بقلم : حمدي رزق
عندما فاز الزعيم سعد زغلول بالانتخابات التي أجريت في يناير/ كانون الثاني العام 1924، وأعلن عن تشكيله الحكومة قال: أريدها “زغلولية” لحماً ودماً. حينها غضب طه حسين وهاجمه بعنف على صفحات “السياسة” قائلاً: يجب أن تضم الحكومة ما يريده الشعب وليس ما تريده أنت. صادرت النيابة العامة العدد الذي كتب فيه طه حسين مقالاته، وأحيل إلى النيابة في اليوم ذاته لرحيل أخيه، وحينها قال عبارته الشهيرة: “تركت مأتم أخي لأشهد مأتم الحرية”!
هل كانت “الحرية” هي كلمة السر في مشوار طه حسين، الذي تمر علينا ذكراه، فنتلفت حولنا ولا نجده معنا وما أحوجنا إليه اليوم؟ كانت الحرية في رأي العميد، مبدأ عاماً في حياة الجميع من أبناء المجتمع سواء في معناها السياسي أو الاجتماعي أو الفكري.
لكن إلى جانب الحرية كانت هناك أربعة مبادئ أخرى آمن بها طه حسين، يوردها جابر عصفور، هي العقلانية، الانسانية – التي جعلته ينتسب إلى ثقافة العالم كله، الايمان بالتقدم، والعدل، وقد تجاوز به العدل الاجتماعي إلى عدالة توزيع الثقافة والمعرفة.
“تعلمت من جدي طه حسين حرية الفكر وضرورة إعمال العقل فيما يقوله الآخرون سواء في الفكر، أو في الدين، ألا نأخذ عن الشيوخ دون بحث”.. هذا ما تقوله حفيدته مها عون، التي تعلمت منه أيضاً ألا تخشى الإعلان عن رأيها حتى لو أغضب هذا أهم الناس، وألا تخشى الانتقاد، أن يتم انتقاد كل شيء وكل شخص بحرية دون وجود خطوط حمراء. كان جدها حين يريد تدليل أطفاله الصغار، يروي لهم عن الشعر الجاهلي، ويحدثهم باللغة العربية الفصحى، كما يغرس في أولاده أن يتعلموا قول “لا” وألا يخشوا قولها أبداً في الحق.
كان طه حسين يخاطب جمهوره عن طريق الإذاعة – التي لم يكن هناك غيرها – كل خميس في تمام الساعة 9 مساء، الكل ينتظر سماعه، ومن لا يمتلك راديو يستمع إليه في المقهى، كان يبدأ خطابه قائلا: “آنساتي سيداتي وسادتي”، كان يجيد التعامل مع الجمهور، ويقول باستمرار “أنا فقير منحاز للفقراء”، وتزامنت نجومية طه حسين مع الوقت الذي ظهرت فيه الطبقة الوسطى من المجتمع، التي كانت عماد التقدم وقاطرته.
استطاع طه حسين أن يضرب أوّل معاول الهدم في التراث الغيبي في ثقافتنا العربية، وكان أكثر مثقفي جيله استعداداً لدفع الثمن ومواجهة الاستبداد الفكري كما تجلى في أزمات متعددة واجهت نصوصه، بدءاً من “في الشعر الجاهلي”، مروراً بـ“المعذبون في الأرض”، وصولاً الى “الفتنة الكبرى”.
لعل أفكار حسين الطليعية هى أشد ما نحتاجه اليوم بعد عام من حكم جماعة الإخوان الظلامية، وبعد أربعين عاما من تحالف الفساد والرجعية، كما يؤكد الناقد يسري عبد الله، فقد كان طه حسين إبن أوانه بامتياز، معبرا عن حلم المصريين في التقدم، كان يدرك تماما جدل العلاقة بين التعليم والثقافة، ويدرك أيضا أن الانفتاح على العالم جزء أصيل من مكونات الشخصية المصرية، وأنه لا عيش في ظل عالم منعزل، ولم ير في ذلك تعارضاً بين الحفاظ على محددات الهوية الحضارية المصرية، وبين انتمائها الحر إلى عالم رحب وسيع.
