نظمت “مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية”، في مقرها بطرابلس، ندوة لمناقشة كتاب “المدن الأقطاب في لبنان – بيروت – طرابلس – زحلة – صيدا”، للمؤرخ الدكتور عبد الرؤوف سنو. شارك فيها: الدكتورة زهيدة درويش جبّور، الدكتور قاسم الصمد، الدكتور عدنان خوجة، الدكتور جان توما. كلمة الافتتاح للدكتور سابا زريق، والختام للدكتور عبد الرؤوف سنّو.
حضر الندوة رئيس بلدية طرابلس أحمد قمر الدين، الرئيس السابق للبلدية نادر الغزال، نائب إتحاد بلديات الضنية زياد جمال، مديرة الفرع الثالث لكلية الآداب في الجامعة اللبنانية بطرابلس جاكلين ايوب، وحشد من رؤساء الهيئات الثقافية والكتاب ومهتمين.
في ما يلي نصوص المداخلات كاملة:
د. سابا قيصر زريق
كلما اعتليتُ هذا المِنبرَ المُتواضِعَ، اعترتني رَهبةٌ. أولًا، لأني وضيوفي نكونُ أسرى، تُحاصِرُنا وتشدُّ أواصِرَنا رفوفٌ تأوي نفائسَ من لغتِنا، تنضَحُ أدبًا وبلاغةً ونحوًا وصرفًا وقريضًا. وثانيًا، لأني أكونُ في حَضرَةِ كوكبةٍ من أهلِ العلمِ والأدبِ والثقافةِ يُضفي حُضورُها خُشوعًا فكريًا مضيئًا. فأهلًا وسهلًا بكم.
لولا أخي الدكتور جان جبور، لما التقيتُ الدكتور عبد الرؤوف سنّو، للمّرةِ الاولى في مكتبي في بيروت. خَلَّفَ لقاؤنا اليتيم في نفسي إعجابًا، عَزَزَتهُ مودّةٌ فتيةٌ تفرِضُها شخصيةُ باحِثنا المحبّبة.
من نافِلِ القولِ إنَّ ما جذبني في مشروعِ كتابهِ، “المدن الاقطاب في لبنان بيروت- طرابلس- زحلة- صيدا”، هو إفرادُهُ لحيزٍ مهمٍ فيه لفيحائِنا. أنا الذي اتهمني صِدقًا اخي د. مصطفى الحلوة بأني “عاشقُ الفيحاءِ” أو “عاشقٌ للفيحاءِ”، لم اعُدْ اتذكر، وإنْ كُنْتُ أؤثِرُ اللقبَ الاول، لم أشأ أنْ افوّتَ على مؤسّسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية فُرصَةَ إقرانِ اسمِها باسم مؤلفِ إصدِارها الرابع والثلاثين، تلاهُ، بعد طباعةِ بطاقةِ الدعوة لامسيتنا هذه، كتابُ “طرابلس: أحداث وشخصيات” للأستاذ صفوح منجد، والحبلُ على الجرار والحمدالله، مع كتابَين سوف يَصدُران قبل نهايةِ العامِ الجاري. ألم يرسُمْني الدكتور جان توما بدوره “شيخًا للكتاتيب؟”، لقبٌ اعتزُ به، وإنْ كانت صفةُ “شيخ”، بمدلولِها العُمْري، تُفسِد بعضًا من صَفاءِ نيتهِ.
بعد قراءتي لبابِ كتابِنا المُخصصِ لطرابلس، احترتُ في وصفِهِ. أهو كتابُ تاريخ؟ ام جغرافيا؟ أم هو يُترجِمُ لشخصياتٍ تركَتْ بصماتٍ في مدينتنا؟ ام هو دليلٌ سياحيٌ احصى الكثيرَ من معالِم المدينة عَبر الحِقَبِ التي مرّتْ بها؟ ام هو تأريخٌ لحياتِها الثقافيةِ الزاخرة؟ الحقيقةُ هو أنَّ كتابَ “المدن الاقطاب في لبنان بيروت-طرابلس- زحلة- صيدا ” للعميد الدكتور عبد الرؤوف سنّو هو كلُ ما ذكرتُ وأكثر. ويتراءى لي أنَّ الفرائدَ التي تميزُ الكتابَ في معالجتِهِ لموضوع طرابلس، هي هي نفسُها التي إعتَمَدَها في دراستِه المعمّقة لـ “المدن الاقطاب” الأخرى.
فهنيئًا لنا هذا المؤلَّفُ القّيمُ وهنيئًا للمكتبةِ اللبنانيةِ بخاصّة والعربيةِ بعامّة هذه الإضافة الجميلة. وأتركُكُم الآن مع العزيزة البروفسورة زهيدة درويش جبور ومنتدينا الكرام الذين لا بدَّ ان تُلقي مداخلاتُهم أضواءاً نيِّرةً على ما اختزَنَهُ كتابُ مؤِّلفِنا من ثرْواتٍ معرِفية.
د. زهيدة درويش جبّور
إنَّ ميزة هذا المؤلَّف الأساسية هي الفرادة. بالطبع ليس البروفسور عبد الرؤوف سنّو أول من تناول بالدراسة تاريخ المدن وتطوّرها، ولكنه تفرّد بمقاربة شمولية أضاء فيها على تاريخ نشأة المدن الأربعة: بيروت، طرابلس، زحلة وصيدا، ثم تطوّرها عبر المراحل التاريخية على الصعد كافة: العمران، الإقتصاد، الاجتماع، الإنتاج الثقافي والإبداعي، مرورًا بأهمّ محطّات الحياة السياسية فيها، مبرزًا بعض الشخصيات التي كان لها حضورها الفاعل، متوقفًا عند مواقعها التاريخية، ومعالمها الأثرية، كلُّ ذلك بأسلوب شيّق ولغة سلسة أضافت عليها رونقًا خاصًا، الشواهد والصور، والنصوص المقتبسة. فالكتاب يجمع بين التحليل والعرض والتوثيق لكأنّه مجموعة كتب في مؤلف واحد ظلّ متماسكاً على تنوع مضامينه.
أما أنا فقد وجدت متعة كبيرة في رحلتي معه، وليس أكبر من المتعة إلا الفائدة. وكم أعجبت بقدرة مؤرّخنا على أخذ مسافته من الواقع ومساءلته بموضوعية علمية وحيادية تامة، مثبتاً أنّه ليس من المستحيل في لبنان كتابة التاريخ وقراءته قراءة مقنعة لمختلف الانتماءات والاتجهات.
ولعل البداية يجب أنْ تكون بتاريخ المدن أي تاريخ الناس بحراكهم الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، إنّه التاريخ من تحت وليس التاريخ من فوق، تاريخ السلطة وما يتفرع عنه من خلافات.
هذا كتاب للخاصّة والعامّة، بل هو كتاب يمكن أنْ يوضع بمتناول الباحثين كما معلمي المدارس والتلامذة، ممّا من شأنه أنْ يثبّت لديهم الانتماء المواطني الصحيح، ويعمّق معرفتهم بالمكان الذي يعيشون فيه.
د. قاسم الصمد
إسمحوا لي، أيها السيدات والسادة، أنْ أرحب، بإسمكم جميعًا، بالصديق والزميل العزيز البروفيسور عبد الرؤوف سنّو، في مدينته الثانية طرابلس، وأنْ أشكر مؤسّسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية بشخص رئيسها الصديق العزيز الدكتور سابا زريق، الذي أتاح لنا فرصة اللقاء بكم في هذه العشية الطيبة.
إنَّ تناول كتاب “المدن الأقطاب في لبنان” بالنقد والتحليل، وإيفاءه حقًا له مستحقًا علينا، في بضع دقائق، أمر عسير يصعب إنجازه. لذلك سأكتفي بالكلام الموجز، ما أمكنني في موضوعين اثنين فقط:
أولاهما: استعراض تاريخي لأهم مميّزات كلٍّ من المدن الأربع.
