إحياء لذكراه

نسيب عريضة: ثالث ثلاثة

  • طوبى لمن كانت يداه مكبلتين بالأصفاد وراء ظهره وقلمه مكسور ويصرّ على الكتابة.
  • طوبى لمن كان سيف الطغاة معلقاً فوق رأسه ويحتفظ برباطة جأشه.
  • طوبى لمن كان حبل المشنقة ملتفاً حول عنقه ولا يكف عن الهتاف والصريح.
  • طوبى لمن سملوا عينيه وما زال يصرّ على القراءة.
  • طوبى لمن يعيش في الظلمة وهو يشعر بأنه في النور.
  • طوبى لمن تشرّد هرباً من الظلم وهو دائم الحنين إلى جلاّديه.
  • طوبى لمن يحمل نعشه فوق ظهره وهو يحلم بأنه ينعم بالحياة.
  • طوبى لمن حرموه من الفردوس الأرضي، فيعزي نفسه بالفردوس السماوي.
  • طوبى لنسيب عريضه الذي عذّبته الحياة وخذلته واستمر يشدو!
  • طوبى لنسيب الذي سكن نفسه متصوفاً وأخذ يجلدها، وأرهقه اليأس فاستسلم للأرواح الحائرة حتى انهكته وقهرت عقلانيته وجمدتها وجلّدتها!

***

أيها الصديق الجليل … يا أخي ميشال… يا من نفخت الروح في عشرات الإبداعات التي كادت لولاك، تصبح رميماً، لماذا احرجتني بخيارك لي، وأنت تعرف أن بيني وبين فن القريض جفوة حاقد من القوافي والأوزان باعدت بيني وبين نظمه! ألِتحرجني فعلت ذلك؟ أم لتكشف عن إحدى عوراتي؟

كان من الأجدى لك أن تعهد إلى واحد من أبناء بجدتها وما أكثرهم، الذين يميزون بين الشعر والشعير أفضل مني، كما يحسنون الغناء أوبرالياً ونهيقاً ويدّعون عجن القوافي بخمير المعرفة البالغ الحموضة!

شكراً لك لأنك محضّتني ثقتك، وسأحاول أن أرقى إلى مستوى نواياك النظيفة وإبداعاتك ما استطعت، ولكن أخشى ما أخشاه أن انصاع أحياناً كعادتي، إلى الشيطان الخناس، فأقع في التجربة المرّة التي صدق فيها كلام المفكر الفرنسي بليز باسكال: “ان قول الحقيقة مفيد للذين تقال لهم أو عنهم ولكنه مضر بالذين يقولونها لأنهم يثيرون بها حفيظة الآخرين وبغضهم لهم”.

لقد لجأت بعد أن تبين لي أنني عاجز عن الولوج من باب النقد إلى عالم نسيب عريضه… ولا أملك المفاتيح أو أسرار الاقتحام الألكتروني أو الليزر، لأن أقفز من النافذة مقلداً لصوص الإبداع بعد أن تعلمت منهم أن لكل نص بابه ولكل باب مفتاحه. فلا تلوموني!

***

نسيب عريضه  قيّد شعره بمقاصد ومشاعر وأحاسيس لم يستطع… أو لم يحاول أن يحيد عنها فإذا به ينحت في الرخام تماثيل خرساء، وهنا عيبه، وينفخ في الزجاج المقوى بالنار قوارير ملأى بالتشبب والغزل شبه المزوّر الفاقد لسر الديمومة والحيوية والخلود.

لقد حكم نسيب عريضه على نفسه بأن يبقى معيار الغزل والتشبب والتحبب في شعره صقيعاً بارداً لا بل متجمداً ليس فيه دفء الأسرة الممرغة بعطر الزنى الإلهي ولا يسمو إلى حد الشبق والجنون وتخطي الفراديس عاليها وسافلها.

لقد تجاهل، عن قصد، أو عن إهمال، أو عن جهل، تفاصيل القدود والقامات الردينية والخصور المطواعة، والنهود اللدنة والعيون الملونة بالغواية، والسيقان العاجية، كأنها لا تعنيه ولا تسرق منه الطرف الخجول، وكأنها غائبة عن آصرة الوجدان المتفجرّ في القلب ولا تلامس وجع الأفئدة المجرّحة بشفار الأسنة والرماح… حتى الابتسامات الناعسة كانت تشيح عنها.

ولاحظت أن هذا النسيب الذي عانى من اليأس والكآبة، لم يتشيطن مع المرأة ولم يفسح لها في المجال كي تبادئه هي بالشيطنة ويتفادى أن تغوص إلى القعر إلى أعماق الأعماق، تفتش عن اللؤلؤ والمرجان، اما عن اكتفاء منقوص، واما عن خوف من الغرق… واما عن خجل من الفضيحة واما عن مبالاة واحتقار، واما عن عدم اقتناع!