“مصر في قلب العالم، أنا أفريقي آسيوي شرق أوسطى بحر متوسطي”، هذا ما كان يردده طه حسين. إنه سؤال الهوية الذي مازال يتردد في أرض المحروسة من دون أن يجد إجابة شافية، يقول: “مصر لا عربية ولا إسلامية ولا قبطية ولا فرعونية مصر بحر متوسطية”، وفي موضع أخر قال “إن مصر ثقافياً وحضارياً هي دولة غربية، فلماذا ينظر المصريون لأنفسهم على أنهم من أهل الشرق، هل بسبب الدين واللغة؟ مصر كانت عبر التاريخ على اتصال بدول البحر المتوسط وبحر إيجا وأثرت في حضارة اليونان مثلما أثرت حضارة اليونان فيها”.
“هل كتب على الإنسانية أن تشقى بالعلم والدين”. كان هذا التساؤل يشغل عقل طه حسين، الذي طالب بـ“نزع السلاح من يد العلم والدين”، وهو سلاح تستخدمه السياسة حين تنتصر لطرف وتضطهد الطرف الآخر، حيث يضطهد المجددون من العلماء والفلاسفة والأنبياء.
يستشهد حسين على ذلك باضطهاد الفلاسفة في اليونان ثم اضطهاد العلماء في العصور الوسطى في أوروبا في ظل سلطة الكنيسة التي اختلقت خصومة بين العلم والدين وحين انتصر العقل الأوروبي بعد الثورة الفرنسية قام باضطهاد الدين ولقي رجاله “ضروبا من المحن والفتن”. لذلك وجد أن الخروج من هذا المأزق هو وقوف السياسة بحياد بين العلم والدين.
في كتابه “من بعيد” يعلق طه حسين على مادة “الإسلام دين الدولة” في الدستور قائلا: “كانت النتيجة الخطرة لهذا كله أن تكوّن في مصر أو أخذ يتكوّن فيها حزب رجعي يناهض الحرية والرقي ويتخذ الدين ورجال الدين تكئة يعتمد عليها في الوصول إلى هذه الغاية. فلم يعرف تاريخ مصر الحديث شيئا من اضطهاد حرية الرأي باسم السياسة والدين قبل صدور الدستور”..!
العميد والإخوان
“ولكننا نصبح ذات يوم سنكتشف أن فريقاً منا كانوا يهيئون الموت والهول والنكر لإخوانهم في الوطن ولإخوانهم في الدين ولإخوانهم في الحياة التي يقدسها الدين كما لا يقدس شيئاً آخر غيرها من أمور الناس”.. هذا ما كتبه العميد منذ اكثر من خمسين عاماً، وكأنه يعيش بيننا اليوم، وكانت المناسبة حادثة المنشية الشهيرة التي تعرض لها جمال عبد الناصر، فكتب يقول:
“لم تهن حياة الناس على الناس كما تهون عليهم في هذه الأيام، فقديمًا عرف الناس الحرب وأجروا دماءهم غزارًا في سبيل الحق حينًا وفي سبيل الباطل أحيانًا، وقديمًا عرف الناس المكر والكيد كما عرفوا البغى والعدوان، وقتل بعضهم بعضًا جهرًا مرة وغيلة مرارًا، ولكنهم كانوا يقدمون عليه من ذلك في كثير من التحرج قبل أن يقدموا، وفي كثير من الندم والروع بعد أن يتموا ما أقدموا عليه” ويستطرد: “ونحن نصبح ذات يوم فإذا الهول يتكشف لنا كأشنع ما يكون الهول، وإذا بعض المصريين يمكرون ببعض، وإذا الموت يريد أن يتسلّط على مصر كما تسلط على كثير غيرها من أقطار الأرض”.
