المساحة الرمادية بين الإنسانية واللاإنسانية

قراءة في رواية “السّوط والصّدى”
للأديبة الجزائرية عائشة بنور

klmm      saleh charaf el dine

بعد أن قرأت رواية (السّوط والصّدى) التي واجهت المساحات الرمادية واللاإنسانية بقوّة الرواية التي تميل إلى الذهنية، والتحليل النفسي، والاجتماعي، والتاريخي،  والتي لم تركز على الزمان أو المكان ،أو الأشخاص أو العقدة أو الحل كعناصر تقليدية للرواية ،بل اشتّد الصراع الفكري ، والحوار الداخلي ، صراع مع الأنا ، ومع الآخر ، صراع رغم قوّة المشاعر يتحكم فيه العقل والمنطق فتحت أبواب العالمية على مصراعيها، وهي تمنح دور البطولة للإنسانية ،الإنسانية التي لا تعرف لونا أو نوعا أو معتقدا يسمح بأن تمتهن كرامة الإنسان ويعتدى عليه ،وتزهق روحه لا لشيء إلا لكونه مختلف عن الآخر هذا الآخر الذي لا يستوعب أنه لم يخلق ذبابة ، فكيف يسمح لنفسه أن يعتدى على مخلوقات الله بحجج هي أوهى مما نتخيل ،ترفض العدوان من القريب الجاهل ومن الغريب الظالم المستغل ،تعالج مشكلة كبرى شغلت العالم الإسلامي ومازالت تشغله ،تعالجها برومانسية روائية خلابة.

إن أهم ما وجدته أثناء قراءتي لرواية السوط والصدى هو :تعدد مستويات التلقي ، القاريء المتعجل يجد فيها المتعة في السرد ،وفي سلاسته ،وفي قصة الحب التي لم تكتمل بين رياض وهند ، وقد يتعاطف مع هند أو مع رياض حسب تعليمه ،ومقدار ثقافته ،وأحسب الجميع سيكرهون العنف ،ولن يتعب الكثيرون أنفسهم في ملاحقة الجدل الفكري بين هند ورياض ، ومن سيقرأ ليفهم لن يكتفي بقراءة واحدة بل لابد من عدة قراءات ،ولابد من تأمل العبارات ،ومدلولاتها ،وما توحي به ،وسيجد المسألة في غاية الصعوبة ،والحساسية ؛فالأفكار اللا إنسانية وآثارها المرعبة وجراحها الدامية لم يتوقف نزفها بعد ، منذ جرأة قابيل على روح أخية هابيل ،وحتى الآن .

-السوط والصدى : في أبعد أعماقها رمز ، وهذا البعد الرمزي يطفو على سطح التأويل إذا تأملنا (هند ) و(رياض) وما تمثله هند من فكر إنساني يحاول أن يكون حرا لكنه يتمسك بأصالته، لا يبريء أحدا على حساب أحد ، فكل ماهو غير إنساني مدان ولا يهم من مرتكبه ، ورياض الذي يجد الحل في التكفير الذي يبرر كل التجاوزات ،وفي فرض الفكرة بالقوة لأن من يملك القوة يجب أن يطاع ، ويدين له الجميع ، خصوصا من لم يناقشوا فكره ،وفكر جماعته، وهم يدعون حرية الفكر ، وعذبوهم وقتلوا الكثير منهم فالقصاص منهم وممن سكت على ما فعلوا أمر منطقي وطبيعي لديه ،ولدى الجماعات الضالة التي ترتدي ثوبا إسلاميا مزيفا ،فتقتل وتسرف في قتل الضعفاء ،والتغرير بالشباب ليقوموا بعمليات انتحارية ،فهم لا يموتون من أجل حق ،إنما هم مضللون ،وكثير منهم عندما فهموا تراجعوا وتبرأوا من هذا الفكر الظلامي .

