال: ولكِنَّنِي لَم أُصارِحْ أُمِّي بِالسَّبَبِ الحَقِيقِيِّ لِمَجِيئِي. وَأَضافَ: لَن أَترُكَكِ وَحِيدَةً إِزاءَهُم مَهما كَلَّفَنِي الأَمر. لِذا أَرجُوكِ أَن تَترُكِي البَلدَةَ، وَتَنزِلِي إِلى بَيرُوتَ، فَمَنزِلِي هُناكَ اعتَبِرِيهِ مُلكَكِ.
وَهَمَّتْ بِمُقاطَعَتِهِ، فَأَسكَتَها مُتَوَسِّلًا إِلَيها أَن لا تَحرِمَهُ لَذَّةَ قُبُولِها. وَأَردَفَ بِقَولِه: أَرجُوكِ أَن لا تَشعُرِي بِأَدنَى مِنَّةٍ عَلَيكِ، وَإِنَّما أَنتِ المَنَّانَةُ، فَلَولا فَضْلُ أَبِيكِ عَلَيَّ لَكُنتُ الآنَ شابًّا عاطِلًا عَن العَمَلِ، يَتَسَكَّعُ بِلا هَدَفٍ في أَزِقَّةِ البَلدَةِ، وَيَجتَرُّ أَيَّامَهُ اجتِرارًا.
صَمَتَت طَوِيلًا، وهو يَتَأَمَّلُها بِإِمعانٍ زائِد. ثُمَّ قال: هُدَى، أَسأَلُكِ، وَقَلبِي يَخشَى مِن جَوابٍ يَصدِمُنِي، وَيُحَطِّمُ ما تَبَقَّى مِن حُلْمِ حَياتِي الَّذي انكَسَرَ يَومَ فَرَّقَتنا الأَيَّام. أَسأَلُكِ، بِالأَحرَى أَعرِضُ عَلَيكِ أَن نُكمِلَ العُمرَ مَعًا، وَسَتَكُونُ دارِين ابنَتَنا المُدَلَّلَةَ، وَسَأَكُونُ خادِمًا وَفِيًّا مُحِبًّا لَكِ حَتَّى نِهايَةِ الدَّرْب. أَنتِ، يا هُدَى، كُنتِ وَما زِلْتِ، أُمنِيَّةَ حَياتِي، وَجُزْءًا مِن صَلاتِي اليَومِيَّة.
وَلكِنْ… لا تَكُونِي مُحرَجَةً في خِيارِكِ، فَمَهما يَكُنْ جَوابُكِ سَتَبقَينَ أَعَزَّ عَلَيَّ مِن نَفسِي، وَسَأُضَحِّي في سَبِيلِكِ بِكُلِّ شَيء.
كانَت هُدَى مُطرِقَةً طَوالَ الوَقتِ، سادِرَةً في شُرُودٍ عَمِيقٍ، وهو يَتَأَمَّلُها بِحُبٍّ وَحَنان. طالَ ذُهُولُها، وَطالَ صَمتُهُ، وَإِذْ بِها تَقتَرِبُ مِنهُ وَتَحتَضِنُ يَدَهُ بِيَدَيها النَّاعِمَتَينِ، وَدَمعَتانِ تَنحَدِرانِ بِبُطْءٍ على خَدَّيها المُتَوَهِّجَين!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): مَجْبُور: إِسم المَفعُول مِن جَبَرَ / جَبَرَ العَظْمَ المَكسُورَ: أَصلَحَ كَسْرَهُ.
(2): “صَوتٌ سُمِعَ في الرَّامَةِ، نَوْحٌ وَبُكاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبكِي على أَولادِها وَلا تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى،
لأَنَّهُم لَيسُوا بِمَوجُودِينَ” (إِنجِيل مَتَّى، 2/18)
(3): ﴿يا أَيَّتُها النَّفسُ المُطمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرضِيَّة﴾
(القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ الفَجْر، الآيات 27، 28)
(4): ﴿إِنَّمَا نُطعِمُكُمْ لِوَجهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزاءً ولا شُكُورًا﴾
(القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ الإِنسان، الآيَة 9)