صدر حديثًا للمطران بطرس مراياتي، رئيس أساقفة حلب وتوابعها للأرمن الكاثوليك، مؤلَّفٌ جديد بعنوان: “إلى مَن نذهب؟” وهو مجلَّد واسع متعدِّد المحاور، متنوِّع الموضوعات، متين اللغة، وارف العبارات، كثير الشواهد والأمثال، وبخاصَّة الإنجيليَّة منها.
“إلى مَن نذهب؟” عصارة ما يزيد على ربع قرن لراعٍ جليل يأبى إلاَّ أن يخاطب الضمائر بالمعرفة والإيمان والمحبَّة والحكمة، مقدِّرًا قيمة الكلمة، حاملاً مشعل الأمانة لله، وللوطن، وللكنيسة، وللخليقة كلِّها، على أكمل وجهٍ، حتَّى في أحلك الأوقات!
يقع الكتابُ-السِّفْرُ في 552 صفحة من القطع دون الوسط. وهو مجلَّدٌ تجليدًا فنِّيًّا ورقيًّا ملوَّنًا اعتنت به مطبعة شمالي إند شمالي، ونشرَته دار نعمان للثقافة في مطلع أيلول 2018. وسبقَ للدار أن نشرت للحَبر كتاب “أبحرْ إلى العمق!” (طبعتان، 2003). كما أشرف على أعمال التنضيد وقام بالإخراج والتدقيق الأستاذ جورج مراياتي.
صورة الغلاف لوحة زيتيَّة مُنتقاة بعناية من القرن التاسع عشر، تمثِّل الرسولين بطرس ويوحنَّا مُسرعَين إلى القبر صباحَ أحد القيامة (يوحنَّا 20/3-8 ولوقا 24/12).
إهداء الكتاب إلى روح والدَي المطران مراياتي، مع كلمات وفاء مؤثِّرة. وأمَّا تقديم الناشر الأديب ناجي نعمان فجاء فيه: “حِبر الحَبر سال من المُحَيَّا والمَحْيا، مَرَّ على الطيِّبات والأطياب، وتصفَّى بمختلِف الأحاسيس، إلى أن تمكَّن من الإجابة، في بَساطة، عن سؤالٍ جوهريٍّ يشغلُ كلاًّ منّا:”إلى مَن نذهب؟”، أفلا نقرأ، والحال تلك، ما سطَّره الحَبرُ لنُحسنَ اختيارَ الدَّرب؟ (…) ها هو يُخرجُ في مجلَّده الحالي الدرَّة الفريدة والنجمة المشعَّة الدالَّة إلى مَن هو الطريق والحقُّ والحياة، إلى مَن علينا أن نذهب جميعًا إليه. فلنُمسكْ، إذاً، على مثال يوحنَّا، بيَد راعينا الصالح، المطرانِ مراياتي، سميِّ الصخرة بطرس، ولنقصدْ معه راعي الرعاة، ذاك الذي لا يُغلَق له باب!”
ويقول المؤلِّفُ في افتتاحيَّة الكتاب (ص11-16): “لمَّا احتفلتُ باليوبيل الفضِّي لرسامتي الكهنوتيَّة في العام 1996 اخترتُ شعارًا لهذه الذكرى كلامَ بطرس الرسول: “إلى مَن نذهب، يا ربّ؟”. لم أجدْ كلامًا أفضل ممَّا قاله بطرس لأعبِّر عن تعلُّقي بالمسيح لأنَّ “كلام الحياة الأبديَّة” عنده، وليس لي سواه معلِّمًا وربًّا.
في يوم الاحتفال باليوبيل تقدَّم منِّي أحد المهنِّئين وهمس في أذني بعد أن قرأ الشعار على الصورة التذكاريَّة: “يبدو أنَّك لم تتخلَّ عن المعلِّم!” كانت أجمل هديَّة تلقَّيتها في ذلك اليوم. فكيف لي أن أتخلَّى عن معلِّمي يسوع الذي نذرتُ له نفسي كاهنًا، ثمَّ أسقفًا، ووجدتُ عنده كلام الحياة الأبديَّة”.
68 عنوانًا قسَّمها المؤلِّفُ إلى 4 أبواب: روح وحياة، سلام ورحمة، ميلاديَّات، فصحيَّات. وقد قدّمها بافتتاحيَّة وختمها بتأمُّل في الصليب والقيامة. وهي في مضامينها عظات وكلمات كان سيادته ألقاها في مختلف المناسبات والاحتفالات الدينيَّة والرعويَّة والاجتماعيَّة منذ أن بدأ خدمته الأسقفيَّة بحلب، مع مقالاتٍ سواها نُشرت في دوريَّات، أو لم تُنشر بعد.