ولأن البعد الرمزي يُثري الأعمال الإبداعية ،فهو يحتمل تفسيرات كثيرة ، ولا يمكن لنا أن نقطع بتفسير واحد، فنحسب أن هند هي الإنسانية ،وهي الوطن بما فيه من ماء وهواء وسماء وأرض وآباء وأجداد ،وتاريخ كلها تكوثرت في هذه المخلوقة التي أتعبتنا ونحن نلهث وراء حلم البداية وحلم النهاية ،أو فلنقل كابوس البداية وكابوس النهاية ،هند التي تحكي بسرد مباشر كل الأحداث ،هذه المعلمة التي تتقاذفها أمواج الحيرة ،ولا تستسلم ،المثقفة النبيلة ، التي تدوس على قلبها ومشاعرها ،ولا تدوس على فكرها الحر أو على كرامتها كإنسانة لها حق في ألّا تقهر وألا تجبر على ما لا تريده ،تكره وتحب الشيء نفسه لاختلاف المصدر والمنهج والتطبيق ،تمتعض من لحية رياض ، وتقدر لحية الشيوخ الأجلاء ،لا يعجبها انتقاب صديقتها، وفرض النقاب على النساء ،وتعتبره حرية أساسية قد تختارها المرأة ولا يجب أن ينتقده أحد ،تنتقد حرية المرأة التي توقعها في الرذيلة ،وتصبح سلعة تباع وتشترى ، وتنتقد قهر المرأة والاعتداء على حريتها واعتبارها كائنا بغير حقوق ، هند التي روت كل الأحداث ووصفت الأشخاص ورسمت الملامح ،وتعمقت في النفوس ، هذه المثقفة التي استشهدت بكثير من الكتب والأعمال الفنية ؛ لتثبت القيمة الإنسانية للفكر والإبداع سواء كان هذا الفكر عالميا أو إقليميا أو محليا ،هند الفكرة المثالية عندما تسعى على قدمين، هند التناقض الداخلي للإنسانة المعاصرة ،وهي تخوض حروبا مريرة على جبهات كثيرة ، هند الوطن الخالد بكبرياء وعزّة رغم كل شيء .

لقد كانت هند قاب قوسين أو أدني من رياض أعجبها الجزء الملآن منه ،لكنه فرط فيها، ولم يقترن بمن أحبته ،وفضل عليها فكرا دخيلا حال بينه وبين هند الأنثى والوطن والحق والخير والجمال ،لم يصب العمى عينيه لكنه أصاب قلبه ،هند التي مات لأجلها أكثر من مليون ونص من الشهداء ضحوا بأغلى ما يملكون لأجل عيونها ، هذه العيون خالدة الجمال لم يسعد رياض البقاء إلى جوارها والارتباط بها ، وأن يقبلها كما هي ، وقد كانت على استعداد أن تقبله كما هو ،إنه الصراع الذي لم يفز فيه أحد ،تخسر هند رياض ،وتتمسك بحريتها ، ويخسر رياض كل شيء ويحصد الوهم بعيدا عن هند ،هند هذه النبيلة التي تماهت مع الوطن وتماهى معها ،تؤكد لنا أنها لم تقبل بالتطرف ،ولن يخدعها مرة أخرى ،ولقد تخلى عنها ،وهي تطلب منه ألا يرحل ويتركها ،رحل عنها وباعها من أجل وهم وتطرف لم ولن تكون له الغلبة ،باعها بالرخيص ،عاد ليقتل الأبرياء ومن لا ذنب لهم .

