مُقاربة عذراء لأوبرا “عنتر وعبلة” للدكتور أنطوان معلوف

    

إنّ الوقائعَ في الزّمن يمكنُ ألاّ تخضعَ لقياس، ويمكنُ أن تولِّدَ نظرية كاملة قائمة على الرّموز والأساطير، من هنا اعتبرها البعضُ نقصاً لافتقارِها الى الصّفات الحسيّة من تَمَركُزٍ وموضوعية. لكنّها، في إثاراتها المُحدِثَةِ تغييراً في إمكانات الشّعور، تُشكِّل ديناميّةً في الضّغط الإدراكي، ما يستدعي ردّة فعلٍ باطنيّة تؤدّي، وفي الكثير من الأحيان، الى قناعةِ التحقُّق منها.

لطالما كانت صورة عنتر وعبلة مُلتصِقة بالذّاكرة ومُستَقِرَّة فيها، حتى ولو لم يكن لشكلها حدود واضحة، بمعنى أنّ ألوانَها ضبابيّة شبيهة بألوان الأحلام. وقد انتقلت عبر الزّمان بصيغة البَصَرية السَّمعيّة، تُستَحضَرُ في الخاطر باندماجٍ بينهما، أمّا إذا انفصلا فلا يبقى في معرفتها إلاّ الشكليّة الفارغة. واستناداً، قاربَ الدكتور أنطوان معلوف واقعة عنتر وعبلة، فقد مَسّتها يدُه بكفالةِ الخُبزِ الطَّاهر، فانقشعت البُقَعُ عن إِبصارِنا إيّاها، وبالتالي بَطُلَت عنها مقولةُ الأسطورةِ المَرصودةِ على لَعنةِ عدمِ التَّصديق، وكأنّها ميتٌ وإنْ لم يُقبَر.

لَكَم مُرَّ بقصَّة عنتر وعبلة من دون التَّفكير بغيرِ الرّواية، بمعنى سَلسَلَةِ الظّروف في كَنَفِ بعض المشهديّات، المَبتورة حيناً والمُختَلَقة أحياناً. لكنّ الجِدَّةَ مع الدكتور معلوف أنّه لم يحوِّل الروايةَ شهيدة، فلم يحشر ريشتَه في عدسةٍ جوفاء لتأتي اللَّقَطاتُ من دون نضارة، فهو وإن أَوجَزَ في مسالِكِ السَّرد، لكنّه كان الأَدرَبَ في نَسجِ حميميّاتِ العلاقةِ والسّلوك بين الشخصيَّات، ولا سيّما بين البَطَلَين، في إطارِ عِلمِ الطَّبائع وما فيه من دقّةٍ وسِعَة، خصوصاً في رسمِ معاناةِ ثورة النَّفسِ وقَسوةِ الزَّمان والإصطبارِ المتأجِّجِ الذي لم يكن إلاّ نتيجةً لِوَفرٍ في الإِباء وفي الحريّة، وكذلك في العِشق. لقد وضعَ الدكتور معلوفُ عنترَ على الخشبة صاحبَ عزّةٍ وتَسامٍ، مُنحازاً الى صيانتِهما، مَفطوراً على مَنعِهما عن مَواقع الأشراك، لكأنّه بذلك يوقظُ مواسِمَ الخِلال وكرامةِ الحقّ.   

عندما يمتزج الإنشادُ بالشِّعر في أوبرا عنتر وعبلة، تتجابهُ الأفكارُ وَلِوياتِ الأنغام، فتسعى الى أن يَحيا بعضُها ببعضِها الآخر، وتتجاذبَ ديناميّتُها فكأنّ صاحبَها يقذفُها في مجالٍ ليس مُمكِناً إلاّ له. وهو مجالُ الجَمال، حالةً قدسيّةً لا ينتهكُ حرماتِها إلاّ المُبدِع. من هنا، لم يفكَّ الدكتور معلوف مِئزَرَ قلمه إلاّ لتشييدِ عمارةِ ذلك الجَمال، فاسترسلَ الحِبرُ بما أمدَّتهُ به قريحةٌ متوقِّدَة، وبما غَنمَ من هُبوبِ ذَوقٍ سليم، ليَغدوَ فنُّ الكتابة الأوبرالية فنّاً يُؤلَفُ ويُستَطاب.

الدكتور انطوان معلوف تَصَرَّفَ بمشهدية عنتر وعبلة تَصَرُّفَ المالِكين، لذلك لم تأتِ تفصيلاتُها وقد أَنحَلَتها شدّةُ التَّمزيق فغابَ عنها الرَّونق. لكنّ استِعصامَ معلوف بالتَصَوُّنِ عن التَّنقيبِ الفَضفاض، وعِفَّتَه عن تقميشِ ما ذهبَ إليه غيرُه من فاضّي السَّرائر، أَمسَكا عن نتاجِه المَعايبَ والسَّقطات، هذه التي لا يُقعِدُ حيطانَها إلاّ التَّفاصيل.  

