لا تزال الثورة التكنولوجية في ميدان الاتصالات، موضع بحث وتشريح لمضمونها وللنتائج التي تتركها في جميع ميادين الحياة. كل شيء بات مربوطا بالرقمية، من الصناعة إلى التجارة إلى الخدمات إلى طرائق الإنتاج المتنوعة، وصولاً إلى المعرفة والثقافة. ما تتصف به الثورة الرقمية من تحويل العالم إلى قرية صغيرة هو واقع بكل معنى الكلمة. من الكتابات التي تغوص في هذا الميدان كتاب «الثورة الرقمية، ثورة ثقافية؟» تأليف ريمي ريفيل، وترجمة سعيد بلمبخوت. صدر الكتاب عن سلسلة «عالم المعرفة».
أسئلة كثيرة يطرحها المؤلف تشكل هواجس في بحثه من قبيل : ما تأثير التكنولوجيات الحديثة في تصرفاتنا الشخصية والجماعية، ما الذي يغيره عند الولوج إلى المعرفة والمعلومات، وهل يؤدي الرقمي إلى تشجيع أشكال جديدة من الإبداع، وهل يشكل مصدراً حقيقياً للتجديد الثقافي. تلك أسئلة يراها الباحث مؤرقة، لا يمكن حتى الآن إعطاء أجوبة حاسمة في شأنها، وإن كانت المقاربات باتت أساسية توحي بأجوبة مقنعة.
تعتبر المجتمعات الحديثة اليوم في حالة خضوع لازدواجية المعايير. من جهة، هناك إعادة هيكلة شاملة وعميقة للرأسمالية، وهناك ازدهار لما يسمى المجتمع المعلوماتي من جهة أخرى. هذا يعني أننا بتنا في عالم أصبح فيه الإبداع والمعالجة وانتقال المعلومة تشكل المصادر الرئيسية للسلطة والإنتاجية. وسط هذا السياق، فإن تكنولوجيا الإعلام والتواصل، وبطريقة استعمالها في الشبكة، وبمرونة تكيفها وإعادة تنظيمها، تساهم في إبراز نمط جديد للحياة في المجتمع. وإذا نظرنا إلى تأثير التكنولوجيا الرقمية في الأفراد وفي المجتمع المعاصر، نرى أن التكنولوجيا والمجتمع وحدتان غير مستقلتين، فهما في حالة تفاعل مستمر، ودائماً في حالة تشابك بحيث يغني كل واحد الآخر.
وفي التدقيق أكثر في هذا العالم الرقمي، نرى أنه نتاج للعلاقات التقنية بين الأفراد والمجتمع، وهو عنصر في التفاعل الذي يحدث بين تكنولوجيات الإعلام والتواصل الجديدة ومستخدميها. بفضل الإنترنت، أصبحنا أكثر ارتباطاً في شكل متزايد بالمواقع والشبكات الاجتماعية التي يجري عبرها تبادل الآراء والتعليقات والملفات… من بين تلك التغييرات الكبيرة في الميدان، نجد عرض المنتجات الثقافية، من كتب وأفلام وموسيقى وغيرها، والتي أصبحت رهن إشارتنا بمجرد الضغط على الزر. هكذا يتجلى الرقمي، إضافة إلى كونه مصدر تقديم المنتجات الثقافية بسرعة هائلة، فهو أيضاً يعمل كسوق في عالم التبادل.
في الميدان الاجتماعي، تلعب الشبكات الاجتماعية خصوصاً الإنترنت دوراً غير مسبوق في الحياة الإنسانية. تؤمن روابط للصداقة والتفاعل، وتفتح آفاقاً للتواصل بين البشر، وتجعل أجيالاً من الشباب تعيش في عالم افتراضي. لكن هذه الشبكات، على رغم أهمية دورها التواصلي، خلقت قطيعة في ميدان العلاقات الاجتماعية قياساً بما كانت عليه، فمقابل الانتشار الواسع لما تقدمه، هناك انعزال اجتماعي يترافق مع انتشار هذه الشبكات واستخدامها. كما أن التكنولوجيات الحديثة ساهمت في إحداث تغيير كبير في شكل الطرائق التي يتم التحدث بها عن الذات عبر الإنترنت. يقول الكاتب :»لقد أدت تلك النزعة الفردية المعاصرة التي تقيّم اكتمال الذات، بالأفراد (بالخصوص تلامذة مدارس المرحلتين المتوسطة والثانوية وطلاب الجامعات) إلى أن يحمّلوا على الويب هويات متعددة، ويطلقوا العنان لانطلاقة حقيقية للجوانب المختلفة من شخصايتهم».
