مقدّمات النشرات الإخباريّة والأقلام المسمومة

الإعلام هو الذي یقود الرأي العام، في ظله أصبح العالم قریة صغیرة تنتقل فیها الأخبار في لمح البصر ویظهر ذلك في التفاعل الإیجابي إبان الكوارث الطبیعیة التي تنتاب بعض الدول، فیتعاضد المجتمع الدولي للمساعدة والتخفیف من حدتها.

یُصنف الإعلام بأنه عالمي وإقلیمي ومحلي، هذا في الكتب والمراجع، أما في لبنان فلم يعد بإمكاننا أن نصنف بعض التلفزيونات “بالمحطات المحلية” لخروجها عن القيم وميثاق الشرف الإعلامي وعن كل عُرف ومبدأ ولكونها باتت مصدراً لبث الفتن والسموم.

فما يتغنى به التائهون في جنون مقدمات نشرات الأخبار على شاشات بعض المحطات التلفزيونية لا يمت بصلة للصحافة الراقية المسؤولة والموضوعية.

في بلد المخاض المستحيل تُشكّـل مقدمات الأخبار مادة سياسية تستخدمها بعض القنوات لتوجه عبرها خطابها حول الأحداث المستجدة وآفاق التطورات المرتقبة. وهي غالباً ما تستخدم الإثارة والترويج السياسي الذي يحظره القانون، كما تخالف مبدأ موضوعية الأخبار وتشكّـل مادة إيحاءٍ سياسي وتوجيه استباقي للمتلقي بحيث تضعه المقدمة في مناخ تحضيري للتعامل بخلفيات مسبقة مع كل ما يلي المقدمة من أخبار وهذا بطبيعة الحال يناقض إحترام حق المشاهد في المعرفة النزيهة بالأحداث وبتكوين رأيه المستقل.

مقدمات فيها القليل من البلاغة والكثير من الحقد، مقدمات تسوّق للكراهية وتبث السموم في عقل المتلقي، مقدمات تزيد من سقوط هذه المحطات وبُلهاءِ إعلام التحريض السياسي والطائفي والمذهبي؛ هي بإختصار عملية رخيصة لإبتزاز عقول الناس من خلال غسيل مبرمج وممنهج للدماغ بهدف شد العصب السياسي.

وبعد، وعلى إِثْرِ امتصاص المتلقي هذا الكم الهائل من التحريض يصبح بحاجة ماسة لمزيد من الجرعات وبوتيرة متكررة وأسرع لري الظمأ السياسي والإجتماعي وبالتالي يتحول صاحب القلم الحاقد إلى بطل قومي يمد النفوس المضطربة بعقاقير تداوي هواجسهم وتضمد جراحهم، فهم في ميزان المحرض ضحايا السرقة والفساد والهدر والشهوة السلطوية والخونة والمتآمرين واللائحة تطول، وهي بحجم الوطن كلّه.

ما تَقدمَ لا يعني بتاتاً أن الصحافة العالمية لا تعمل على بث أفكارٍ معينة لشعوبها إنما يكون ذلك من خلال صياغة الخبر والسياسة التحريرية للمحطة والأسلوب أو الطریقة التي تقدم به المضمون الإعلامي، وتكون في الغالب غیر مكتوبة، بل مفهومة ضمناً من جانب أفراد الجهاز التحریري وتظهر في سلوكهم وممارستهم للعمل الیومي، وهي تخضع لقدر من المرونة تختلف درجتها من مؤسسة لأخرى، وتكون عملیة صنع السیاسة التحریریة مسؤولیة كبيرة.

ولأننا من دول العالم الثالث ولأننا بلد مفكك ينخره الحقد والفساد والطائفية والزبائنية السياسية وليس قمعاً للحرية بل من باب المسؤولية ومراجعة الذات وتقييم الوضع، ولأن القيمة الإخبارية لها ثقلها في المجتمع فإن الخبر الذي يحتوي مادة تحريضية تستعمل لنكء الجراح داخل تركيبة هشة بإمكانه أن يقود إلى هدم الكيان وحروب أهلية ولهذا فإن صحافة هؤلاء الغارقين بين سطورهم المسمومة تعتبر مصدر تهديد كبير للأجيال القادمة ولتركيبة الوطن.

فهم من حيث لا يدرون يحفرون قبراً أزلياً للوطن ويدمرون الكيان والنفوس وبالتالي سنكون بحاجة لعقود وعقود لتنظيف أفكارنا وإعادة ترتيب أوراقنا وأولوياتنا الوطنية.

فلماذا لا تكون المؤسسة الإعلامية في لبنان مؤسسة مسؤولة وحرة وفاعلة تساهم في البناء من خلال الكشف عن الحقائق وتوفير منابر للرأي والرأي الآخر؟. لماذا لا تلعب السلطة الرابعة دورها الإستراتيجي والفعال في المجتمع؟

ربما آن الأوان لنظرة نقدية جادة وإعادة هيكلة المنظومة الإعلامية في لبنان كوننا أمام تحديات كبيرة وجسيمة وتتطلب صناعات إعلامية وثقافية قوية وفاعلة سواء على المستوى المحلي أو الدولي، إلى ذلك الحين حبذا لو تحترمون المشاهد وتتعاملون بصدق وتلتزمون بالدقة وبالعرض الموضوعي للوقائع دون تفسير الأحداث والإطار التاريخي والإجتماعي بشكل يخدم جهة سياسية معينة ويحرض على أخرى.

****

(*) موقع “أم تي في” – 13 سبتمبر 2018.

اترك رد