أول فقرة من فقرات الرواية قالت كل شيء ،فهي البداية وهي النهاية ،تجعل الكاتبة هند تحكي بسرد مباشر تقول : لم أنم، لقد بت في العراء، ورأيت، البارحة، في المنام ما يشبه وجهه الذابل كما كان وجه جدّتي زهور شاحباً وهي تموت، أندفع نحوه راكضة، وأتعثـر في أسمال بالية ومهترئة، أمد يدّي وأحاول أن أمسك بيدّه، لكنها تنسحب مني باردة، وأحاول مرّة ثانية أن آخذ يدّه في يدّي ونركض معاً في الروابي، بعيدا عن أعينهم، بعيداً عن أوامرهم، بلا خوف، أن يهمس في أذني، وأصابعه تلعب بخصلات شعري، يضمّني إليه، وانفلت من بين أحضانه، ضاحكة، وهو يجري خلفي على رمل حار، أو يتبعني بنظراته من بعيد، ويناديني، لكن المسافة بيني وبينه كانت تطول وتطول، وهو يبتعد عني، أناديه، وقد بحّ صوتي، وكأني أطارد شبحا في حلمي وأصرخ: ـ لا ترحل، لا ترحل…لم يلتفت إليّ، ولم يرجعه صدى صّوتي، وفي الصباح الباكر، نهضت من فراشي متوعّكة، ألقيت نفسي بإعياء على الكرسيِّ، وقبالتي مرآة كبيرة تعكس صورتي، وملامح وجهي الذابلة، تداهم مخيّلتي صور الأحداث المروّعة، صور الدّم والعويل في كل مكان، وانتابتني حالة من الهلع والرعب والذعر، بحثت عن وجهي في المرآة، خلت نفسي عجوزا تقدمت في السّنّ، بتجاعيد حزن تحكي حياة عمر طويـل..” هذه البداية تجذبنا لنعرف من هو ، ومن هي وما حكايتهما؟

هذه البداية تأخدنا إلى ساحة الأمل الموؤود والسعادة التي لم تتحقق دون سبب واضح ، ودون إقناع، لا يسمع النداء، ويذهب كل إلى طريق، وتحكي حكاية تجعل الدماء تتجمد في العروق وهي تروي النذر اليسير من فواجع فترة سوداء من تاريخ الوطن، مازالت سحاباتها تمر بأوطان أخرى في الجوار .

أما النهاية فماهي إلاّ صورة أخرى للبداية فما بينهما ألم ليس كأي ألم ومعاناة ليست كأي معاناة ،توتر وحيرة ،إصرار وتصميم وكبرياء ،مساحات بيضاء ورمادية وسوداء ، تقول هند في ختام الرواية :

” كل أحلامي انكسرت وبقي الحلم يقتلني، وبقي هو مقبرة كل خطواتي
يراودني الضعـف حينا، والكبرياء في انتزاع صهـوة الانتظار، وأشياء أخرى تصعب فيها المقاومة، فأفتش عبر سنين العمر معه عن تضاريس وجهه، وكيف جعلت أخاديد الزمن منها مسرحاً للحزن والألم والتعاسة.أرفضه لأنني كنت بحاجة قوّية إلى من يحتويني أنا، كلّي، دون تذمر من أفكاري، من منطقي الذي يورطني أحياناً كثيرة، ويجلب لي الخصام المتتالي مع نفسي، يحبّني لذاتي، ولكبريائي الطفولي في كبرياء الوطن الذي مازال يسكنني..؟

وأرفضهم لأنهم صادروا أحلامي، وسرقوا حياتي بكذبة جميلة، ومارسوا علينا التضليل باسـم الشرعية ، والتاريخ والرجال و.. و.. وبقينا رهينة الماضي والحاضر والمستقبل المجهول؟
أرفضهم، لأنهم وببسـاطة زيفوا الحقيقة، واغتالوا فينـا الوطن الأم؟
وعـدّت أدراجي من حيث أتيت باغتيال الحقيقة قبل ولادتها.
فكانت هي السّـوط والصّـدى…! “

تتكوثر الإشكالية الإنسانية الروائية في ال(أنا) وال(هو) وال(هم ) ومع إشكاليات الـ(أنا) الراوية:تقول: انكسرت كل أحلامي انكسرت وبقي الحلم يقتلني”
وتقول في الختام :

ّعـدّت أدراجي من حيث أتيت باغتيال الحقيقة قبل ولادتها  فكانت هي السّـوط والصّـدى”

-والـ (هو) الذي ضل وانتقل من المساحة البيضاء التي يولد الإنسان فيها ،إلى المساحة الرمادية التي لا تتبين فيها الأشياء ثم إلى المساحة السوداء التي يغتال فيها الإنسان نفسه وكل جميل :تقول:

” أرفضه لأنني كنت بحاجة قوّية إلى من يحتويني أنا، كلّي، دون تذمر من أفكاري، من منطقي الذي يورطني أحياناً كثيرة، ويجلب لي الخصام المتتالي مع نفسي، يحبّني لذاتي، ولكبريائي الطفولي في كبرياء الوطن الذي مازال يسكنني..؟ “