“ما هذه الأسلحة وما هذه الذخيرة التي تدخر في بيوت الأحياء وفي قبور الموتى؟ ما هذا المكر الذي يمكن، وما هذه الخطط التي تدبر، وما هذا الكيد الذي يكاد؟ لِمَ كل هذا الشر.. الخير كل الخير أن نطب لهذا الوباء كما نطب لغيره من الأوبئة التي تجتاح الشعوب بين حين وحين”..!
كان طه حسين هو أول من أطلق لقب “ثورة” على أحداث يوليو / تموز 1952، والتي ساندها وأيدها بكل جوارحه، ورأى في أحداثها حلمه القديم في أن يرى مصر دولة ديموقراطية، مدنية. فعندما هاتفه سفير مصر في روما ليخبره بما حدث في مصر، كان أول رد فعل للعميد أن هتف لزوجته “قامت الثورة في مصر. ثورة ضد الملك”، وكان من الانفعال أن سقط مغشيا عليه.
اختير طه حسين ضمن لجنة الخمسين لوضع مشروع الدستور الجديد، فكتب في “الأهرام” يؤكد على أهمية : “ألا يكون الدستور منحة تهدى للشعب، فليست في مصر قوة تستطيع أن تهدي إلى الشعب دستورا، وإنما الشعب هو الذي يعطي نفسه الدستور الذي يريد”.
أنا طه حسين..
ولكن من هو طه حسين؟ يجيبنا العميد بنفسه في وثيقة بعنوان “أنا” عرضت حديثا بمناسبة ذكرى رحيله يقول فيها: “إن كان حقاً بعض الناس يعرفون أنفسهم معرفة تتيح لهم أن يتحدثوا فيسرفوا أو يوجزوا في الحديث عن أنفسهم تلك التي يعرفونها أو يزعمون انهم يعرفونها، فإنني لا يضيرني أن أعترف بأني لست أعرف نفسي، ولكني أعرف في نفسي خلالاً قد يعرفها بعض الناس وقد ينكرونها، أعرف فيها أنها نفس مؤمنة لا يزلها عن إيمانها أن تكون على رأي والناس جميعاً على رأي. وأعرف فيها التصميم حين تريد، وأعرف فيها الصبر على بأساء الحياة ونعمائها جميعاً.
على هذا الإيمان وهذا التصميم وهذا الصبر، مضيت في الحياة منذ كنت، إن الإيمان والتصميم والصبر هي الحياة التي تحقق معنى وجود الإنسان الحي الممتد بآثاره الإنسانية الباقية”..
في قرية صغيرة ترقد في حضن الفقر تسمى “عزبة الكيلو” بمحافظة المنيا، انطلقت صرخات الطفل طه، كان الزمان هو الرابع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني العام 1889، لأب يعمل موظفًا صغيرًا في شركة السكر، ويعول ثلاثة عشر ولدًا، سابعهم طه حسين.
أرسل “حلاق صحة”، قطراته العمياء في جفني الطفل طه الذي بلغ الثالثة من عمره، فكف بصره إلى الأبد. جلس الطفل بين أشقائه ليأكل على “الطبلية”، فلم ير الطعام، أخطأت يده الطريق، فضحك الأشقاء، وحلف الطفل أن يضحك من ركض العالم وراءه طول حياته.
حفظ القرآن الكريم في كتّاب القرية وعمره سبع سنوات، وكان ينضم إلى رفاق أبيه في ندوة العصر بفناء البيت يستمع إلى قصص الأنبياء والغزوات والفتوح. وفي أحد الأيام سمع كلمات صديق والده بأنه لا يصلح إلاّ ان يكون مقرئاً للقرآن عند المقابر ويتصدق عليه الناس، فأصيب بصدمة عنيفة.