ثانيهما: تناول بعض الإشكاليات التاريخية الوطنية التي طرحها د. سنّو واقترح الحلول لبعضها بموضوعية موصوفة وجسارة نادرة ووطنية صافية.
لقد أنجز المؤرّخ عبد الرؤوف سنّو كتابه مترسملًا بعدّة معرفية تاريخية ثرة، استثمرها في صناعة ذاكرة وطنية، مترفعًا كعادته عن كلِّ مراءاة أو مداهنة، متجنبًا الوقوع في فخّ التوفيقية، متخففًا من قيد كلِّ عصبية طائفية أو مناطقية، حسبها الكثيرون محبّة وطنية، معتبرين، في غفلة منهم أو تغافلًا، أنَّ محبّة لبنان والاخلاص للطائفة يكمنان في اعتبار تاريخ الوطن هو فقط تاريخ الجبل: شوفًا ومتنًا وكسروانًا، فأثبت سنّو دائمًا وطنيته المنعتقة من قمقم الطائفية، المنطلقة الى رحاب الوطن ليستحق بجدارة لقب المؤرّخ الوطني بامتياز.
كما دبج د. سنّو أبحاث كتابه متوسلًا منهجية علمية تنحو باتجاه “مدرسة الأنال الفرنسية”، مع أنّه ألماني المنهج واللغة والهوى، جامعًا بين جفاف المستند والنصّ وغناهما مع حيوية الصورة واللقطة والمقابلة، مستعينًا بمعطيات مختلف العلوم المساعدة لعلم التاريخ Les sciences adjointes de l’histoire
بيروت:
انطلق سنّو من بيروت العاصمة “أم الشرائع ومرضعتها”، كما سماها الإمبراطور جستنيان في القرن السادس، الميناء الرئيسي لبلاد الشام زمن الأمويين، التابعة سنجقًا لولاية دمشق أو طرابلس أو صيدا، الى أنْ تربعت عاصمة لولاية تمتدّ من اللاذقية الى نابلس العام 1888 وعاصمة لبنان الكبير العام 1920.
وقد آثر، وحقّ له، أنْ يحشد القدر الأوفر من مادته التاريخية السياسية في القسم المخصص لبيروت من كتابه، خصوصًا منذ الحرب العالمية الأولى وصولًا الى انتخابات العام 2018، مرورًا بفترة الانتداب ومواقف الطوائف، الى معركة الاستقلال وعهوده الرئاسية، والأزمات المتتالية والخلافات حول السياسة الخارجية وكيفية التعامل مع الأنظمة العربية، فالحرب الأهلية و”اتفاق الطائف”، الى اغتيال الشهيد رفيق الحريري، فالمحاولات القائمة راهنًا لتفريس لبنان.
كما أفرد أيضًا المساحة الأوسع لبيروته، المدينة الكوزموبوليتية التي شهدت امتزاج أصالة الشرق بحداثة الغرب، منذ هبوط الموارنة اليها بعد العام 1860، ومنذ أنْ باتت قبلة الأجانب ومقرّ وكالاتهم التجارية والقنصلية، وتحوّلت الى مركز تبشيري وثقافي، فانعكس ذلك نهضة عمرانية وتربوية، واختلاطًا وتعايشًا طائفيين، ما دفع بأحد الولاة الأتراك الاتحاديين الى القول: “لا أشعر وأنا في بيروت بأني وال عثماني، بل بأني قنصل عثماني في حاضرة غربية”.
طرابلس:
الى طرابلس، متروبول فينيقيا وزعيمة مدنها، دخلها الرومان العام 64 ق.م.، ثم ضربها زلزال العام 551، فجدّد عبد الملك بن مروان عمارتها وحصونها، لتتحول، إذ جعلها المماليك عاصمتهم الثانية، الى “قاهرة مصغّرة”، كما حفظ العثمانيون مقامها فبقيت المرفأ الأكبر على الساحل الشرقي للبحر المتوسّط، كولاية حصينة غنية تنافس في عظمتها ولايتي دمشق وحلب. مرورًا بما بلغته من شهرة واسعة وازدهار كبيرين زمن بني عمار، لتستحق تسميتي “دار العلم” و “مدينة العلماء”، مع احتضانها لأهم مكتبة في بر الشام يعمل فيها مئة وثمانون ناسخًا وخطاطًا.
وهكذا يسجل المؤرّخ سنّو أنَّ طرابلس القديمة هي بحق “متحف قائم بذاته، تتميز بعراقة أحيائها الداخلية وبما تحويه من كنوز معمارية أثرية، من خانات وحمّامات وجوامع وكنائس ومدارس وزوايا وتكايا، الى برج ساعتها وقلعتها الأكبر في لبنان والأقدم.
يرى عبد رؤوف سنّو أنَّ ازدهار بيروت وتحوّلها معجزة اقتصادية قد تزامنا مع انتقالها من نظام الخانات الى الفندقة، في حين بقيت طرابلس المدينة، التي يمتزج فيها الحاضر بالتاريخ، مصرة على عدم الخروج من جلباب تقليديتها. وهو، إذ يحمل جانبًا من المسؤولية في ذلك، مع عوامل أخرى، الى عتاة برجوازية بيروت، السنيّة منها والمسيحية، في رفضهم العام 1926 إلحاق طرابلس والضنية وعكار بسورية، خوفًا من أنْ تتحوّل، بمرفئها وغناها الاقتصادي، الى مرفأ سورية الأول، فتنافس بذلك بيروت ومرفئها.
ولا أدري، أرجو أنْ تعينوني، إنْ كانوا بما فعلوه قد أضروا بطرابلس من ناحية، خوفاً منها وحسدًا، أم أسدوا اليها خدمات من نواح أخرى، ضنًا بها أو حبًّا لها؟؟
ولا ينسى سنّو، بعد إشادته بما شهدته وتشهده طرابلس من نهضة فكرية وفنية وأدبية، أنْ يستحث الخطى، بل أنْ يستفز أولي الأمر وأهل الرأي والقدرة فيها، كي يعملوا، وفق خطط وبرامج تشمل كلّ المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية و… ، فضلاً عن ترميم الآثار القيمة وصيانتها، بعد كلِِّ ما أنزلته بها من نوازل تطورات السياسة وانتشار الأصولية وتفاقم الأوضاع الاقتصادية.
زحلة:
الى عروس البقاع زحلة، المتشاوفة المتباهية بالأربعين لقب ووصف وتسمية، ينقلنا سنّو.
هي ثالثة المدن الأربع الأقطاب والأحدث بينها، ذات الخمسين كنيسة وثلاث جوامع. فكان عدم التجانس الطائفي فيها، يقول سنّو، السبب في جعل التعايش قدرها.
وهي الرائدة بنزوع أهلها الى التميّز في مختلف مناحي النشاط البشري. فهم من شكلوا، منذ العام 1855، مجلس أعيانها محدثين ما سموه “الجمهورية الأولى في الشرق”، ومارسوا روح الجمهورية وفصلوا بين الدين والدولة، ولم يسمحوا لرجال الكنيسة بممارسة السطلة عليهم.
لكن زحلة بقيت طوال تاريخها تؤكّد انتسابها السياسي وعاطفتها الدينية الى الجبل المسيحي، على الرغم من تبعيتها الاقتصادية للبقاع وللداخل العربي، ما يعني بقاء قلبها معلقًا في المقلب الغربي لصنين، وعقلها المصلحي متشقلبًا في المقلب الشرقي لوادي الحرير، منقلبة على مقولة آل سكاف بأنَّ زحلة مقبرة الأحزاب.
وهي حاضرة البقاع ومركزه التجاري والخدماتي والاداري والتعليمي والاستشفائي. وفي فندقها القادري أعلن غورو قراره التاريخي بضم الأقضية الأربع الى جبل لبنان ممهّدًا بذلك لإنشاء دولة لبنان الكبير.
