في الفندق الغافي تحت جراح التاريخ
نكاد نسمع وشوشات العشاق وآهات انتشاء السهارى بموسيقى ليالي الصيف.
نكاد تتناهى إلينا همسات الفنانين وأحاديث أصحاب الأعمال وصفقات السياسيين.
نكاد نرى ظلالهم يدخلون ويخرجون، يصعدون وينزلون.
نكاد نتنشّق عطور السيدات الأنيقات، وتلفحنا نسمات يُحدثها مرورُهنّ الرشيق.
نكاد نختنق من دخان السجائر في جلسات السمر ودوائر السهر.
نكاد نستعيد رنين الهاتف يشوِّش على معزوفة البيانو.
نكاد ننسجم مع الطرب فنصفق مع السامعين.
نكاد تلفحنا شمس ذلك الجبل.
نكاد يبهرنا القمر النابض نوراً في دكنة السماء.
نكاد نسير وراء الشحرورة صباح، أو نؤخذ بسحر عمر الشريف، أو نقترب من أسمهان وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم، أو ننتشي بتمايل سامية جمال، وكلهم وغيرهم مشاهير كُثر مكثوا هنا في ما مضى.
وفي المحطة المجاورة للفندق، نكاد ننتظر عند رصيف السكة الحديد إطلالة القطار وهو “يصوفر” ويمنح “صوفرته” إسماً لبلدة “صوفر”.
نكاد، ونكاد، ونكاد…
تتأرجح بنا الخطوات بين الحاضر والتاريخ ويمتلئ الرأس بالأصداء وتضيع في العيون الظلال، فلا نستطيع التمييز بين ما إذا كنا نشهد على زيارة الحاضر للماضي أو رحلة الماضي إلى الحاضر.
هذا ما أوحى لي به فندق صوفر الكبير، الذي فتَحَ أبوابه للزوار في 15 أيلول الماضي، دون انتظارٍ لتضميد جراحه. هذا الفندق لم يحمِه قفلُ الباب من التدمير والتشويه والنهب إبان الحرب العبثية الطاحنة التي مزقت لبنان، وأدى به الإهمال، بالتواطؤ مع عناصر الطبيعة، إلى التلف والتآكل.
المناسبة: معرض لوحات زيتية للفنان البريطاني توم يونغ Tom Young، تُسجِّل مشاهد من الحياة التي ضج بها الفندق أيام العز، يوم كان واحدًا من أشهر فنادق الشرق الأوسط، وقبلة الاصطياف ونقطة التقاء الملوك والرؤساء ونُخب الطبقة الميسورة ومشاهير الفن والسياسة والدبلوماسية.
جلس يونغ في بهو الفندق الوسيع، تُغدِق عليه النوافذُ المخلّعة نورَ الشرق، وتحيط به جدران الصمت وقد عَلِقت بها أصداء التاريخ منذ 1892، سنة بناء الفندق، وحتى 1975، سنة إقفاله.
رسم يونغ ولوّن لوحات تعيد إلى الحياة محطاتٍ من حياة الفندق (مُسْتلهمًا صورًا فوتوغرافية). لكن اللوحات ليست نسخة مكررة للصور الفوتوغرافية، إذ أسبغت ريشةُ يونغ طابعَ الذاكرة الحائرة وانطباع العين الباحثة، وهي وإن مسحت عن الصور غبار الزمن وتأثير العناصر، فقد غلفت المشهد بضبابية الأصداء وغموض الحكايات.
وبين اللوحات الجديدة وآثار الزمن الغابر:
هنا كومةُ ما تبقى من هواتف خمسينيات القرن العشرين.
وهنا الهيكل الخشبي المتبقي من البيانو.
وهنا المطبخ وخزاناته التي لا تزال متماسكة.
وهنا حنفية لا تزال تنطق لغة المياه.
وهنا ثلاجة تلك المرحلة وماركتها Prestcold.
وهنا طاولة اللعب والروليت اللتان كان ينكبّ عليهما المقامرون مُتخلّين عن حظٍ معلوم بحثاً عن حظٍ مجهول في كازينو الفندق، الذي كان آنذاك أول كازينو في الشرق الأوسط.
وهنا الباحة الخارجية التي جلس في فيء أرزتها الشامخة فيلسوف الفريكة أمين الريحاني، الذي أمضى فترة في الفندق في إطار جولته على كل الوطن لكتابة مؤلَّفه “قلب لبنان” في الأربعينيات من القرن العشرين.
وهنا المكان الذي استضاف اللقاءات الأولى التي أسّست الكيان اللبناني.
وهنا القاعة التي اجتمع فيها أعضاء اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية في أيلول 1947. ويُحكى أنهم كانوا يناقشون فكرة تكوين جيش عربي لمهاجمة المواقع الصهيونية في فلسطين ومنع إنشاء دولة إسرائيل. ولكنهم لم يفلحوا في شيء من هذا القبيل، فبعد أقل من سنة، في عام 1948، كان قد أُعلن عن قيام ذلك الكيان، بينما كانت الدول العربية تتلهّى بمهاجمة بعضها بعض.
كل هذا المكان لا تزال تحمله جدران تَقشَّر جلدُها صانعاً أشكالاً فنية تجريدية توحي بألف حكاية وحكاية.
تكليف الفنان يونغ من قبل ورثة الفندق (آل سرسق وCochrane) برسم هذه اللوحات وإقامة المعرض، هو من المبادرات الجميلة المنعشة التي، حتى الآن، برهن الأفراد فقط أنهم قادرون على إطلاقها، في ظل دولة متآكلة عاجزة متلكّئة ينخرها الفساد من كل جانب.
فندق صوفر الكبير لا تقتصر قيمته على كونه معلماً بارزاً من المعالم السياحية في لبنان، بل هو أثر عمراني وذاكرة اجتماعية وسياسية وفنية وطنية. ولعل مالكيه لا يتخلون عنه فريسة لحيتان المال ومشاريعهم الاستثمارية التجارية التشويهية. لعلهم يحوّلونه إلى دينامية تراثية وفنية وثقافية.
يسكن التاريخ في فندق صوفر صاحياً، عنيداً، متشبثاً بكل أثرٍ باقٍ، منتظراً أن يرمَّم الهيكل وتعود إليه الحياة. عندئذ، قد يسلِّم التاريخ نفسه إلى المستقبل ويستكين.
(14 تشرين الأول 2018)