-أما ال(هم) فما أكثرهم لا يعالجون المسائل بحكمة وتعقل ،ولكنهم يجعلونها أكثر تعقيدا ، يقبعون في المساحات الرمادية ، يتناقض قولهم مع أفعالهم ،فيفعلون ما يفعله الضالون من قتل للأحلام ، وتبرير للعنف، وكأنهم يقاومون الظلام بالظلام ،تقول :

“وأرفضهم لأنهم صادروا أحلامي، وسرقوا حياتي بكذبة جميلة، ومارسوا علينا التضليل باسـم الشرعية ، والتاريخ والرجال و.. و.. وبقينا رهينة الماضي والحاضر والمستقبل المجهول؟
أرفضهم، لأنهم وببسـاطة زيفوا الحقيقة، واغتالوا فينـا الوطن الأم؟”

وكما استدعت قراءتي تاريخ السلطة والمذابح ،فكل قراءة تستدعي مخزونا في الذاكرة، فيتردد في خاطرى قول الشيطان لرب العالمين عندما تيقن أنه عصى الله ورفض السجود لآدم ، يتردد قوله :” قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(83)(13)  أحسبه يرقص طربا وهو يرى الفتنة الكبرى تتسع دوائرها ،ويواصل قابيل قتل هابيل بوحشية ،ويحقق له ما أراد .

-ومن رؤى البداية والنهاية لرؤى الواقع المؤلم الصادم قصص الاغتيالات الوحشية ، وقصص الفتيات اللاتي أخططفن وحكاياتهن التي تجعل أي إنسان يكره عجزه عن إنصافهن ،ويتيقن أن حظهن العاثر أوقعهن في براثن وحوش في صورة بشر ، قصة سماح ومثلها كثيرات في أماكن كثيرة من على سطح الأرض تبرهن بواقعية على أن بعض البشر عندما يملكون القوة لا يتورعون عن ارتكاب الفظائع الحيوانية مستغلين ضعف الضحية التي غالبا ما تكون (سماح )

-ومن مأساة سماح إلى مأساة (أحلام ) هذه الطفلة المسكينة التي فقدت أسرتها فأخذت تئن وتنتحب بما يخلع القلوب ،ويدمي الأفئدة تقول :

“..بوحْشِيشَة مات، خلاَّ أربع بنات وحـدة عورة، وحدة تلتقط في الزَعْرُورَة، وواحدة تقول بابا مات ما خلانيش وين أنبات..”

-تتألق واقعية ورمزية السجن أو الحبس أو تقييد الحرية ، والراوية ترى (الزنزانات ) وترى الجميع فيها محبوسين في سجن النسيان أو التجاهل أو الإخفاء القسري أو الرفض ،ومن كانت ومازالت لهم أمجاد يذكرها التاريخ ،تراهم في الزنازين ، وتتعجب كلما فتحت نافذة وجدت فصيلا سجناء الرأي ،وسجناء الثورة ، والمثقفين ، والمغتصبين …

-تتأكد الرمزية في رياض الذي تثور عليه هند قائلة :

” الوطن أكبر منا، أكبر من حساباتنا الضيقة، ووطنيتك ووطنيتهم المدسوسة؟”

وتواصل هند النقد لرياض وما يرمز إليه تقول:

“كشفت سلطة العشق لدي أنـك تدعي الحكاية وأنني لا أجيد حبك الأدوار أمام تهمة خيانة الوطـن والأرواح، فأنا ضعيفة حدّ البكاء أمام كبرياء الوطـن؟

كنت أعيش قصة حبّي بكل الأشكال، آه ماذا أفعل بك الآن وقد أصبحت كل الحقيقة التي كنت أبحث عنها في الحقائق الأخرى”

-وتدافع هند عن وطنها لأن الوطن تماهى معها تقول:

