عصام، رفيق العمر، بحلوه ومره، بإقباله وإدباره، لا نزال في المقهى، ننكّس كرسيَه على فراغ الطاولة، حيث كان يوجد فنجان قهوته وكوب مائه. انه فراغ لا زلنا نداريه بشيء من عدم التصديق، وسيمر وقت طويل قبل ان نتعود على العيش في أماكن كثيرة من بيروت عابقة بذكرياتنا الطيبة معه.
كان عصام يأتي الى المقهى وكأنه قادم الى احتفال، انيقا” تام الاناقة ولم يحدث مرة خلال سنوات وسنوات، ان أهمل شيئا من مظهره. وكانت تتبعه على الدوام سحابة من العطر الجميل.
كان عصام يهندس مظهره بالطريقة التي يهندس بها قصيدته، ويخرج بعد ذلك لملاقاة الحياة في كل مكان تزدهر فيه. سواء كان هذا المكان مأدبة مع الأصدقاء حول طعام طيب، او امسيه شعرية، او ندوة أدبية او معرض فني.
كان محبا للحياة جذلا بها. وكان حريصا على قطاف الطيبات من حديقة كل يوم. وإذا كان قد قصفه الموت وهو في اوج حيويته هذه، فقد انقصف كغصن اخضر، لا كحطبة سبعينية جافة.
كان عصام يجمع بالإضافة الى اناقة المظهر، اناقة الشخصية، واناقة الروح، واناقة العاطفة، واناقة الكلام…. وبهذا، استطاع ان يجمع من حوله عددا كبيرا من المحبين والمعجبين والأصدقاء…. ولا اعرف أحدا مر بالمقهى وتعرف الى عصام الشاعر وعصام الانسان إلا وقع في حقل جاذبيته… وهكذا من يوم الى يوم ومن سنة الى سنة، لم تبق شخصية في بيروت مهتمة بالثقافة والادب والفن إلا وانتسبت الى المقهى الذي يحمل اسم عصام وعنوانه… وما أكثر الادباء العرب الذين اطبقت عليهم هذه المصيدة الجميلة!
كان عصام، كما قلت، يهندس مظهره بالطريقة التي يهندس بها قصيدته. وبالمقابل فقد كان يهندس قصيدته بالطريقة التي يهندس بها مظهره. فهنا أيضا كان انيقا باهر الاناقة، وكانت قصائده تتطلع والإيقاعات والمعاني التي تحلق عاليا فوق ما يمكن اعتباره عاديا. (الأشياء وفي احوالها المألوفة).
كان المفروض بقصيدة عصام العبد الله ان تختال في زي فولكلوري بلدي. لكنها مالت باستمرار نحو قمم الشعر العالية التي ألفناها لدى كبار شعراء اللغة الفصحى، وكبار شعراء اللغة المحكية. وبهذا المعنى فهي تنتسب الى ديوان الشعر الفصيح بمقدار ما تنتسب الى ديوان الشعر المحكي. وقد مكثت هذه القصائد تتقدم وتتعالى على نفسها حتى أدت بصاحبها الى ان يقفل الباب على ما انجزه ويتوقف… وهو راض ومكتف بالكتب الثلاثة التي أصدرها في سنوات متباعدة.
وإذا كان هناك من سلام للأرواح الطيبة في العالم الذي صار اليه عصام فانه يستحق وإياهم هذا السلام.
***
(*) ألقيت في تكريم الحركة الثقافية. بيروت في 29-1-2018.