“اقرأ يا أعمى”، قالها الشيخ للصبي داخل “الكتاب”، فقطب جبينه، وقال في أعماقه “لست مبصرا، فالبصر يفتح عمل الشيطان، ويغلق أبواب جنة الخيال”، واستطاع مع الوقت أن يخرج من ذاكرته صوت مغني القرية، وقسوة “سيدنا” في “الكتاب”، وموت الأحبة من وباء “الكوليرا”، ورائحة الغيطان، وأقسم أن يحفظ المثقفون كلماته، ويسهرون على دراستها ليل نهار..!
في الرابعة عشرة من عمره غادر القرية ليدرس في الأزهر، ولكنه تمرد عليه بعد فترة واقتصر في حضوره على بعض الدروس فقط، وكوّن مع صاحبيه أحمد حسن الزيات ومحمود الزناتي جماعة ذاع نقدها للأزهر، وفضّلوا الكتب القديمة وقراءة دواوين الشعر على الكتب الأزهرية، وتتلمذ حينها على يد الإمام محمد عبده الذي علمه التمرد على طرائق الاتباعيين من مشايخ الأزهر. وأخيرا تم طرده من الأزهر بسبب كثرة انتقاداته ولم يعد إليها إلاّ بواسطة من أحد كبار الشيوخ.
بدأ الشاب مرحلة جديدة بفتح الجامعة المصرية أبوابها ، فترك الأزهر والتحق بها، فقد كانت الأعوام الأربعة التي قضاها بالأزهر، وكأنها أربعون عامًا وذلك بالنظر إلى رتابة الدراسة، وعقم المنهج، وعدم تطور الأساتذة والشيوخ.
في الخامس عشر من مايو / أيار 1914 حصل طه حسين على أول درجة دكتوراه تمنحها الجامعة المصرية عن رسالته التي أعدها عن “أبي العلاء المعري” والتي أحدثت عند طبعها في كتاب، ضجة هائلة ومواقف متعارضة وصلت إلى حد مطالبة أحد النواب في البرلمان بحرمان طه حسين من درجته الجامعية، وقالوا أن ما فيه كان “الإلحاد والكفر”، لكن سعد زغلول رئيس الجمعية التشريعية بالبرلمان آنذاك تدخل لاقناع هذا النائب بالعدول عن مطالبه ، ورد حسين على خصومه في أن كل ما كتبوه عنه لم يجد فيه شيئا يستحق الرد عليه!
حين رفضت الجامعة المصرية إرساله إلى البعثة في فرنسا بحجة أنه ضرير، أرسل إليها بخطابه الشهير “آبى بكم أن تتخذوا من عجزي وسيلة لمنعي من البعثة”، فوافق كل أساتذة الجامعة على سفره في اليوم التالي. والتحق بجامعة مونبلييه بفرنسا وهناك درس اللغة الفرنسية وعلم النفس والادب والتاريخ، ولأسباب مالية أعادت الجامعة المصرية مبعوثيها في العام التالي 1915.
في نهاية العام عاد حسين الى بعثته ولكن الى باريس والتحق بكلية الآداب وتلقى دروسه في التاريخ ثم في الاجتماع حيث أعد رسالة أخرى على يد عالم الاجتماع الشهير “إميل دوركايم” وحصل على دكتوراه في الإجتماع عام 1919، ثم حصل في العام نفسه على دبلوم الدراسات العليا في اللغة اللاتينية.
عاد حسين عام 1919 إلى مصر وعين استاذاً للتاريخ اليوناني والروماني واستمر حتى عام 1925 حيث تحولت الجامعة المصرية في ذلك العام الى جامعة حكومية وعين طه حسين استاذا لتاريخ الأدب العربى بكلية الآداب.
لم يكتفوا بطرده!
تفجرت أولى معارك حسين في عام 1926م عندما أصدر كتابه “في الشعر الجاهلي” الذي أحدث ضجة هائلة، حيث رفعت دعوى قضائية ضده، فأمرت النيابة بسحب الكتاب من منافذ البيع وأوقفت توزيعه، ونشبت معارك حامية على صفحات الجرائد بين مؤيد ومعارض للكتاب.