“كنت كلما قرّرت المقارنة بين وطني، ومدينة الجنون في كل شيء، في النظام، في القانون، في الجمال، يغلبني عشقي وحنيني إلى وطني بامتلاكه السحر، والجمال، وروح الشهداء ترفرف حوله وتحميه، فأغفر ذنوب ما فعل الساسة بنا”

-عندما تحكي هند عن مأساة الفتيات المغتصبات من وحوش التطرف وما تعرضن ويتعرضن له من ظلم، تحكي ما يكسر القلب ويدميه ويدمي الأفئدة ،ونسوق نموذجا حيا لهذا الحكي المبدع ألما تقول:

كانت الجراح تبتسم كالشروخ على كل مرايا جدران البيت المرتج من الاهتزازات العنيفة التي تصحب قوّة الانفجار في جسور الطرقات تتأمل الأزقة الفارغة كأنها وجوه شاحبة، تنظر وهي تجر معطف الفضيحة، تحاول أن تلملمه، ترميه، تحرقه خوفـًا من سكين يعانق نحرها أو رشاش يفرغ في جسدها ؟

الجنين ولد ميتًا، في ليلة مظلمة منتصفها كان نحيبها وأنينها، كان صمتها وخوفها من السراديب المغلقة، تتهاوى أمامها المدينة العتيقة، تسقط عنها أقنعة هتافات التغيير من أجل حياة أفضل، وأخرى للهروب إلى ما وراء البحار.

تشرب فنجان القهوة الباردة بتأنٍ، تنهمر من عينيها دمعتان حارقتان وتعضّ على شفتيها اليابستين وهي تخفي وجهها بين كفيها. تنتظر مصيرها ومثيلاتها الأخريات بنفسيات مضطربة، تهذي بكلمات مبهمة وقد فقدت السيطرة على أعصابها والتحكم في حركاتها، شلّت إرادتها، سلبت عزتها واغتصبت كرامتها لمّا مزق غشاء أنوثتها ومورست عليها كل طقوس الهيجان الجنسي بوحشية فظيعة أقعدتها رهينة الضياع، والعار يلاحقها من عين إلى أخرى ومن شارع إلى شارع ، وهي تردّد:

ـمن يتزوج بي؟

ـهل العادات والتقاليد ترحمني وتسترني، وتغلق أفواه النسوة، وتغمض عيون الهمز واللّمز، وتعلن الزغاريد في بيتنا، وأرفع رأسي دون حياء و هي على حالها بين الحيرة، والحيرة الكبرى في أن تنشر صورتها والأخريات عبر وسائل الإعلام المختلفـة، تجعل من قضيتهن مصدر الشهرة والتشهير، والمطالبة بقانون يحميهن ماديًا، ومعنويًا، وتستغل الأوساط الدسيسة وضعيتهن للمكابرة والتكبير.

ترفض سماح الخضوع لكل هؤلاء الذين يحاولون جعلها لافتة أخرى تعلق عليها أطماعهم قائلة:

ـما جدوى الفتوى التي تبيح لي إسقاط ما في رحمي وإعادة حياة الغشـاء وأنّ لا حرج في ذلك…؟

ـأين كانت الفتوى يوم رفع السلاح وذبح إخوتي وبقـرت ماشيتي وأحرقت زريبة أغنامي وبيتي ونكل بعشيرتي.

تعيد رفع مرآتها المشروخة وتحدثها في كبرياء مميت قائلة:

ـمن يعيد لي غشاء البكارة الذي فضته يد الإجرام ويمسح دموعي وأنيني؟

ـمن يعيد لي طمأنينتي وكبريائي، وثقتي بنفسي وبوطني وأهلي؟

ومن يعيد السلام إلى قلبي والسكينة، وهذا جسمي المترهل ينازع روحي ويصارع خلدي ويحول الواقع جحيمًا..

جراح عميقة وصرخات متتالية ترفض واقعا مؤلما، سجن رهيب بداخل سماح يسكنه خراب مميت.

