عائشة وأخواتها – نفض الغبار عما بقي من آثار

“قول اضربني”… “قول اضربني”

لم يقلها أحمد

“ضرب المدرس تلميذه أحمد ضرباً مبرحاً وهو يردد “قول اضربني” حتى أضناه الألم حتى فصدح أحمد  “اضربني

ضحك المدرس ونظر إلى الطلبة في الفصل قائلاً: أنا لا أحب الضرب، لكن أحمد يقول اضربني. نظر إلى أحمد نظرة المستبد المنتصر وقال: أضربك بماذا؟ عليك أن تختار العصا التي سأجلدك بها… عليك الاختيار بين عائشة النحيلة وجورجيت السمينة.

كان السكون يخيم على الفصل والرعب ينحت في كينونة الطفل البالغ عشر سنوات أخاديد عذاب أشعلتها عينا الأستاذ ح.ن وزادتها احتقانا ينذر بكارثة حين تفجّر المدرس السمين بضحكة طاغية بعد أن بال أحمد في سرواله. شده المدرس إليه ونظر في عينيه بلؤم وقال: اذا لم تختر عصا مناسبة فأنا سأختار لك عبدو أبو دبوس

مين … عبدو أبو دبوس… قالها أحمد بصوت مرتعش قبل أن ينطلق هارباً من الفصل الذي لم يعد إليه أبداً.

هذا المشهد، مشهد يومي من طقوس ح.ن في مدرستنا الابتدائية.

جاء الأستاذ ح.ن من حيث لا نعلم له أصل أو فصل. كان الرجل قصير القامة، مكتنز اللحم وأشياء أخرى أكثر ضررا على البيئة.  امتهن تدريس اللغة الإنكليزية في مدرسة التربية الحديثة في حي الغيلان من أعمال برج حمود. كان مدرساً في سنوات المرحلة الابتدائية حيث تجلّى عن شخصية فريدة لنوعية منقرضة من البشر تركت آثارا قاتلة في جيل كامل. كان سادياً بكل معنى الكلمة، يتلذذ بآلام الأطفال مبتسماً.

كان من القلة الذين أتقنوا اللغة الانكليزية ودرسُّوها في تلك الأيام. وليتمكن من إرساء قواعد رسالته في أذهان الطلبة كان يحمل حقيبة يد سوداء تشبه إلى حد كبير حقائب “المطهرين” أو الحلاقين المتجولين. كنت تجد في تلك الحقيبة سوقاً متنقلاً، ففيها دفاتر الحضور والعلامات المنظمة بإتقان شديد يتباهى به أمام طلابه. في زاوية الحقيبة عدد من علب السجائر ماركة “كريم” الزهيدة الثمن إضافة إلى قطع الحلوى “الجاتو” القديمة مع سبع عصي عتيات. كان يدعوهم “عايشة وأخواتها”، فلكل عصاً مواصفات مختلفة تتحلى باسم فريد “ماري، عايشة، زينب، تريز، جورجيت، أم علي، وعبدو أبو دبوس”. كان على الطالب المجرم أن يختار إحدى هذه العصي ليُضرب بها، وإن لم يفعل يُضرب حتى يختار. أما قطع “الجاتوه” القديمة اليابسة فقد كانت من نصيب الناجحين في امتحانه اليومي. عليهم أن يأكلوها وإن لم يفعلوا يضربهم. وإذا ما أعطى أي من هؤلاء المحظوظين قطعة من جائزة “الجاتوه” لجاره ضربهما ضرباً مبرحاً.

كان عصر ح.ن وشركاه عصر بؤس لكثير من الطلبة الذين كانوا يهربون من المدرسة إلى غيابات الظلام. كان يحمل سوط الجهل ليجلد العلم في عقر دار المعرفة. كان كارثة باسم مهنة مقدسة، كارثة تقطع براعم الأمل في نفوس الطلبة، فهو يدوس على أحلامهم بأخلاق وهمية تغذي أمراضه النفسية التي أدت إلى التحاق الكثيرين بركب الفقر والأمية الذين توجهم الجهل بوسام شيطانه.

كان ح.ن يرى نفسه من طبقة مميزة الفكر والثراء فكان يتباهى أمام الطلبة بأنه يحمل في جيبة مئات الليرات في وقت لم يحلم طفل منهم بالتلذذ بربع ليرة. وذات يوم قرر بعض الطلبة الفقراء قتله وسلبه انتقاماً… وفعلوا ذلك، إذ وُجد ح.ن مقتولاً على كرسي منزله الذي يعيش به وحيداً.

لم يكن له جنازة تذكر، ولم يترحم عليه أحد من طلبته. عاش قاسياً، رحل وحيداً ولم يترك بصمة خير في قلوب كانت بريئة قبل أن توضع في رعايته الطاغية التي حكمها بقوة “عائشة وأخواتها”.

كم أنت مسكين يا ح.ن حيث كنت وحيث أنت. لا يشرفني أن أقول بأنك كنت أستاذي ذات يوم. كان جدار قسوتك واحتقارك لأبنائك ميزتان في شخصيتك المريضة أسفرت عن اندحار عدد لا بأس به أطفال الوطن إلى غيابات الهوان. بل كانت سبباً لجحود تلامذتك لك فلم يبرّك أحد يوم رحيلك القاسي.

تذكرت تفاصيل هذه الحقبة من الزمن عندما اقترب مني ماسح أحذية يقاربني في السن خلال تواجدي في شارع الحمراء في بيروت الصيف الماضي. بدا لي وكأني أستشف من ملامحه معرفة قديمة. أطلت الحديث معه حتى أدركت بأنه كان معي في نفس المدرسة وفي نفس الفصل. تذكرته يوم هرب من المدرسة بعد سماعه بأن الأستاذ سيضربه بعصا اسمها “عبدو أبو دبوس”، الأخ الأكبر لـ “عائشة” بعدما ضُرب ببعض أخواتها.

لم أخبر مساح الأحذية عن معرفتي به، لكنني سألته عن سبب اتخاذه هذه المهنة فقال أحمد:  لعن الله من كان السبب… لعن الله ح.ن بما يستحق

-وأخواتها-صورة-2

 

اترك رد