وبعد عامين تفجرت المعركة الثانية بتعيينه عميداً لكلية الآداب، الأمر الذي أثار أزمة سياسية انتهت بالاتفاق مع طه حسين على الاستقالة، فاشترط أن يعين أولاً وبالفعل عين ليوم واحد ثم قدم استقالته في المساء وأعيد “ميشو” الفرنسي عميداً لكلية الآداب، ولكن مع انتهاء عمادة ميشو عام 1930 اختارت الكلية طه حسين عميداً لها، ووافق على ذلك وزير المعارف الذي لم يستمر في منصبه سوى يومين بعد هذه الموافقة وطلب منه الاستقالة.
في عام 1932 قرر الملك فؤاد منح الدكتوراه الفخرية من كلية الآداب لبعض السياسيين الموالين له، وحين طلب وزير المعارف ذلك من طه حسين، أجابه: “عميد الجامعة ليس عمدة بلد”..! وقال له “إن الجامعة هى التي تمنح هذه الدرجات بوحي من نفسها ،لا بوحى من الحكومة، ولا تستطيع أن تمنحها لأفراد حزبيين”، فاضطرت الحكومة اللجوء إلى عميد كلية الحقوق الذي قبل ما رفضه طه حسين.
رداً على ذلك قرر وزير المعارف نقل حسين إلى ديوان الوزارة، فرفض العمل وتابع حملته في الصحف والجامعة، كما رفض تسوية الأزمة إلا بعد إعادته إلى عمله، وتدخل رئيس الوزراء إسماعيل صدقي، فأحاله الى التقاعد في 29 مارس 1932، فلزم بيته ومارس الكتابة في بعض الصحف. حينها قال لزوجته: “إننا لا نحيا كي نكون سعداء”، لكنه في رسالة أخرى يوضح لها “إنك تعرفين هذا النوع من الرضا الذي يعقب القيام بالواجب، وذلك الشعور بأن المرء على مستوى الرسالة التي كلف بها رغم المصاعب التي يواجهها”.
عن تلك الفترة تقول زوجته: “لم يكتفوا هذه المرة بطرده من الكلية التي كان عنوانا لعزتها وكرامتها وقوة نابضة فيها، وانما أرادوا أيضا إحراق كتبه، فأخذوا منه بيته الذي يسكن فيه واغرقوه بالشتائم وحاولوا أن يحرموه من كل وسيلة للعيش بمنعهم مثلا بيع الصحيفة التي كان يصدرها وبانذارهم البعثات الأجنبية في مصر بالكف عن أن تقدم له عروضاً للعمل”.
كانت المقاطعة تامة من جانب اغلب المؤسسات الجامعية والصحافية. وحدها الجامعة الأميركية تجرأت ودعت طه حسين لالقاء بعض المحاضرات. ثم عاد للجامعة في نهاية عام 1934م. وتذكر زوجته الأصدقاء الذين عبروا عن تعاطفهم معه في هذه المحنة وهم النحاس باشا والسيدة هدى شعراوي ومصطفى وعلي عبد الرازق وخليل مطران.
بينما أرسل له المستشرق “ماسينيون” خطابا يشد فيه على يديه ويقول له: “في عالم المبتزين الجبناء تتألق شجاعتك فتواسي العاجزين عن الاستشهاد من أجل العدل، لذلك أدعو الله أن يباركك لقاء الزكاة الروحية التي تؤديها للشعب الذي أنجبك”.