ولما كان البعض قد أراد لصيدا ألا ترقص ولا تشرب، وكذا لطرابلس ألا تفرح ولا تطرب، فإنَّ زحلة كانت تتألق، طوال القرن العشرين، بحاراتها المقرمدة وفنادقها العامرة وبردونها وكرمتها ونبيذها وانفتاح أهلها، حتى باتت مقصد ومرتع مشاهير العالم من أهل الفن والأدب والسياسة، من المحليين والعرب والعالم؛ من جمال باشا وديغول الى أمبراطور البرازيل وفولني ولامارتين، الى شوقي وأم كلثوم وعبد الوهاب، إضافة الى معاهدها وشعرائها ومؤرخيها وأدبائها من المعالفة وفيروز وديانا شمعون، الى حنكشها وسعيدها، الذي عملقها ولم يعقلنها، والذي وصفها بأنّها المدينة المسيحية الوحيدة بين البحر المتوسط والصين.
بذلك كلّه استحقت زحلة اختيارها على شبكة الأونيسكو واحدة من المدن المبدعة الخمس وعشرين في العالم.
صيدا:
أما صيدا الضاربة عميقًا جذورها في التاريخ، التي بناها صيدون بن سام بن نوح، فقد قدر لها أنْ تصبح سيدة البحار، وأنْ تؤسّس امبراطورية تجارية بين القرنين 16 و13 ق.م. ما أطمع بها كلّ الغزاة والفاتحين على مرّ الدهور، ابتداء بشعوب البحر والأشوريين والفرس واليونان والرومان، الى الفتح الأسلامي وعهوده العربية فالأعجمية، مرورًا بقدوم السيد المسيح إليها، ومن ثم تحويل المدينة الى أسقفية في مطلع القرن الرابع.
هي المكتنزة آثارًا تشهد على عراقة تاريخية وغنى بالأوابد، قديمها ووسيطها وحديثها: قلعتاها، أسواقها، نواويسها، كنائسها ومساجدها، ساحاتها العشر، مقابرها، حماماتها، خاناتها وبيوتها الأثرية المرمّمة حديثًا.
هي صيدا الشاهدة والشهيدة. الشاهدة على العظمة والتفوّق، كما على المآسي والحرائق التي التهمت نيرانها الزرع والضرع والميناء على أيدي أسرحدون ورفضًا لسيطرة ارتحششتا. والشهيدة باستشهاد الزعيمين رياض الصلح ورفيق الحريري وبينهما المناضل معروف سعد.
أيها السيدات والسادة
لدى قراءتي كتاب عبد الرؤوف سنّو بعين المتفحص النهم لتتبع التطوّرات السياسية اللبنانية، الأثيرة عندي، أيقنت أنَّ هدفه لم يكن سرد الأحداث ورصد المواقف فقط، بل البوح بما يقض مضجعه وبما يعتمل في قرارة نفسه من هواجس شخصية وطنية، ومن أحكام جريئة صادمة حيال تلك الأحداث وأطرافها وأبطالها. كما أحسّست بأنّه يستنفر أقرانه من أهل التاريخ الغيارى، ويستحثهم على المباشرة في كتابة، ليس فقط تطوّرات الأحداث وسير الشخصيات الصانعة لها، بل في الغوص لاستكناه أسباب وخلفيات تلك التطوّرات الهامّة، التي تستبطن أكثر بكثير مما تظهره من اشكاليات ومفارقات، كانت وما تزال، ويبدو أنّها ستبقى هي الأساس في عدم انتظام حياتنا الوطنية، إنْ لم يتوصّل اللبنانيون، ولو لمرّة واحدة، الى اجتراح الحلول لها.
وإذ أردتُ أنْ أكثف تلك الإشكاليات الكامنة خلف الأزمات الدورية التي يعيشها لبنان، والتي آثر سنّو أنْ يتعرّض لها بإيجاز، ويصدم القارئ بجرأته على مطارحتها وأخذ المواقف حيالها، وعلى طرح الحلول المانعة لامكانية تجدّدها، لاكتفيت بالتطرّق الى اثنتين منها بما أمكنني من اقتضاب، وهما أولًا الخلاف حول هوية لبنان، وثانياً نهج أهل السياسة وأولي الأمر، المسلمون منهم بخاصّة، في طرائق تصديهم لمعالجة كلّ أزمة وطنية.
في الهوية:
لقد دأب البروفسور سنّو، في مقدّمة كتابه كما في المتن والخاتمة، على القول بأنَّ اللبنانيين لم يستطيعوا ترسيخ تعدّديتهم الثقافية على أُسس وطنية في ظلِّ نظامهم الطائفي وفي تطلّعهم الدائم الى الخارج. (ص13)، إذ أنَّ التعدّدية الثقافية القائمة على ثقافة التعدّد وعلى الاعتراف المتبادل بـ “الآخر” والقبول به وبخصوصيته والعيش معه غير متوافرة في لبنان، (ص 14 و 96)؛ فبقيت العلاقات بين الطوائف والمذاهب تتراوح بين حدّي التعايش والنزاع من دون اتفاق على الأُسس، بما فيها الهوية (ص 39). وقد كان هذا بتأثير الترابط بين الدين والثقافة، وعلاقة الثقافة بالدين وبالسياسة وبالنظام السياسي (ص 124).
وإذ يسخر سنو من “الديمقراطية التوافقية الكاذبة”، التي قامت على رفض الآخر والتسلّط عليه وسلب حقوقه وإلغائه، فإنه يردّ ذلك الى إصرار المسيحيين، الموارنة تحديدًا، على خصوصية ثقافتهم السريانية، والى إصرار المسلمين على نفي وجود ثقافة لبنانية بنفسها، بل الصحيح هو ثقافة عربية وعاؤها الاسلام، الى حدّ دمجهم العروبة بالاسلام (ص 125).
وعلى الرغم مما أقرّه “اتفاق الطائف” من أنَّ “لبنان عربي الهوية والانتماء”، فإنَّ أكثر من طرف راح يعلن حينًا ويضمر أحيانًا رفض بل ضرب هذا المفهوم، الذي لم يعط فرصة الاختبار الحقيقي (ص 132)، في ظلِّ “عروبة النظام السوري الكاذبة”، وتعصّب للهوية اللبنانية من قبل غالبية المسيحيين وبعض المسلمين الليبراليين، في ظلِّ أصولية سنيّة عربية وأصولية شيعية فارسية ترفضان الآخر وتعملان على تهميشه، إنْ لم يكن استئصاله وطمسه، وحتى الغاء المختلف معهما من أبناء جلديتهما.
إنَّ غياب ثقافة التعدّد، التي يصرّ عليها د. سنّو، تجلت له بأسوأ وجوهها لدى مشاركته في أكثر من لجنة عليا تألفت من أكاديميين، لصياغة منهج جديد لكتاب التاريخ الوطني، حيث أدرك كم كان ساذجًا الاعتقاد بأنَّ المسيحيين تعرّبوا بموجب نصّ لم يختبروه، وبأنَّ المسلمين تلبننوا بعد حدوث مصالحة في وجدانهم بقبول تقديم لبنانيتهم على عروبتهم، مدللًا على ذلك بأمثلة منها، إصرار ممثلي حزب الله من أكاديميين وسياسيين على رفض الاعتراف بشهادة شهداء المقاومة اللبنانية في وجه الاحتلال السوري، واقتصار شرف الشهادة على من سقط من المقاومة الاسلامية في معارك تحرير لبنان من الاحتلال الاسرائيلي، فأصبح لدى سنّو الاقتناع:
أولاً بأن الاستنسابية والخلل في المعايير لا تنتج كتاب تاريخ وطني هدفه الانصهار الوطني وتثبيت الهوية.
وثانياً بأن مجتمعًا منقسم الثقافة والهوية والسياسة لا يمكن أنْ يوحده كتاب تاريخ يقوم على التعبئة الأيديولوجية والتعصّب ورفض الآخر.