وسرعان ما يعاينُ القارئ، منذ الوهلة الأولى، أسلوبَ سيادته المتميِّز يمضي فيه “على وَسْم من تدبيج هادف مُحبَّب وتطويع شائق متناغم”، كان نَهَجَه في كتابَه السابق “أبحرْ إلى العُمق”. ويتنشَّق المتأمِّل مُنتشيًا النفحات الروحيَّة الوجدانيَّة الخالصة المستمدَّة من وحي كلِّ مناسبة.
أسئلة كثيرة حائرة صاخبة مُثقَلة بالشكّ تُطرح عبر السطور، وأجوبة هادئة مطمئنة مفعَمة بالرجاء تحملها إليك النصوص: “إنَّه إيماننا الراسخ بقيامة يسوع. وبأنَّه قيامتنا بعد الموت. وبأنَّه قيامتنا في هذه الحياة. فنتغلَّب معه على آلام الصليب الجسديَّة، ونتسامى معه فوق جراح العذابات النفسيَّة، وننهض معه من قبور أزماتنا الاجتماعيَّة… هو معنا، يسوع معنا، اليوم، وغدًا، وإلى الأبد (هاءنذا معكم!، ص508-514).
ومن عبق هذا الإيمان يرفع المطرانُ الأدعيةَ متواترةً إلى “الذي قام من بين الأموات، ووطئ الموت بالموت، أن يُعيد إلينا الفرح بعد الحزن، وأن يشفي آلامنا ويبارك آمالنا، ويردَّ إلى أطفالنا الابتسامة، وإلى المرضى الشفاء العاجل، وإلى البائسين الصبر والفرج. وأن يُفرِّج عن الأسرى والمخطوفين، ويُرجع النازحين والمهاجرين إلى ديارهم سالمين. وأن يُليِّن القلوب ويزرع روح التآخي بين الشعوب “فلا ترفع أُمَّة على أُمَّة سيفًا، ولا يتعلَّمون الحرب بعد اليوم” (أشعيا 2/4)، (القيامة بين الخوف والفرح!، ص520-525).
في الخاتمة (ص531-540)، وتحت أقدام الصليب، يدعونا سيادته مجدَّدًا إلى التفكُّر والتفكير بجدِّيَّة وثقة في حضورنا ودَورنا كمسيحيِّين أينما كنَّا: “نحن معشر المسيحيِّين نعيش وأقدامنا على الأرض، أمَّا أعيننا فمرفوعة نحو الله. نحن كالشجر جذورنا في التراب وأغصاننا ترتفع نحو العُلى. نحن كالطود نعشق الأرض وقممنا تعشق السماء. نحن نبني العالَم. نحن نزرع الخير. نحن نشهد للحقّ. نحن نحبُّ الوطن وكأنَّنا سنعيش إلى الأبد، ولكنَّنا نفكِّر بالأبديَّة وكأنَّنا سنموت غدًا”.
ويرفع دعاء الختام: “أنِرْ، يا ربُّ، بنُور قيامتك أبصارَنا لينقشعَ سواد الليل عن عيوننا فنرى وجهك الوضَّاء. أنِرْ، يا ربُّ، بنُور قيامتك بصائرنا لينجلي الشكُّ عن قلوبنا فنؤمن بشخصك وكلامك المعطاء. أنِرْ، يا ربُّ، بنُور قيامتك دروب حياتنا المثقَلة والمرهقَة فنجد فيك الراحة والعزاء. أنِرْ، يا ربّ، بنُور قيامتك ظلمات عالَمنا الخاطئ لينتشر بيننا سلام روحك وفرح السماء. آمين”.
“إلى مَن نذهب؟” في أيدي الأبناء والأصدقاء تعبيرًا عن شُكر راعي الأبرشيَّة لله، في ذكرى رسامته الأسقفيَّة اليوبيليَّة الفضِّيَّة، وتأكيدًا لتعلُّقه بالمسيح، وتجديدًا لعهد الوفاء نحو الجميع: “وهل من هديَّة أغلى من كتاب؟”
“إلى مَن نذهب؟” فعلُ إيمان، وعهدٌ أكيدٌ للبقاء مع السيِّد المسيح، الذي عنده كلام الحياة الأبديَّة “ونحن آمنَّا” (يوحنَّا 6/67-69). هو إيمان الكنيسة حتَّى اليوم، مهما لطمَتْها نائباتُ الدهر أو دهمَتْها عادياتُ الزمن، ونحن على هذا الإيمان قائمون!