وبعدها بعامين عاد عميداً لكلية الآداب واستمر حتى عام 1939 عندما انتدب مراقباً للثقافة في وزارة المعارف حتى عام 1942. في عام 1942، أصبح مستشاراً لوزير المعارف ثم مديرا لجامعة الاسكندرية حتى أحيل للتقاعد في 16 أكتوبر 1944 واستمر كذلك حتى 13 يناير 1950 عندما عين لأول مرة وزيراً للمعارف، رفض الملك فاروق عام 1950 اختيار طه حسين وزيراً للمعارف لأنه “شيوعى”.. وتراجع عن موقفه تحت إصرار مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء، لكن طه حسين فاجأ النحاس برفض تولي وزارة المعارف إلا بشرط واحد وهو تطبيق مجانية التعليم، ووافق النحاس تحت إصرار طه حسين.
في الشعر الجاهلى
“إنني لا أسلك الطرق المطروقة ولا أشرب من الحوض المباح وأعاف ما تبتذله الدهماء” ..
ثار حول طه حسين وأفكاره جدال شديد بين مؤيد ومعارض، فحين يرى الكثيرون أن أعماله تعتبر من أهم الروافد التي يتسلح بها المفكرون العرب سعياً نحو مزيد من النهضة والتقدم، وأن ما خلفه من عطاء يعد أهم مصادر الاستناره في الحياة النقدية في العالم العربي، حيث يحظى بمكانة مرموقة في الفكر العربي باعتباره نموذجا للمفكر الموسوعي، الذي يؤمن بأن له دورا اجتماعيا يتجاوز حدود المنهج الدراسي وأسوار الجامعة، فهو الذي أطلق صيحة “التعليم كالماء والهواء”.. وعلى النقيض، نجد من يتهمه بأنه سعى إلى زرع الأساطير والشبهات في قلب السيرة النبوية ، واتهمه المحافظون بالزندقة وتشويه الإسلام.
لكن طه حسين نفسه يؤكد “إن في كل منا شخصيتين متمايزتين؛ إحداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، والأخرى شاعرة تلذّ وتألم وتفرح وتحزن وترضى وتغضب في غير نقد ولا بحث ولا تحليل”، ويتساءل: ما الذي يمنع أن تكون الشخصية الأولى عالمة باحثة ناقدة، وأن تكون الثانية مؤمنة دَيِّنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى؟ ما لك لا تدع للعلم حركته وتغيره، وللدين ثباته واستقراره؟!
انتقل طه حسين من بيئة التسليم في مصر إلى بيئة التشكك في أوروبا، وأعجب بفلسفة ديكارت الشك واليقين والفرض وتحكيم العقل في كل شيء وبدأ رحلته في التفكير، وعندما أصدر كتابه “في الشعر الجاهلي” أحدث ضجة هائلة ومازال حتى الآن يواجه المعارضين له، بالرغم من أن المؤلف أوضح من البداية منهجه الذي سلكه قائلا: “سأسلك في هذا النحو من البحث مسلك المحدثين من أصحاب العلم والفلسفة فيما يتناولون من العلم والفلسفة. أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث. والناس يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما. والناس جميعا يعلمون أن هذا المنهج الذي سخط عليه أنصار القديم في الدين والفلسفة، يوم ظهر، قد كان من أخصب المناهج وأقواها وأحسنها أثرا”.
أدى به هذا المنهج إلى الشك في وجود الشعر الجاهلي اصلا، يقول “أنني شككت في قيمة الأدب الجاهلي وألححت في الشك، أو قل ألح عليّ الشك، فأخذت أبحث وأفكر، وأقرأ وأتدبر، حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء إن لم يكن يقينا فهو قريب من اليقين. ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين، ولا أكاد أشك في أن ما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدل على شيء ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي”.
يمضي طه حسين بمنهج الشك إلي أبعد من ذلك حيث يخضع القصص القرآني له كذلك، فيقول عن هجرة إبراهيم وإسماعيل: “للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي”..!