لقد سادَت في ” الليبريتو ” عذوبةُ مُعجَمِ معلوف، وهو المُنتمي الى نَبضِ اللغةِ الرَّقيقة، فبدون هذه الرقّة تَتَحوَّلُ اللغةُ الى ثُعبان. لقد زاوج معلوف بين الشِّعرِ والحوار الرّاقي، في أُصولٍ تتبعُ قواعد دقيقة ربّما تشكِّل معضلةً مُعطِّلَة لأكثر المشتغِلين بالكتابة. فقد قَولَبَ الكاتبُ عباراته في ملاحة البلاغة ورشاقة البيان، كما أخذ برقابِ القوافي ثاقِباً لؤلؤَ النَّظم. وقد وازنَ معلوف بين النَّثر والشِّعر، فما غزا واحدُهما الآخر ليوصى إليه، بالرَّغم من أنّ الموزون هو أكثرُ تَدَلُّلاً من المُرسَل في النّتاج الأدبي الذي يُستَخدَمُ في عملٍ موسيقيّ. وهذا، إن دَلَّ على شيء، فعلى قدرةِ الكاتِب، خِلافاً لِسوادِ المُنشِئين، على تَطويع النَّثرِ للتَّلحين، فسالَت على قلَمه موسيقى مَنثورة.

أمّا الخَرق الذي أتاه معلوف فيطال فعلَ المسرحة نفسَه، والمقصودُ هنا القَولَبَة الحديثة لنَمَطٍ كلاسيكيّ كاد أن يصبحَ رتيباً. لقد ساد، وعلى مدى أزمان المسرح الغنائي في العالم العربي، عدمُ المَساس بالأصول المُطَبَّقة في ما سُمِّيَ وحدات المكان والزمان والحركة، ما يجعلُ المُشاهِدَ يتابعُ تطوّرَ الأحداث وكأنّه يتوقّعها. أمّا الإدهاش الذي خرج من مخابئ أوبرا عنتر وعبلة، فكان في إيداع المُشاهِد في وضع الترقّب الحَذِر، بالرَّغم ممّا كان يعرفه عن قصة عنتر وعبلة من المُطالعات وغيرها. فعنتر معروفٌ بأنه فارسٌ من فرسان القتال والشِّعر، أَسوَدُ من سلالة حام ومن عِرقٍ حبشيّ، يقودُ سلوكَه الشجاعةُ وشَغَف الحبّ، مُنِعَ من كثيرِ الوِصال لكنّه لم يقنَع بقليلِ النَّوال. هذا ال “عنتر” الذي واجَهنا في أوبرا معلوف، هو المُطيحُ بصالِحِ الإبلاغ التاريخي، حرَّكَه معلوف لاستِماع الفائدةِ التي تكشفُ عن أسرار ذلك الصّراع بين الشكّ واليقين في مسائل العنصريّة والمساواة والحقّ في الحرية، ما يقدحُ شَرَرَ ما نَبَتَ في لحم الناس وعَصَبِهم من قهرٍ وحرقة، جعلَا أَعيُنَ عِنَبِهِم تَزرفُ فَقْدَ كَرْمِها.

إنّ شِعرَ الدكتور معلوف وحواراته، تشتهي أن يُصنَعَ فيها لَحن، فحوائجُها من وزنٍ وإيقاع لم تكن نَغَميّاتُها من الزّينة، لكنّها وقعَت في حبِّها وجعلتها تأنَسُ بهَدهدةٍ تطيرُ بها الى مدىً يحرِّرها من كلّ قَيد، وما ذلك إلاّ كنشوةِ الإصطباحِ بزغردةِ البلابل. وكذلك التَّرصيعُ الذي نشرَه معلوف في مقاطع الأوبرا نَثراً وشِعراً، رغبةً في وفرةِ الموسيقى التي تُبعِدُ الكلام عن البرودة، فكان كَمَن ينقشُ أثواباً بالخَزَفِ المُلَوَّن. أمّا الصّورةُ الأنيقة في الأوبرا، فقد اغتالَت بشاعةَ العذاب وقُبحَ القهر، واللَّذَين احتجزتهما خانةُ التاريخ فلا يُحتَمَلُ فيهما السِّجالُ أو التَّأويل. والعجيبُ أنّ الصّورةَ الشِّعرية المُبتكَرة هي التي كان اللَّحنُ يتعقَّبها لِأَسر الأَسماع والأَبصار، وليس العكس، وفي ذلك احتفالٌ نَوعيّ بالإتقان والجودة اللَّذَين لم يَنَل منزلتَهما مع معلوف إلاّ القليل.  

روايةُ عنتر وعبلة مع معلوف، لا ترغبُ إلاّ في أن تحيا. فهذا العمل، وإن عالجَ تَليداً، بابٌ جديد يُسايرُ الذَّوق الحديث، ربَّما ينبغي تنزيهُهُ عن الوصف اللاّحق بغيرِه ممّا يماثلُه في التَّسمية، بالرَّغم من مشاركته هذا الغَير في كَونِه عَرضاً في مُؤَلَّفٍ عربيّ اللغة. إنّ أوبرا عنتر وعبلة حِليةٌ فنيّةٌ راقِية مُتأَنِّقة في مُؤَدّاها، ظافِرةٌ بِغَرَضِها، رصينةٌ بألوانِها النّفسيّة، عابِقةٌ بقُدراتِ صاحِبها، كيف لا، والسّاري النَّجيب لا يَضلُّ مع النّجوم.    

اترك رد

%d