وثالثاً بأن ليس كتاب التاريخ هو الذي ينتج هوية للبنان كما أعتقد وآمل وأضعو “اتفاق الطائف”، بل هي ثقافة التعدّد التي تنتج توافقًا مجتمعيًا وسياسيًا على الهوية، وليس ما يمارسه حزب الله والجماعات الأصولية من تعميم ثقافتهم وطقوسهم الدينية وفرض الرأي على الآخر.
وإذ يغلق سنّو نوافذ الأمل في أكثر من موقع في كتابه، فيعتبر أنَّ معضلتنا التاريخية ليست في طريقها الى الحلِّ أو التسوية، وأنَّ لا أمل في الوصول الى تعدّدية ثقافية في لبنان تكون مخرجًا له من أزماته لانتفاء ثقافة التعدد (ص136 – 137). كأني به يكتب مع جورج نقاش مقولته المشهورة: Deux négations ne font pas une nation ” “سلبيتان لا تصنعان أمة”، ذلك أنَّ اللبنانيين لم يعملوا على وضع تسوية دائمة لمسألة هوية كيانهم و… لم يجعلوا من تنوعهم الثقافي مصدر قوّة وغنى، وتطويره في اتجاه ثقافة عولمية منفتحة (ص 338). ويزيد على ذلك متسائلًا: “ما الذي يضرّ بالعروبة أو بالثقافة اللبنانية إذا تعدّدت روافدها، خصوصًا إننا نعيش اليوم في عصر العولمة” (ص 131).
وهكذا، فهو يستشرف مستقبلًا افتراضيًا بأنْ تسهم العولمة في التقارب الثقافي بين المسلمين والمسيحيين، إنْ تخلّى الأولون عن إصرار غالبيتهم على رفض التعدّدية الثقافية، وإن تخلى المسيحيون/غالبيتهم عن تمسّكهم بخصوصيتهم الثقافية المتغذية من ثقافة الغرب، وانطلاقًا من أنَّ مفهوم “التعددية الثقافية” يمثّل أحد أبرز المفاهيم التي تزداد جاذبيتها وحضورها في لغة الفكر العالمي.
في النهج:
أما نهج أهل السياسة، في المراحل المفصلية من تاريخ لبنان، فيتناوله د. سنّو بشجاعة قلَّ نظيرها لدى المؤرّخين اللبنانيين، المسلون منهم بخاصّة، وذلك عند تطرّقه الى مواضيع تاريخية تتسم بالخطورة والإشكالية والراهنية أيضًا.
يرى د. سنّو أنَّ انضمام لبنان العام 1957 الى مشروع ايزنهاور كان خروجا “على مبادئ الميثاق الوطني، القاضية بتحييد لبنان عن الانخراط في أزمات العالم العربي. لكن ردّ المسلمين/غالبيتهم كان خرقا” آخر لمبادئ الميثاق؛ فلم يكتف هؤلاء، عامتهم، وخاصتهم بالتبعية لعامتهم، بالتعبير والمجاهرة بفرحتهم بقيام الوحدة بين مصر و سورية وارسال الوفود للمشاركة بالاحتفالات، بل وصل الأمر بهم الى حدِّ المطالبة بضمِّ لبنان الى “الوحدة المجيدة”.
ومع نمو المقاومة الفلسطينية، سارع المسلمون/غالبيتهم والأحزاب اليسارية الى معاضدتها وتأييد نشاطاتها بحماس، وصولًا الى فرض “اتفاق القاهرة” العام 1969، حيث طالب المفتي حسن خالد، ومعه غالبية المسلمين السنّة، بتشريع العمل الفدائي عبر الحدود اللبنانية، معتبرًا أنَّ المقاومة الفلسطينية هي “جيش المسلمين”. وكان هدفهم المعروف، يقول سنّو، هو الاستحواذ على الحكم من أيدي المسيحيين المهيمنين عليه، القابضين على مقاليد الأمور فيه.
وكان كلَّ ذلك “على حساب الأمن الوطني” والتوازن بين الطوائف اللبنانية، “وغير عابئين/المسلمون/ بالأضرار الناجمة عن الغارات الردّيّة الاسرائيلية على المرافق الاقتصادية اللبنانية” (ص 297).
يورد د. سنّو أنَّ رشيد كرامي، رئيس مجلس الوزراء، أخذ جانب المقاومة الفلسطينية في خضم الصراع بينها وبين الدولة اللبنانية مطالبَا مجلس النواب بتشريع العمل الفدائي. ولما لم يستجب له، اعتكف ما يزيد عن الستة أشهر تحت وطأة ردود فعل الشارع الاسلامي والطرابلسي بخاصّة، الناقم على الجيش اللبناني لتصديه لنشاط الفدائيين…الى أنْ أرغم الدولة على الاذعان والقبول بتشريع العمل الفدائي… فأقرّ “اتفاق القاهرة” الذي كان “وبالا” على لبنان وعلى حساب التوافق الوطني والتوازنات الطائفية” (ص 179). كم أغُبطك على جرأتك؟. وكذلك الأمر العام 1975، حيث رفض كرامي “انزال الجيش لضبط المقاومة الفلسطينية وإلا خسر شارعه الطرابلسي والسُنّي” (ص180)
ويمضي سنّو في جرأته المتصاعدة وتيرة، فيورد في خاتمة كتابه ص339 أنَّ الانقسام الوطني ترسّخ على أساس طائفي بعد الميثاق الوطني بين غالبية مارونية تستجدي الحماية من أحلاف غربية ومن نظام ألاسد فاسرائيل، وبين مسلمين لم يتعلّموا أنَّ وطنهم الجديد أضحى “لبنان الكبير” والمستقلّ، فارتموا في أحضان الوحدة السورية فالناصرية والمقاومة الفلسطينية والبعثية والقذافية وكل ماهو “عروبي”، أكاد به يلفظها “عربجي” اتٍ من الخارج.
أيها السيدات والسادة
بماذا، يا ترى، كان البروفيسور سنّو يجيبني، لو أني طرحت عليه، قبل انجاز كتابه، بضعة أسئلة غير بريئة، محاولًا أنْ أبوحه بما لم يبح به على صفحات كتابه؟
السؤال الأول: هل إنَّ محبّة لبنان (بمعنى الاخلاص له والعمل لمصلحته) المصرّح بها من قبل زعماء الطوائف، تأسّست على ادعاء الايمان بذات لبنان ورسالته، أم على حقيقة إن محبّة أحدهم تلك تبقى قائمة ما دام لبنان له، يحكمه مهمشًا أقرانه مورثًا أبناءه حرفة “الزعامة على الرعية”؟!.
السؤال الثاني: هل أثبت أحد من زعماء الطوائف، سواء من عاند بالقول: “أقطع يدي ولا أوقع على تقليص صلاحياتي كرئيس للجمهورية”، أو ذاك الذي رفض انزال الجيش “كي لا يخسر زعامته”. إنَّ الحفاظ على لبنان وديمومة وجوده وسلامة بنيه يتقدّم على التمسّك بمكتسبات طائفته أو على الاستماتة في سبيل تأمين رسوخ زعامته ودوامها؟
السؤال الثالث: هل إنَّ مفهوم الزعامة يعني أنْ ينقاد الزعيم أو القائد لعواطف ورغبات العامّة في طائفته ومدينته وشارعه، فيستحيل القائد مقودًا والمقود قائدًا وموجهًا ومقررَّا؟ أم إنَّ أهم مهمات الزعيم أنْ ينبّه ويوجّه ويبصّر عامّة طائفته وعوام مواطنيه الى أنْ انهيار الوطن سيقضي على أمانهم وأمانيهم، والى أنَّ ضياع لبنان لن يعوض باستعادة فلسطين، ولن تستعاد فلسطين باستباحة الحدود اللبنانية، فيما حدود مصر والاردن وسورية موصودة مرصودة لصالح الأنظمة وتعهدات الحكام وارتباطاتهم؟!
والأسئلة تترى متذررة لا تنتهي.
