غربة وطن يتنفس فساداً

قبل أن أُبدّل غربتي الخارجية بغربة الوطن لم أكن على علم حقيقي ويقين صادق بحال الوطن. لكن بعد سنتين بالتمام والكمال أجدني في ذهول تام مما يصادفني ويعتصر مشاعري مرات عديدة مترابطة خلال صحوتي التي تصارع النوم العميق الذي لم أحظَ به مذ وطئت قدماي أرض الوطن.

وطأت أرض الوطن فوجدتني في متاهة عظيمة متشابكة فدخلت أحد ترهاتها فارتعبت متراجعاً إلى غيرها وغيرها دون جدوى هرباً من سياط المفاجآت الغير سارة. دبابير الفساد من هنا، زنابير الطائفية من هناك، الكذب والخداع متفشي، البؤس على الوجوه يشكو ضحالة الكرامة، وجفاف روافد الأمل التي تركت أخاديدها على وجوه بشر كانوا ذات يوم يحلون بنضارة صادقة.

وجوه بائسة واجفة في كل مكان، والأقنعة تغطي الوجوه الباسمة. الكل يشكو من سقوط القيم واندحار الأخلاق في عصر العوز والفاقة. الكل يهمس عن قذارة غيره المموهة بأقنعة تخفي الكراهية، عن صعوبة العيش بكرامة إن لم يخضع لطائفة ما، حزب ما، جماعة ما. انزويت، خفت من قرار العودة الذي أعادني لأجد وطناً غير الذي عرفته، به أناس لم يكونوا في هنا من قبل. شعرت بالإعاقة، بنوبات الفشل التي يدفعها إحباط كاد أن يخرجني إلى حيث كنت لولا بعض الأفراد الذين هم بقايا المحاربين القدامى. مجاهدي الفكر والنضال الاجتماعي. بقايا الحرب الأهلية وثلة من شباب تملص من أوبئة الفساد إما بسبب مناعة متوارثة من مناضل أكبر أو بسبب “وباء الوعي” الذي تعالجه الدولة بطرق فساد عدة حتى لا يتفشى وباء المعرفة.

لا أتكلم هنا عن السياسيين أو الوضع الاقتصادي بل عن المواطن اللبناني، الذي كنته شاباً وعدته رجلاً يعتد بوطنه فعاد ليقدم ما يستطيع… وفشل. في أيام خلت بعيد الحرب الأهلية كان الشباب يتمتعون بثقافة عالية يتنافسون في المعرفة والنقاش الاجتماعي والحزبي ويدركون دورهم في بناء الوطن، في البحث عن الحقيقة التي أدركوا بصيصها. كان هناك العديد من التجمعات والمظاهرات الهادفة للتغيير بسلام، الساعية إلى الحرية والعدالة. في ذاك الزمان توفرت الارجيلة والحشيشة وكل الموبقات لكن السباق والتنافس على العمل والعطاء كان الحافز الرئيس للابتعاد عن هذه التوافه. كان العمل هو سنة الحياة التي يعتد بها أي إنسان. أما اليوم فمعظم الشباب تافه كسول يعشق هدر الاوقات على الطرقات

والمقاهي. شباب مُسرف في كل شيء من ملبس ومشرب ومأكل بما يتجاوز مصروف الفرد أو دخله دون حسيب في البيت أو خارجه. شباب لا يسعى للتغيير بالجد والاجتهاد بل يسعى للعمل تحت راية اقطاعي، أو جناح طائفة دينية ليضمن وظيفة لا يستحقها بضمان اغلاله واستغلاله. ومن تسامى عن هذه الموبقات التي تحط من انسانيته يقف أمام السفارات يتسول هجرة غير عابئ بوطنه.

الحياة الشريفة أصبحت أضحوكة، والقدرة على التغيير أضحت مشلولة، فمعظم الناس عبيد أوفياء لجلاديهم أو جبناء خانعين لقدرهم. الشعب بمعظمه مغيّب، فاقد الإحساس بوجوده الإنساني، بكرامته التي تنتهي عند أقدام مسؤول يصنفه حيواناً في مزرعة صاحب السلطة.

لماذا؟ لماذ؟

ألا يحق لي أن استغرب سقوط الوطن لدرجة استحواذه وسام الفساد الأول في العالم دون أن تُحرك هذه الفضيحة شعباً كاملاً زعيماً ما.

استغرب من الفقير المعدم الذي يهلل لزعيم مصاب بالتخمة.

استغرب من رجل يبيت في الظلام لعدم توفر الكهرباء فيما زعيمه ينير قصوره ليل نهار.