تـذرف سماح العبرات الملتهبة لتغسل بها مرآتها المشروخة عبر أنوثتها المطحونة وذاتها الممزقة، فجأة ترميها على الأرض، تتكسر، تسحقها بقدميها وهي تصرخ بعصبية قائلة:

ـلقد ضاع كل شيء، أين عذريتي يا وطني وقد حملت جنيناً لا أب له؟

-تعيدني هذه الكلمات كقاريء للرواية إلى الإهداء الذي دونته الكاتبة والذي تقول فيه :

“إلى كلّ من عانى من مأساة الفتنة ودفع حياته بين فكّيّ السّلطة والتطرّف”

-وللمرة الثالثة تستدعي القراءة لهذه الرواية مخزونا ذاتيا عندي : الوطن الثورة التضحيات الإنسانية، الحقوق الواجبات ،المشاعر الصراعات ، الدولة حقوق المواطن ، العقل ،والمنطق، والتساؤلات التي لا إجابة محددة عنها ، لقد صرخ في وجهي شاب شيبته الحوادث :كيف نقبل ونحن منتصرون ما لم نقبله ونحن منهزمون ،إنه نصر بطعم هزيمة مرة ،في الهزيمة نعاني ونقاسي ،ونتحمل ويلاتها ،ونضحي ،وعندما ننتصر يسلب منا الانتصار ،ونعاني أكثر ،ويظل الأجنبي الذي نهبنا وقتل خيرة شبابنا يظل يتمتع بمزايا لا نتمتع نحن بها ،فيكرم ويبجل في كثير من أوطاننا ،وكأنه في بلاده ،وهو في بلاده مواطنا من الدرجة الأولى ،ونحن هناك أجانب ،وهو هنا أيضا مواطن من الدرجة الأولى ،فكيف نكون أجانب في أوطاننا .

-وتتردد في خاطري صيحة آخر وهم يريدون هدم منزل رجل فقير لإعادة تخطيط القرية ، ويقولون له : إنك بنيت بيتك بطريقة غير مشروعة ،ولا يحق لك الاعتراض على هدمه لقد بنيت على( أراضي الدولة) فيصرخ بأعلى صوته :لقد ولدت في هذا البيت ،وولد فيه أبي وجدي :أنا الدولة أنا الدولة أنا الدولة ،ولو لم أكن أنا الدولة فأنتم حكومة المحتل .

-هل يدرك أصحاب السلطة أن المواطن هو الدولة ،ولا دولة دون مواطن ،وأن المواطن في بلده الحرة يجب ألا يمتاز عليه أي ابن لبلد آخر ،وأن للمواطن حقوق كما عليه واجبات ،أولها أن يحيا في أمن وأن يظله العدل ولا يهدد حياته أحد ،وأن يسلم من أي عنف أو تمييز ،وأن تظله عدالة اجتماعية شاملة ،هو أمل نتمنى أن نراه وقد تحقق فعلا على أرض أوطاننا ، وأن تنتهي كل أشكال العنف ، وتتابع القوانين التي وضعت لذلك فالعنف قتل للحاضر والمستقبل ،ولنتأمل قول ابن خلدون منذ مئات السنين “من كان مرباه بالعسف “(12)أليس ما قاله العلامة الكبير هو ما تعاني من أغلبه أوطاننا ؟

-وقبل ختام هذه القراءة السريعة علينا أن نقف عند العنوان :السوط والصدى ،فقد جعلته الكاتبة العتبة الأول والأخيرة ،السوط رمز للعنف والظلم والقهر والألم ،السوط أداة في يد الطغاة يلهبون به جلود الضعفاء ،ويذلونهم به ،السوط أداة السادة في قهر العبيد وإخضاعهم والتنكيل بهم ،وكم من مقهور مات تحت نير ضربات سياط الطغاة الذين لا يردعهم إلا عزرائيل وهو يقبض أرواحهم ،وستسحبهم الملائكة وتجرهم على وجوههم وتلقيهم حطبا لجهنم جراء تعذيبهم لمخلوقات الله ،لقد خلق الله بني آدم ،وكرمهم وسخر لهم ما في البر والبحر ، ويأتي الطغاة بسياطهم فيذلون من كرم الله ويعذبونهم بلا وازع من خلق أو ضمير أو إنسانية .

إن السوط كرمز يتسق إتساقا كبيرا مع مضمون هذه الرواية التجريبية ،ويفتح كثيرا من نوافذ التأويل .