ولاحظت أن نسيب ظل متماسكاً في كل قصائده، وظل باصرار منه، ذاك الوديع… المتواضع… المستكين… الراضي… المكتفي… المقتنع لا ذاك الباحث المنقب كما الآثاريين عن كنوز خبيئة  عند الكائن البشري أوفى دخائل الحياة ومكنوناتها… كان يرضى بما هو في متناول ناظريه ويديه… بينما يخفق وجدانه إلى أبعاد رهبانية الانصهار بتولية التنسك!

هذا السلوك لم يكن عيباً في شعر نسيب عريضه… وان كان حالة شبه بعيدة عن الضجيج والصراخ والجعير والتعقيد والبهلوانية تميزه بما يختزنه في شعر المناسبات من وفاء إلى كائنات تعيش في مدارها وفي سماواتها وتعيش فيه ذكرى كان يحرص أن يرفدها بطيب سريرته ومقاربته الدافئة الساعية بديبلوماسية فائقة الأداء إلى روابط اجتماعية بعيداً عن العنطزة والاستعلاء والتضخيم والاستكبار!

***

ودود نسيب عريضه في شعره ومثال للوفاء… لم يحاول ولا سعى أن يعدّل ما رسمه بوعيه من مباهج وأفراح، من شدو واشتياق! مقتنعاً بصبوته وصباه! وتحاشى التحولات النرجسية إلى يفرضها تعاقب الأزمن وتبدّل الأمكنة وتأجج الأحاسيس والنظام الشمسي بكل مجراته، سيان عنده المفترقات والتقاطعات والحداثة والعصرنة والموضة في المضمون وفي الشكل بعد أن تجاوز مراحل النضوج… وحاصره فشله في الحياة، لا بل كبلّه بأصفاد خليلية رخوة السكب والتشابيه والاستعارات أحياناً حالت بينه وبين التحليق كما النسر الحائر يتساءل أين موطنه في منحنى السفح أم في قمة القمم.

كان هاجسه أن يحمي مقتنياته الروحية والزمنية من الرجس والخمر التي تهزّ الكائن البشري فتزلزل تماسكه وتجرح مشاعره وبنيانه وتشقق فرادته.

***

قرأت ديوان “الأرواح الحائرة” بلهفة واستعدت قراءة بعض القصائد مرات كما قرأت المقدمات، بعضها ممتع، وبعضها مجوّف، وتبحرت بامعان مفرط بالتركيز في أوزانه وقوافيه وفضاء السريرة ومساحات الضوء فإذا بي أفاجأ بشعر اشبه بمرايا معتزة بشموخها وفرادتها ولا يضيرها أن تنساب رقراقة كمياه نبع اختارت أن تتفجّر حريتها من تحت جذع شجرة جوز في الجرد العالي لها طيب الجوز الأخضر، ومنافع الجوز اليابس، ونكهة الجوز المسحوق المطيّب لأشهى الحلويات.

***

لن أدخل في توصيف نسيب من خلال كل قصيدة وكل بيت شعر في كل قصيدة، كما لن أقطف من بساتينه وأحواضه أبياتاً قد تروق لي أكثر من شقيقاتها فلا انفع هذه ولا أسيء إلى تلك بحجة أن المجال لا يسمح ولا وقت للثرثرة.

صدقوني هذا طبع فيّ لا أحب التفرقة ولا التفريط بالأمانة، فالمواهب المختزنة في الكائن البشري هي من صنع إله معبود، ونسيب عريضه واحد من هؤلاء المختارين الذين خصهم الخالق بالفرادة سواء كان هذا الاله المعبود موجوداً في كل آن وزمان وكل ذرة من ذرات هذا الكون أم سئم من هذه المهمة فعهد بها إلى أحد معاونيه من الملائكة الذين تحولوا شياطين وخانوا الأمانة.

***

كنت أتوقع حين استلمت مجموعة “الأرواح الحائرة” التي تضم كل جناه أن تحترق أصابعي بجمرها، وهو ثالث ثلاثة بعد جبران والنعيمه أعلام “الرابطة القلمية” ولكن اعذروني إذا قلت أن ظني خاب وتبددت توقعاتي وان كل جهوده تقريباً وكل ولائه لم يخرج به عن التقليد المطيّب بالخجل وعلى هذا الأساس يحق لي الاستدراك لأرفع الصوت عالياً:

أين روح النضال والجهاد في شعرك يا نسيب؟

ولماذا ارتضيت أن تعيش مع شعرك في ظل كسل مخدر بخصال التنبلة، شعراً رومنطيقياً روحانياً مجنزراً  عفا عليه الزمن الأكول!

أين قلمك بموازاة سيفك؟

لماذا تخلفت عن أن تكون ضمير أمتك أيها المميّز عن استحقاق وجدارة بشعرك وشعورك؟ ألأنك كنت مقتنعاً فعلاً بأن النضال “حطبة” أو كفن؟

 

اترك رد

%d