لن أثقل عليكم أكثر
د. عدنان حوجة
الحديث عن سيرة المدن فيه الكثير من نوستالجيا الأنسنة. ذلك أنَّ من يصنع المدن هم ناسها وأهلها والمارين عبرها على ناصية الحدث؛ من غزاة ومستعمرين وعشّاق بينهم الكتاب والفنانون والمؤرّخون حيث ينكبون على ترسيم الهوية ويعكفون على ملامح التكوين؛ فيرتبون مفاصل الأحداث وفق مراتب ومدوّنات نسميها تاريخ.
وتاريخ المدن هو محطّات في المسار الزمني، في السالب والموجب، كثيرًا ما تشي بمنظومة من قيم الجمال والإبدع, التقدّم والتراجع, والصمود والاستسلام، الضمور والتنامي، والتطوّر والتخلف ليبقى كلُّ هذا المسار جزءًا من الهوية التراكمية أو القيمة المضافة. هكذا عرفنا أهم المدن العربية والعالمية.
هكذا هي المدن الأقطاب موضوع اجتماعنا اليوم، كما شاء تسميتها الباحث الدكتور عبدالرؤوف سنّو في اصداره الأخير المميّز. بعناية مؤسّسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية، وبهمة المجلي الدكتور سابا زريق الحفيد مشكورًا.
أنْ تتعرّف مع الدكتور عبد الرؤوف سنّو على مدن لبنان، فهذا يعني أنْ تقرأ في نصوصه ترجمة للوقائع والأحداث والتطوّرات المفصلية في حراك تلك المدن؛ بأهلها وناسها بعمرانها وتجلّيات هذا العمران الاجتماعية. تقطف بلمس اليد والذهن سيرة مدن صنعت التاريخ ولم يصنعها التاريخ . تقف أمام محطّات مهمّة من حياة الساحل اللبناني السوري في فترات مهمّة ومفصلية استطاعت فيها تلك المدن أنْ تحتفظ بحيويتها وبنبض الإبداع فيها، ومن ثم الإسهام في رسم المسارات الحضارية التي كرست بعضًا من هويتها وسماتها في العمران.
منذ البداية، حدّد الكاتب توجهاته البحثية؛ ففي مقدمة الكتاب يقول (رغبنا في أنْ يسدَّ نقصًا معرفيًا، ليس موسوعة أو دليلًا … فهو يقدم ملخّصًا معمّقًا شاملًا وجامعًا لنتائج معظم الكتب والمراجع والمقالات والدراسات والتقارير التي تناولت تاريخ المدن الأقطاب) منذ البداية. اذن نحن أمام خارطة طريق واضحة ومحدّدة.
وفي تحديد أدقّ، يتوجه الباحث إلى عينة من القراء هي جيل الشباب الذين لم يتسنى لهم الالمام بتاريخ لبنان، بسبب غياب كتاب تاريخ موحد، يفتقد الكاتب حضوره في أكثر من موقع من مؤلَّفه الجديد.
لذلك، واستكمالًا لخارطة الطريق، يعتمد الباحث أسلوبًا سهلًا ممتعًا شهد له فيه كلّ من اطلع على الكتاب ودون بعضهم ملاحظات مهمّة تابعتُ قراءتها في الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي خلال الأسابيع الماضية. ومن هذه التعليقات ما ورد في صحيفة اللواء على صفحتها الثقافية تاريخ الجمعة 28 ايلول المنصرم على لسان الدكتور نادر غزال قوله: “بدأت بنية التصفّح السريع للكتاب، فوجدت نفسي أقع في فخّ شغف القراءة المتعمقة”. أما الدكتور محمد مراد فيقول: “غرفت من الكتاب معينًا معرفيًا أضاف إلى الحراك التاريخي للمدن المدروسة مقولات جمعت تلويناتها الثقافية والحضارية والفنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية بين لوحات متعدّدة تكاملت في إنتاج هوية كيانية لبنانية دخلت التاريخ الحديث لتؤكّد أنّها حقيقة تاريخية”. وفي قراءته يتنبأ الدكتور جان جبور بالقول: “سوف يكون هذا الكتاب مفيدًا جدًا لأجيالنا الطالعة التي يخشى أنْ يُحجب عنها ما تعانيه اليوم التجارب الجميلة التي عاشها الوطن.” وهذا ما يعكسه واقع الحال أمام الجيل الذي عاصر لبنان في أوجّ نهضته ويعيش اليوم هجين الثقافة والسياسة والعمران. ويقول الدكتور أمين فرشوخ: “ركّز (د. سنّو) على مدن لبنانية هي ذاكرة الوطن؛ استطاع في نقل بعض تاريخها أنْ يبرزها نجمات ساطعات مثّلت أدوارًا مهمّة لأهلها وللبنان كلّه، والجديد فيها ما أضاء على الازدهار الأدبي والثقافي والفنّي”. من هذا المنظور تأخذ الصورة الماضية تألقها المميّز، ليس بوصفها صورة الذاكرة الحميمة وحسب, بل باعتبارها مرأة يقاس عليها الواقع الحالي بكلِّ البؤس الذي خلفته الحرب وتداعياتها على واقع المدينة اللبنانية.
يلح المؤلِّف منذ مطلع الكتاب وحتى الاستنتاج العام على تقديم الصورة المثالية لواقع يعيش في ذمّة الماضي عبر استعراض التراكم الحضاري الذي تعاقب على المدن الأقطاب وتثمينه، ويعتبر أنَّ هذا المنجز التراكمي هو خميرة الوطن لمستقبل لايزال في ذمّة المجهول، وهو الذي أسهم في انبثاق ما يسميها – الثقافة اللبنانية – ويميّز الدكتور سنّو بين هذا الحراك وبين الحراك السياسي ومردوده الاجتماعي؛ فبالسياسة يختلف اللبنانيون ولكنهم يلتقون على رموز الثقافة التي تجمهعم في اطار الدولة؛ لكنها بنظره رموز لا تنتج اتفاقًا دائمًا، إذ ـنّهم يختلفون على هوية هذه الدولة لدرجة التضحية بالكيان، ويتقوقعون في مربّعات ذات تلاوين طائفية تظهر انقساماتهم وتضع العوائق أمام وحدتهم وتجانسم الوطني لعجزهم في صياغة تسوية تاريخية تدعم قواعد الدولة وترسي السلام الدائم بين أطيافهم المتنافرة والمتنازعة والتي تشكل مادة دسمة لكلِّ تدخل أجنبي.
في هذا التشخيص الدقيق والصائب، لا يخفي الكاتب ألمه وحسرته على ضعف ثقافة التعدّد في لبنان، ولكننا نلمس حرصه على تدعيم سرده التاريخي بالحديث عن الحراك الثقافي والفنّي في لبنان ليدعم فرضيته ويستقوي على النشوز السياسي بالفضائل الفنّية. لذلك، يفسح المجال في كتابه للخميرة الثقافية التي برأيه هي بلسم العلاج أمام التهافت السياسي.
وفي استعراضه الثقافي لمحطّات الفنّ التشكيلي في لبنان، لا يخرج الباحث عن خطّة بحثه وعناصر منهجيته المتبعة، وهو الحريص على استكمال الصورة الفنّية. لذلك يرسم المسار التاريخي للفنّ التشكيلي في لبنان بأيجاز كبير وانتقائية يفرضها مسار البحث من جهة واستئناسات الباحث بمرجعياته المدونة والحيّة. فهو لم يتطرّق إلى تقاليد التعبير الفنّي التي سادت في المدن الأقطاب قبل الحضور الغربي، وإنّما بدأ الحديث مع ولادة المؤثّر الحضاري الغربي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ولم ينوه بالنتاج اللبناني في أواخر الحقبة العثمانية والذي كان المشهد البحري من سماته. كما أنّه لم يتطرّق للرسم الكنسي بشقيه الارثوذوكسي والكاثوليكي الذي تعود مؤثّراته إلى مرحلة تأسيس المدرسة المارونية في الفاتيكان في أوائل القرن الخامس عشر. فالمدن الأقطاب سباقة في مؤثّراتها الفنية على نشؤ لبنان.