وصل الأمر برفض الكتاب إلى قيام تظاهرات توجهت للبرلمان، فخرج سعد زغلول ليقول “إن مسألة كهذه لا يمكن أن تؤثر في هذه الأمة المتمسكة بدينها. هبوا أن رجلاً مجنوناً يهذي في الطريق فهل يضير العقلاء شيء من ذلك؟ إن هذا الدين متين، وليس الذي شك فيه زعيما ولا إماما حتى نخشى من شكه على العامة فليشك ما شاء، ماذا علينا إذا لم يفهم البقر”.
أهديك عيني!
“أهديك عيني في غير مقابل، فقط أن ترى نعمة الله وأن تشاركني سعادتي في هذه الحياة، أنا مستعد في أي وقت أن أذهب معك للطبيب لإجراء العملية”.. هذه الكلمات كتبها رمزي راغب يعرض رغبته في التبرع بعينيه إلى الدكتور طه حسين، والتي جاءت ضمن مجموعة من الوثائق عرضها مؤخرا بيت السناري الأثري التابع لمكتبة الإسكندرية، كذلك خطاب آخر من موظف بسيط يطلب التبرع بعينيه للدكتور طه حسين.
لكنه أبدا لم يكن أعمى بما أضاء به طريقنا، أبدا لم يكن أعمى وهو في رحاب “ذات الصوت الحنون”، فذات يوم بينما يجلس طه حسين في مقعده في قاعة المحاضرات في جامعة السوربون سمع صوتا جميلا يرن في أذنيه صوت صبية حنون تقول له بعذوبة: إنى أستطيع أن أساعدك في استذكار الدروس، وكانت صاحبة الصوت ما هي إلا (سوزان) الطالبة الفرنسية المنحدرة من عائلة كاثوليكية، والتي ظلت مترددة فترة طويلة قبل ان توافق على الزواج من طه حسين الرجل المسلم، وذلك بعد ان استطاع أحد أعمامها أن يقنعها بذلك، وكان ذلك العم قسيسا فقال لها: “مع هذا الرجل يمكن أن تثقي بأنه سيظل معك إلى الأبد وسوف تسعدى ابداً” فتزوجته في التاسع من أغسطس1917.
هكذا يروي الكاتب الفرنسي روبيرت لاندري قصة تعارف حسين بزوجته التي كانت تقرأ مقطعا من شعر “راسين” فأحب نغمات صوتها وطريقة إلقائها وتعلق قلبه بها. يقول حسين عن يوم لقائه بسوزان “كأنه تلك الشمس التي اقبلت في ذلك اليوم من أيام الربيع فجلت عن المدينة ما كان قد اطبق عليها من ذلك السحاب الذي كان بعضه يركب بعضاً والذي كان يعصف ويقصف حتى ملأ المدينة أو كاد يملؤها اشفاقاً وروعاً وإذ المدينة تصبح كلها إشراقاً ونوراً”.
مما قاله فيها أنه “منذ أن سمع صوتها لم يعرف قلبه الألم”، وأنجب منها اثنان من الأبناء هما أمينة ومؤنس. وذات مرة كتب لها يقول: “بدونك أشعر أني أعمى حقا. أما وأنا معك، فإني اتوصل إلى الشعور بكل شيء، واني امتزج بكل الأشياء التي تحيط بي”.
كانت القاهرة في أواخر شهر أكتوبر 1973 مشغولة بعبور الجيش المصري للقناة ورفع العلم في صحراء سيناء، أصيب عميد الأدب العربي طه حسين، بوعكة صحية، وبعد أن جاء الطبيب لفحصه، زالت عنه النوبة، وعاد إلى حالته الطبيعية، وبينما كان يزوره بعض الأصدقاء قال “أوهمونا أن الخبز أولاً، ثورة 1919 فشلت لأنها لم تنظر إلى الديموقراطية الاجتماعية، فالذي يملك خبزه يملك صوته”.. لعلها وصية العميد الأخيرة التي مازال يوصينا بها!
******
(*) نوافذ جريدة المستقبل
كلام الصور
1- حمدي رزق
2- 3- 4- طه حسين في مراحله العمرية
5- غلاف في الأدب الجاهلي