أعجب ممن يفتخر بقصر الزعيم وأناقته وكرمه في حفلاته الخاصة فيما هو غير قادر على تأمين لقمة عيش كريمة لأطفال عراة.

أعجب من المعدم الذي يقدس رجل دين يسكن في شقة فاخرة كما أولاده وعترته.

أعجب من المواطن الغير قادر حتى على استخدام المواصلات العامة فيمشي ويمشي حتى تتورم قدماه فيما رجال السياسة والدين وأسرهم يمتلكون أفخر السيارات…. وما أكثر رجال الدين والسياسة وذرياتهم.

أعجب من توزيع المراكز العلمية بصورة طائفية وعصبية وعنصرية دون الاكتراث بنتائج المباريات.

والعجب الأكبر هو أن مناهج التعليم غير موحدة في هذا الوطن. فهذه مدرسة تدرس المنهج الفرنس وغيرها الأمريكي كما الطائفي الذي يشحن الطلاب بالكراهية. فهذه مدرسة شيعية وتلك سنية وغيرها ماروني… الخ. مدارس تبني جيلاً جديداً طائفياً كارهاً حاقداً. فيما المدراس ذات البرامج الأجنبية تدرس برامج بلادها فيتخرج الشاب اللبناني الجنسية والمولد بفكر غربي لا يمت بصلة لهذا الوطن.

لا أفهم لماذا لا يطالب هؤلاء الناس بحقوقهم.

لماذا لا يثور الفقير وقد قال الامام علي عجبت من رجل بات جائعاً ولم يشهر سيفه.

من شعب يشرب الماء مشبعاً ببقايا البشر ولا يثور

من شعب يأكل أطعمة ترويها المجارير ولا يثور

من شعب ارتفعت لديه نسبة الإصابة بالسرطان إلى نسبة غير مسبوقة بسبب التلوث الناجم عن الفساد ولا يثور

من شعب لا تريد دولته مع سبق الاصرار تأمين ضروريات الحياة من ماء وكهرباء وطبابة ولا يثور

من شعب تقطع عنه الدولة الماء والكهرباء لتبيعه اياهما عن طريق السماسمرة ولا يثور

من شعب مدارسه طائفيه تزرع فيه الكراهية ولا يثور

من شعب جامعاته تقبل الطلبة تحت حصص طائفية ولا يثور

من شعب يدفع الرشاوي في كل صغيرة وكبيرة وهو راضٍ.

من شعب تعتبره الدولة حيواناً مبرمجاً ولا يثور.

من شعب يرمي الزبالة في الشوارع حتى من سياراته المعدمة والفارهة ويطلب النظافة

من شعب يعتبر السارق بطلاً “دبّر حالو”

من شعب تافه كلما تحدث أحدهم قال “بتعرف انا ابن مين”

من شعب يعتبر الطائفة قداسة، ورجل الدين خليفة الله على الأرض، والزعيم ولي نعتمه… ثم يصلي لله عابداً ناسياً بأنه يعبد الزعيم ورجل الدين وزعيم الطائفة إلا من رحم ربي.

من شعب يكلمك عن العلمانية بطائفية حادة.

من شعب يتباهى بأرزاق غيره وهو معدم

من شعب يتباهى بقريبه العبقري وهو غبي.

من شعب لا يقف عند إشارة المرور الحمراء، ويقود السيارة بعكس اتجاه السير ولا يحب أن يوقف سيارته الا على المنعطفات ثم يلوم الدولة على عدم تنظيم السير

من شعب يفخر بأن زعران البلد لديهم غطاء من زعيم او متمول.

من شعب سياراته المظللة لا تخضع إلى قانون

من شعب يخاف السيارات التي لا تحمل لوحات أكثر مما يخاف سيارات الشرطة.

من شعب يشتري الوظائف والشهادات والمراكز بختم طائفي.

من شعب غبي يفخر بأن أطفاله يتقنون لغة اجنبية ولا يفهمون العربية.

من شعب يقدّس قدموس مخترع الابجدية ويكره القراءة والثقافة

من شعب يتباهى بملابسه التي اشتراها بشيكات مزورة أو مال مسروق.

من رجل يموت ولده المريض لأن المستشفى رفضت علاجه بسبب فقره.

إنها ليست غربتي، انه الجحيم الذي دمر الأخلاق. الجحيم الذي سرق وطني وجعله كانتونات تتباهى بالعيش المشترك وكأننا في زنزانة نتشارك نفس الهم والغم والروائح الكريهة ثم نحمد الله أن أنعم الله علينا بكسرة خبز مغمسة بمياه المجارير وهو بريء مما يدّعون.

vector george

 

اترك رد