وقد عرج الباحث على فترة الانتداب وبداية الاستقلال حيث كان نصيب بيروت هو الأول بين مدن الأقطاب لديه؛ فهي نافذة لبنان التي أطل منها على العالم، وهي مختبر الشرق الاوسط الأكاديمي والثقافي وبالتالي الفنّي. ولابد من التنويه بأنَّ مدرسة الالبا تأسّست في ثلاثينات القرن الماضي، بينما تأسّس معهد الفنون في الجامعة اللبنانية العام 1964. كما أنَّ “جمعية الفنّانين اللبنانيين” التي تأسّست العام 1957 شكّلت الإطار النقابي الأول لرعاية الفنّ والفنّانين في لبنان. واذا كان مسار البحث يقتضي الإيجاز الشديد، فإنًّ بعضه قد أثّر في صورة فنّانين أفذاذ لم يمنحهم النصّ حقهم في التعريف؛ أمثال شفيق عبود أحد رواد المدرسة الباريسية ورائد الغنائية اللونية في الفنّ اللبناني، ورفيق شرف صاحب فكرة العودة إلى التراث عبر استلهام المرويات والأساطير .. عنترة بن شداد. وعادل الصغير مؤسّس الاتجاه الحروفي في لبنان بينما ذهبت مكرمات النصّ إلى توسيم آخرين مكانة أرفع من تجاربهم، وخصوصًا عند الحديث عن الجمعيات الراعية للفنون؛ حيث بدت جمعيات عريقة ذات إسهامات كبيرة متواضعة في شأنها أمام جمعيات ناشئة، كما حدث مع “الرابطة الثقافية” في طرابلس التي رعت تجارب “جماعة العشرة” حتى معرضها الأخير العام 1994، كما واكبت النشاط المسرحي والثقافي وأبلت البلاء الحسن في رعاية شؤون المدينة في أصعب اللحظات في الحرب وفترة الوصاية. كذلك الأمر في شأن قاعة المنتدى في بيروت. واذا كان قصر سرسق بهالته التاريخية لا يزال الحاضن الرئيس لمعرض الخريف منذ تحويل القصر إلى مؤسّسة ثقافية، فلابد من ذكر دور وزارتي التربية والثقافة في استحداث وتنظيم معرض الربيع السنوي في قاعة اليونيسكو الذي شكّل الوجه الاخر للفنّ اللبناني في إطاره الرسمي. ولا بد من الاشارة إلى غياب دور صالات العرض الخاصّة التي واكبت فترة المدّ الثقافي في ستينات القرن الماضي والتي تجاوز عددها الأحد عشر، وقد حملت عبء الترويج للفنّ اللبناني في لبنان والخارج. ولابد من التنويه بسلوك الحاكم المستنير كالرئيس كميل شمعون وزوجته السيدة زلفى والرئيس رفيق الحريري في دعم الفنّ والفنّانين؛ حيث بلغت ميزانية الفنّ التشكيلي المتداول في عهد الرئيس الحريري حدود ستين مليون دولار سنويّا العام 1997، نتيجة الأريحية التي اعتمدها هذا الرئيس؛ حيث كانت كلُّ هداياه للساسة والشخصيات خارج لبنان من نتاج الفنّانين اللبنانيين حصرًا، ممّا أسّس لسوق ناشطة من خلال رعايته الدائمة للمعارض في بيروت.
وفي معرض استعراض الباحث جرى التنويه بفنّ الكاريكاتير في الكتاب. وأود أنْ أضيف إنّه لابد من التنوية بتجربة الفنّان الطرابلسي حبيب حداد من باريس في الكاريكاتير السياسي على صفحات جريدة الحياة طيلة عقود أربعة الذي كُرّم مؤخرًا من قبل الحكومة الفرنسية، وبتجربة رائدة أخرى في الكاريكاتير السياسي من بيروت ولندن للفنّان الطرابلسي الراحل محمود كحيل، وقد أُسّست في الجامعة الاميركية في بيروت جائزة باسمه تمنح لأفضل رسم كاريكاتوري في الصحافة اللبنانية. واعترف بأنَّ الدكتور عبد الرؤوف قد أفاض عليّ وعلى زملائي في تجمع العشرة من محبته ما يستحق الشكر للتنويه بسيرة وتجارب الفنّانين العشرة في طرابلس، ولا أعتقد أنَّ التاريخ يجب أنْ يتوقف هنا؛ ولكنني أوجه نصيحة لطلابي من الفنّانيين من الجيل الجديد بالقول: اعملوا، تحدّوا انفسكم ومحيطكم، ولا تركنوا للسهولة والتكرار؛ اسلكوا طريق الابداع ففي الجهد تُصنع المعجزات.
لقد حقق الباحث في كتابه كلَّ الاهداف التي رسمها في خارطة الطريق وأعترف أنّه أخذنا في سفر رومنسي على صفحاته الأنيقة في اخراجها وصورها في رحلة جميلة عبر تاريخ المدن الأقطاب بمساراتها التاريخية بأنشطتها وأحداثها وناسها وتراثها يستقرئ الحجر ونبض الذاكرة ويعيد إلى الأذهان بعضًا من مرويات وخصائص ما تعارف على تسميته بالزمن الجميل.
قد يشعر المرء بأنَّ نزهته التاريخية مع العميد سنّو هي إحدى سمات الوجد الحضاري لتجربة مؤلِّف قطب رصين، دقيق في خياراته متشعّب الأهداف، ولكنه في الواقع يجمع المعرفة مع المتعة بأسلوب سلس بسيط واضح غير متكلّف جمع فيه المؤلِّف خلاصة تجربته الطويلة في عالم الكتابة والتأريخ.
د. جان توما
سأتناوَلُ في مداخلتي “الحياةَ الثقافيّةَ في مدينةِ طرابلسَ”، كما وردَتْ في الكتابِ، في زمنٍ حزين ٍتتوقّفُ فيه الصفحاتُ الثقافيّةُ عن الصدور . إنَّهُ زمنٌ ثقيلٌ كما يقولُ عبدالله ثابت في كتابه” وجه الحجر”: إذا ماتَ شاعرٌ في مكانٍ ما من هذا الوجود، ماتَتْ في مكانٍ آخرَ شجرةٌ وَتَسَاقَطَتْ أوراقُها قُبيلَ الفجر.إذا ماتَ شاعرُ انْطَفَأَتْ نجمةٌ، وتخاصَمَ حبيبان، وَضَاعَ خَاتَمٌ، وأَصْبَحَتِ الدُّنيا أقل..إذا ماتَ شاعرٌ أُوصِدَتْ نافذةٌ، وَبَكَتْ خَلْفَهَا الفتاةُ والسقفُ والوِسَادةُ، وإذا مَاتَ شاعرٌ تَنْسَى القهوةُ المواعيدَ، ويَعْتَذِرُ الطَّلُ مِنَ الزَّهْرَة، ولا يَلْتَفِتُ الصُّبحِ إلى وجهِ الحمامة، والحمامةُ لا تقفُ على طرفِ السُّور، ويمرُّ الغروبُ متثاقلًا، مُقَطِّبًا حاجبَيه.”
لن يستقيمَ هذا الوطنُ إلّا حين يتسابقُ المسؤولون على تولّي وزارةِ الثقافةِ المتروكةِ حصّةَ ترضيةِ لمن لا وزارة له. من هنا أخشى في ما أعرضُهُ من كتاب “سنّو” أن تشتهوُا الأمسَ الذي عبر، ولو خَلَصَ “سنّو” بحقٍّ إلى أنَّ “بيروتَ ، العاصمةَ القُطبَ، حافظَتْ، طَوالَ تاريخِ لبنانَ الحديثِ والمعاصرِ، على مركزيتِها الخدماتيّةِ والثقافيةِ، على الرَّغْمِ مما مرَّ عليها من ويلاتِ حربِ لبنانَ، فيما تمكَّنَت المدن الأقطابُ الأخرى، كٌلٌّ على حدة، من بناءِ شخصيتِها الثقافيّةِ المحلّيَة”.( الغلاف الخلفي).