-أما الصدى :فإذا كان السوط معروفا فالصدى هو رجع الصوت ، وصدى ضربات السوط قد تكون مؤلمة أكثر من السوط ،لما فيها من رعب ،واستحضار لألم السوط ، وهذا يتطابق مع مضمون الرواية فإذا كان للسوط أثر مؤلم ،فصدى الألم مؤلم أيضا ،ومرعب في الوقت نفسه ،يقتل المتطرفون الأبرياء بعنف ،وترد عليهم السلطة بعنف أيضا ،هم يستحقونه ،ولكن الأبرياء يسقطون بالسوط والصدى أيضا ، وهناك من يؤلمه السوط متعدد الأشكال ،وآخر يؤلمه أكثر عجزه عن إيقاف هذا السوط.

إن رواية السوط والصدي رواية تستأهل الاحتفال فكرا ،ووجدانا ،وصياغة ، الفكر الذي يمثل عقل الرواية: فكر سام يعلي من شأن الإنسانية وحب الوطن ،ويرفض التطرف والمساحات الرمادية ،ويرفض استضعاف المرأة والتمييز ضدها وقهرها ، والوجدان الذي يمثل قلب الرواية : يتألق في صدق إنفعالي ظهر في صور متتالية رسمت بإبداع لما يجلبه التطرف من مآس ، تجعلنا نشارك الكاتبة في كره هذا التطرف ، وحب الوطن ، والرغبة في أن يسود الإنصاف ،وأن تسود مجتمعاتنا العدالة التي تستحقها ، أما الصياغة التي تمثل جسم الرواية :فقد تألقت وبدت جميلة في : لغة فصحى سهلة الفهم ،استطاعت أن تبرز الفكر والوجدان ، فرسمت لنا صورا كلية وجزئية ،وأوحت بأحاسيس فيها من الأمل والألم الكثير، وكان التحليل النفسي والاجتماعي والتاريخي في الرواية متسقا مع النمط التجريبي لها، تفاعلت الشخصيات ذهنيا ونمت وتطورت رغم تقنية العودة للخلف التي استخدمتها الكاتبة ، تشابكت الأحداث وكونت عدة عقد في الرواية ،ولم تفرض على المتلقي حلا بل تركته يبحث عن حل للسوط والصدى .

 ولا يسعنا إلاّ أن نتمنى على الكاتبة – وقد فتحت جرحا مزمنا ، ويحتاج إلى جهد كبير لتطهيره وتعقيمه بعلاج شامل لفكرة التطرف واجتثاث جذورها ؛لذلك نتمنى أن تزيد مساحة الأمل عن الألم ، وأن تفرد أعمالا قادمة تكون دواء وترياقا لهذه الجراح النازفة ،سائلين الله التوفيق والسداد لعباده المخلصين .

الجيزة – مصر
ديسمبر 2018م

*****

الهوامش 

(1) رواية صحيحة
(2)قصة من أين لك هذا
https://www.qssas.com/story/35148
(3)معركة صفين
http://www.elbalad.news/1256314
(4)خطبة علي بعد التحكيم
http://arabic.irib.ir/islamic/show/item/9736
(5)سورة المائدة الآية 32
(6)سورة النحل الآية 125
(7) سورة اللمتحنة الآية 8
(8)سورة الحج الأية 69
(9) https://www.alukah.net/culture/0/58837/
(10) https://ar.wikipedia.org/wiki/
(11) https://mawdoo3.com/%d8%a3%d8%b4%d9%87%d8%
b1_%d8%a3%d9%82%d9%88%d8%a7%d9%84_%d8%b
9%d9%85%d8%b1_%d8%a8%d9%86_%d8%a7%d9%84
(12) http://www.feqhweb.com/vb/t535.html
(13) سورة ص الأيتان 82 ،83
(14) http://alqadriah.blogspot.com/2016/01/blog-post_72.html

*****

(*) رواية السّوط والصّدى للروائية عائشة بنور ( الجزائر) الصادرة عن منشورات دار الماهر 2018.

guilaf sawt w sada

اترك رد