إذا كانت الشبكات توفر فرصاً غير مسبوقة في المعرفة، فإن مجالات الحرية والإبداع مفتوحة للجميع. في الواقع فإن الكثير من المتصفحين هم مجرد مساعدين، فيما هناك طبقة قليلة هي التي تتشكل من منتجين حقيقيين يشكلون الأقلية. يعزز هذا الحكم العدد المتزايد للهواة. إن مشاركة الهواة في الإنتاج الثقافي يؤكد ضعف هذه الإنتاجية، خصوصاً من جيل الشباب. يعيد بعض الباحثين هذه الهوة بين حجم استخدام الإنترنت ومحدودية المحصلة الثقافية منه إلى الحركة العامة للفردانية المعاصرة التي تقوم على ازدهار الإشباع الشخصي، والهم الذاتي.
إذا كان الرقمي قد وسع أشكال التبادل مع الآخرين، وساهم في أشكال جدية من الإبداع، إلا أنه خلخل طرائق الكتابة والقراءة. أثر في أساس الثقافة المكتوبة التي هي ثقافتنا منذ آلاف السنين، بحيث فرض علينا إعادة النظر في طرائق معرفتنا وتفكيرنا. المختصون المهتمون بتاريخ الكتاب والقراءة يشيرون إلى التحولات الحالية في مجال الكتابة والقراءة تحت تأثير الرقمي.
لقد تغيرت الدعامات التي تؤثر بالضرورة في المعرفة وطرائق القراءة. فمع انتشار الحواسيب والهواتف الذكية والألواح الرقمية، وحتى الكتاب الإلكتروني، نلاحظ تدريجياً الانتقال نحو عالم آخر يتعلق بممارسة القراءة. فالقراءة أصبحت سريعة، لأن إيقاع الحياة العصرية يدفع دائماً إلى القراءة المتسرعة، وتدبير متسرع أمام زخم من المعلومات الأكثر أهمية. من ناحية ثانية، فإن قدرتنا على الانتباه تتغير أيضاً، فالانتباه العميق المقترن عادة بالعلوم الإنسانية الكلاسيكية، يتميز بالتركيز على شيء واحد، ويبدو أنه يتقلص بالقراءة على الشاشة.
سؤال يطرحه التطور الرقمي ويتصل بمستقبل الكتاب والقراءة. فالقراءة على الشاشة ستستمر في التطور مع استبدال تدريجي للقراءة المطبوعة. يبدو أن جيل الشباب أظهر باكراً الطريق في هذا الميدان بالنظر إلى علاقته السلبية والمفككة مع الكتاب. هكذا لم يعد في الإمكان اختزال القراءة بالكتاب المطبوع. فممارسات القراءة ستصبح متعددة ومبعثرة، وستبتعد في شكل متزايد عن الطريقة الشرعية للمدرسة التقليدية.
من الميادين الأساسية التي تركت الإنترنت تأثيرها فيها ميدان الإعلام، خصوصاً مع ظهور فاعلين جدد في بلورة المعلومة الإخبارية وانتشارها. لقد خلخلت الإنترنت الممارسة المهنية للصحافيين أنفسهم، وغيرت جزئياً الطريقة التي يجري بها إخبار الجمهور، فكانت سبباً في إعادة توزيع الأدوار بين المنتجين والمستهلكين لمواد الصحافة الورقية والإلكترونية، في تغيير تدريجي لطرائق اعتماد المعلومات وممارسات القراءة.
تلك بعض الميادين التي ترك الرقمي أثره فيها، وهي قليل من كثير في مجالات السياسة والإنتاج بمختلف أشكاله. يبقى السؤال الذي طرحه الكاتب عن مدى كون الثورة الرقمية تشكل ثورة ثقافية، فالجواب ليس مطلقاً إيجاباً ولا مطلقاً سلباً. نعم يشكل الرقمي أحد ميادين الثورة الثقافية بمعناها الحديث، كما يشكل أحد وسائل تدمير تقاليد ثقافية كانت سائدة. تنجح المجتمعات بمقدار ما تفيد من هذه الثورة الرقمية في دفع تطورها إلى الأمام، وهو تحد مطروح على جميع شعوب ا