من هنا أشارَ المؤلفُ إلى المفاصلِ التاريخيةِ التي مرّت بها طرابلسُ من إحراقِ الفرنجةِ مكتبةَ بني عمار الشّهيرة العام 1109م.(ص167)، إلى تأسيسِ الرُّهبانِ الكرمليينَ مركزًا لهم في طرابلسَ في النصفِ الثاني من القرنِ الثاني عَشَرَ (ص168)، ودخولِ الرهبانِ الفرنسيسكانِ نهايةَ القرنِ السادسَ عَشَرَ (ص210)، وكذلك الكبوشيونَ مَطْلَعَ القرنِ السابعَ عَشَرَ (ص210) وتَبِعَهُم اليسوعيونَ العام1650(ص210)، وراهبات المحبة العام 1963(ص210).
هذا الحضور أدّى إلى التنافس في إطلاقِ المدارسِ ومنها: المدرسة الوطنية العام 1880 للشيخ حسين الجسر(ص210)، والفرير العام 1885 (ص210)، العائلة المقدّسة العام 1886، مدرسة القدّيس بولس في الميناء العام 1890( رغمَ أنَّ المصادر المتوافرة لم تذكر هذه المدرسة)، ومدرسة القديس يوسف المجانيّة العام 1893 (ص211). وفي هذه المنافسةِ أسسَ الأميركانُ البروتستانت مدرسىةً للبناتِ وأخرى للصبيانِ في الرُّبعِ الأخيرِ من القرنِ التاسعَ عَشَرَ.(ص210) لتؤسسَ الجمعية ُالإمبراطوريةُ الأرثوذكسيةُ الفلسطينيةُ” أربعَ مدارسَ في المدينةِ والميناء.(ص210) ما يجعَلُكَ تتساءَلُ إذا كنتَ تتجوَّلُ في طرابلسَ أو في ممرّاتِ مبنى الأممِ المتحدّةِ، قبل قيامِهِ، إذ كان المتعلّمونَ الطرابلسيّون “يترغلونَ” باللغات الفرنسيّة والانكليزيّة والإيطاليّة والفرنسيّة. (ص210).
هذا ويشيرُ المؤلّفُ إلى تحوّلِ طرابلسَ مع الميناء إلى مركزٍ تربويٍّ ففيها:(109) مئةٌ وتسعُ مدارسَ رسميّةٍ، و(72) واثنتنان وسبعونَ مدرسةً خاصةً (ص212). غريبٌ كيفَ ما زالَتِ الأمّيَةُ مستمرةً والتسرُّبُ المدرسي مستفحلاً أمامَ هذا العددِ الكبيرِ للمعاهدِ التعليميةِ؟ هذا ويعدّدُ المؤلفُ أهمّ المدارسِ الرسميةِ: العام 1867 مدرسة رشدية عثمانية، العام 1892 مدرسة إعدادية في التل،العام 1897 مدرسة رشدية للإناث، والعام 1908 المدرسة التهذيبية يذكرها المؤلفُ في طرابلس وهي في الميناء.(ص210). أكّدَ الكاتبُ بعلميّةِ الباحثِ التمييز بين الإرسالياتِ : الفرير، العازارية، الكرملية، اليسيوعية، الانجيلية، وبين المدارس الوطنية للأرثوذكس. (ص 212).
ولاستكمال صورةِ الحياة الثقافية تناولَ المؤلِّفُ أيضًا مسألةَ الطباعةِ والمكتباتِ والمؤلَفاتِ والترجمةِ، فأشارَ إلى انطلاق حركةِ إنشاءِ المطابعِ: العام 1893 مطبعة البلاغة، مطبعة الحضارة العام 1908 وإلى أوّلِ جريدة طرابلسيّة:”طرابلس” مع البحيري العام 1893(ص217)، وسجّلَ أسماءَ عائلات اشتغلتْ في التاريخ كآل يني وآل نوفل وآل تدمري (ص213 ). ولم ينسَ الشَّعرَ فتوسَّعَ في قصائدِ شاعرِ الفيحاءِ سابا زريق شهادةً لمدينةٍ مثقّفة تترجمُ نشاطَها الثقافي في جمعياتٍ عدّة منها:العام 1869 جمعية شمس البِرِّ، والعام 1894 جمعية النادي الأدبي، والعام 1943الرابطة الثقافية، والعام 1970 المجلس الثقافي للبنان الشمالي، والعام 1988 صالون فضيلة فتّال الأدبي، وذكَرَ نادي الجامعيين ومنتدى طرابلس الشعري، وصولاً إلى 2007 مركز الصفدي (ص219) وجمعية بوزار 2004 (ص 222)، ومؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية 2013 ( لدعمِ اللغةِ العربيةِ) (ص 221)، المدعوّةُ اليومَ بعدما خالفتِ التنظيمَ المُدني الثقافي، فبَنَت أيكًا من قرميدٍ لسنونواتٍ الثقافةِ يستظلّونَ في شقوقِها من عواصفِ إغلاقِ الصفحاتِ الثقافيّةِ إلى أن تتيحَ للمثقفينَ بناءَ أعشاشٍ مقروءةٍ في ملحقٍ ثقافيٍّ، يصدُرُ عنِ المؤسسة، من طرابلسَ إلى مدى الوطنِ.
كما أشارَ المؤلّفُ إلى الحركة السينمائيةِ والمسرحيّةِ دارسًا ومقمّشًا وباحثًا في أنواعِ الأدوارِ المسرحيّةِ معدّدًا التجاربَ المسرحيةَ والفرقَ والممثلين الذين أظهروا هذا الفنّ في طرابلسَ والميناء منذ جرجس ديبو وابنُهُ ميخائيل ديبو العام 1842 في فِنَاءِ مدرسةِ مار إلياس في الميناء مرورًا برائد المسرح الطرابلسي عبدالله الحسيني (ص226) وصولا إلى رفيق الرفاعي وفائق حميصي (ص227)، مع غيابِ ذكرِهِ للتجربةِ المسرحيةِ الرائدةِ الشّابةِ التي أطلقها المخرجُ المسرحيُّ جان رطل في فرقته “محترف الميناء للمسرح” العام 1979 على مسرحِ حركةِ الشبيبةِ الأرثوذكسيةِ والرابطةِ الثقافيةِ عبرَ “المحترف المسرحي”، والغريبُ أنّ المؤلّفَ يشكُرُ في مقدمةِ كتابِهِ المخرج جان رطل لمساعدتِهِ في تأمين المعلوماتِ عن صورةِ المسرحِ الطرابلسيِّ.كما غابَ بابُ الموسيقى في بابِ الحياةِ الثقافيةِ فماذا عن آل القطريب وآل بندلي وغيرهم؟ وماذا عن كورال الفيحاء؟ وماذا عن أكاديميّة” إقبال” التي أسسها عبدُ الحقّ المصري ومن طلابِهِ الطرابلسيين العالميين هتاف خوري وعمر حرفوش؟ في حين حضرَتِ الفنونُ التشكيليّة بقوّة.
من الواضحِ أنَّ المؤلفِ اشتغلَ على الأرشفةِ المتوافرةِ في بطون المصادر والمراجع وفي تحقيقاتٍ ميدانيةٍ لتظهيرِ صورةِ طرابلسَ الحضاريةِ والتاريخيةِ. هذا كتابٌ تناولَ تاريخَ مدنِ الأقطابِ في لبنان، وحاولَ أن يقدّمَ ملخَصًا معمَّقًا وشاملاً لنتائجِ معظمِ الكتبِ والمقالات والدراساتِ والتقاريرِ المتوافرةِ الّتي تناولَتْ تاريخَ المدنِ الأقطابِ وتطوّرَها، مجتمعًا وسياسةً واقتصادًا وثقافة، ويطرحُهُ بمنهجيَّةٍ جديدةٍ، تقومُ على الرّبطِ بين النّصّ ومرآةِ الوطنِ ومرآةِ المجتمعِ اللبناني وثقافاتِهِ، ولعَلاقاتِها الوطيدةِ بباقي المدن الأقطابِ، خاصةً من بابِ الثقافةِ التي نالتْ حيِّزًا مُهمًّا من المعالجةِ.
شكرًا لمؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافيّة الّتي أطلَقَتْ نشرًا على مستوى راقٍ وباتت من أوائلِ دورٍ النشرِ، وها نحن أهلَ القلمِ نأتي كرفوف النّورسِ نمدُّ أجنحتَنا فوقَ بحرِ رئيسِ المؤسسةِ الصديق سابا زريق راعي أهلِ الحرفِ لننشرَ، فتأتي كتُبُنا، عندَ صدروِهَا، هدايا له لإيمانِه بأنَّ حركتَهُ ، لا تطلبُ جزاءً ولا شُكُورًا، بل هي لخدمةِ الفيحاءِ التي تعني لهُ الكثيرَ، وشكرًا للمؤلفِ الدكتور عبد الرؤوف سنّو على هذه الإضاءَةِ التي تأتي في وقتٍ ما زالتْ طرابلسُ تتعرَّضُ لتشويهِ الصورةِ الحضاريةِ التاريخية المشرقةِ التي لازمتْهَا وجَبَلتْها وتلألأت ،اليومَ، بقلمك بين يديك.
د. عبد الرؤوف سنّو
مصادفة كريمة قادتني خلالَ شهرِ نيسان المنصرم، إلى التعرّف إلى الصديقِ العزيز الدكتور سابا زريق بمساعٍ مشكورة من الصديقين الدكتورة زهيدة درويش جبّور والدكتور جان جبّور. يومها، كنت أبحث عن جهة تقوم بتمويل طباعة كتابي، المدن الأقطاب. أوَّلُ الغيثِ جاء بلسان الصديق جان حرفيًا. قال: “لا تقلق، سوف تُحبّ هذا الرجل”. وهكذا كان؛ وهذا ما تمخَّضت عنه جلستي الأولى مع الدكتور زريق في مكتبه في بيروت. أبهرني هذا الإنسان بلطف مَعشره وبالابتسامةِ التي لا تفارق وجهه، مثلما بعروبته الصافية وبشغفه باللغة العربية وآدابِها. بحماسة لافتة حدثني على مدى ساعتين عن مؤسّسته الثقافية، وعن جده الشاعر سابا زريق وما تركَه من نتاجٍ جعَله بجدارة شاعرَ الفيحاء. وخلال تلك الجلسةِ الميمونةِ أنشد بفخر قصائد من نظم جده. وقد انتهت المقابلة بموافقته الشفويةِ على تبني طباعة الكتاب ونشرِهِ، وذلك من دون مِنّة تُذكر، وهو ما زادني حيرة. كانت كلمة الدكتور زريق أصدق من العقود والتواقيع. فشعرت أنَّ المثقف يحظى بالاحترام في مدينة العلمِ والعلماء. فكان أقل عرفانٍ ووفاءٍ لمكرمتِهِ أنْ أهدي إليه كتابي.
في نهاية تلك الجلسة السعيدة، حمّلني الدكتور سابا ما أمكنني حمله من كتب ومؤلفات صدرت عن مؤسّسته، ما جعلني أضيف صفحات على القسمِ الخاصِ بطرابلس تفي شاعرَ الفيحاء حقَّه المعنوي، وهذا أضعف الإيمان، ذلك أنني كنت أجهل الكثيرَ عن مكانته الشعرية والأدبية والاجتماعية، لدى أهلِ بلده وفي موطنه.
إذا كان إخراج الكتاب، نصًا وصورًا ولقطاتٍ ونوافذ، قد تمّ بحِرَفية فنيّة راقيةٍ على يد السيدة الفاضلة ياسمين كيروز معوّض التي يُسعدنا وجودها معنا مع زوجها، وانتهت طباعة الكتاب، كذلك، إلى تلك النهايةِ السعيدة في مطابع السيد فواز سنكري: “دار البلاد للطباعة والإعلام في الشمال”، فإنَّ البحث نفسه ما كان بإمكانه أنْ يحقّق غاياته المنشودة لولا الدعمِ غير المحدود، من قبل نُخبة من الزملاء والأصدقاء والمختصّين في طرابلس الفيحاء الذين أثقلت عليهم بأسئلتي واستفساراتي المتتالية. وأقول لكم أيها الأحبة: إنَّ المؤلَّف أتاح لي عقد صداقات طرابلسية جديدة قائمة على المحبّة والمودّة والتعاون. ولا أخفي عليكم أنَّ الأصدقاء الذين مدّوا إلي يد العون والمساعدة سعى كل واحد منهم بشغفٍ وتفانٍ إلى تقديم ما لديه من معلومات تُظهِر وجه مدينته التاريخي والحقيقي، القائم على الثقافة والعلم والمحبّة والتآلف بين عائلاتها، وليقول إنَّ لديها من المقومات ما يجعلها بحقٍّ عاصمة اقتصادية للبنان، وإنْ تأخر ذلك لظروف سياسية.
في مجالِ التأريخِ لطرابلس، كان الصديق العزيز المستشار الدكتور نادر الغزال أول من اطلع على الفصل المخصّص لمدينته، وكان لايزال جينيًا. وقد أمدني بمعلومات وافرة عن اقتصاد مدينته ومعرضها الدولي. وواكب البحث والتأليف، منذ بدايتِه إلى نهايتهِ، صديقي الدكتور قاسم الصمد الذي أتعبته عن حقّ. وفي مجال الكتابة عن “جمعية بوزار” آزرني رئيسها الصديق الودود الدكتور طلال خوجة، ولولاه ما كنت تطرّقت إلى الفنّان الإيمائي فائق حميصي، ولا تعرّفت إلى الأستاذ جان رطل الذي أمدني بمعلومات عن المسرح في مدينته. فكان يتصل يوميًا للسؤال عن تقدّمِ البحث. وقام سعادة السفير الدكتور خالد زيادة مشكورًا بمدِّ يدِ العونِ لي في بعض الأمور التقنيّة والعلمية. وقد تكفلَ الصديق الدكتور عدنان خوجة بتزويدي بمعلومات وافية عنه وعن حركة الفنّ التشكيلي في مدينته، وقام مشكورًا بقراءة القسم المتعلّق بمجموعة الفنّانين العشرة المعروفة. كذلك تابع الفنانان التشكيليان الدكتور فضل زيادة والدكتور محمد عزيزة مشكورين مراحل البحثِ والتأليفِ عن مسارِهِما الفنّي. فلهما، ولكلِّ من ذكرت، جزيل الشكر.
كما يسعدني أن أرحّب بصديقيّ الدكتور نادر سراج وعقيلته الأستاذة هدى على حضورهما هذه الندوة، كما بصديقي الدكتور هيثم قطب وابنتي سمر. أما زوجتي هدى، فلها حبّي اللامتناهي وما تبقى من عمري؛ فهي التي وفرت لي أجواء المحبّة والاستقرار العاطفي وواكبت مسيرتي الأكاديمية والبحثية طوال خمسة عقود؛ وقد أتعبتها بتجميع الصور واللقطات الضرورية للكتاب..
مرةًّ أخرى، أشكركم فردًا فردًا على تشريفكم هذا اللقاء الثقافي. وأخصّ بالشكر كذلك مؤسّسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية والقيمين عليها على دعم الثقافة والعلم، وأتمنّى لهم المزيد من الازدهار. ولا يفوتني أنْ أحييّ طرابلسَ الفيحاء وأهلَها الكرام الذين أحاطوني بودهم، وأغدقوا عليَّ من علمهِم ومعارفِهِم ودماثة خلقِهِم. فأشعروني وأنا البيروتي المنبت أنني في دياري، في رحابِ مدينة العلم والعلماء.